hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (أحكام الميّت ـ القسم الثالث/الصلاة على الميّت والتشييع)

تاريخ الاعداد: 4/13/2024 تاريخ النشر: 4/18/2024
1080
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(11 ـ 4 ـ 2024م)

 

 

الفصل السادس

في الصلاة على الميّت

تجب الصلاة وجوباً كفائيّاً على كلّ ميّت مسلم([1])، ذكراً كان أم أنثى، حرّاً أم عبداً، مؤمناً أم مخالفاً، عادلاً أم فاسقاً([2])، ولا تجب على أطفال المسلمين إلا إذا بلغوا ست سنين([3])، وفي استحبابها على من لم يبلغ ذلك وقد تولّد حيّاً إشكال، والأحوط الإتيان بها برجاء المطلوبيّة. وكلّ من وجد ميتاً في بلاد الإسلام فهو مسلم ظاهراً([4])، وكذا لقيط دار الإسلام بل دار الكفر، إذا احتمل كونه مسلماً على الأحوط([5]).

مسألة 303: الأحوط في كيفيّتها أن يكبر أوّلاً، ويتشهّد الشهادتين، ثم يكبر ثانياً، ويصلّي على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ثم يكبر ثالثاً ويدعو للمؤمنين، ثم يكبر رابعاً ويدعو للميت، ثم يكبر خامساً وينصرف، والأحوط استحباباً الجمع بين الأدعية بعد كلّ تكبيرة([6]). ولا قراءة فيها ولا تسليم.

ويجب فيها أمور:

منها: النية على نحو ما تقدّم في الوضوء([7]).

ومنها: حضور الميّت فلا يصلّى على الغائب([8]).

ومنها: استقبال المصلّي القبلة([9]).

ومنها: أن يكون رأس الميت إلى جهة يمين المصلّي، ورجلاه إلى جهة يساره([10]).

ومنها: أن يكون مستلقياً على قفاه([11]).

ومنها: وقوف المصلّي خلفه محاذياً لبعضه([12])، إلا أن يكون مأموماً وقد استطال الصفّ حتى خرج عن المحاذاة.

ومنها: أن لا يكون المصلّي بعيداً عنه على نحو لا يصدق الوقوف عنده، إلا مع اتصال الصفوف في الصلاة جماعة.

ومنها: أن لا يكون بينهما حائل من ستر أو جدار([13])، ولا يضرّ الستر بمثل التابوت ونحوه.

ومنها: أن يكون المصلّي قائماً([14])، فلا تصحّ صلاة غير القائم، إلا مع عدم التمكّن من صلاة القائم.

ومنها: الموالاة بين التكبيرات والأدعية([15]).

ومنها: أن تكون الصلاة بعد التغسيل، والتحنيط، والتكفين([16])، وقبل الدفن([17]).

ومنها: أن يكون الميّت مستور العورة ولو بنحو الحجر واللبن إن تعذّر الكفن([18]).

ومنها: إباحة مكان المصلي على الأحوط الأولى.

ومنها: إذن الولي على الأحوط([19])، إلا إذا أوصى الميت بأن يصلّي عليه شخص معيّن فلم يأذن له الولي وأذن لغيره فلا يحتاج إلى الإذن.

مسألة 304: لا يعتبر في الصلاة على الميت الطهارة من الحدث والخبث، وإباحة اللباس، وستر العورة، وإن كان الأحوط اعتبار جميع شرائط الصلاة، بل لا يترك الاحتياط وجوباً([20]) بترك الكلام في أثنائها والضحك والالتفات عن القبلة.

مسألة 305: إذا شكّ في أنّه صلّى على الجنازة أم لا، بنى على‌ العدم، وإذا صلّى وشكّ في صحّة الصلاة وفسادها بنى على الصحّة، وإذا علم ببطلانها وجبت إعادتها على الوجه الصحيح، وكذا لو أدّى اجتهاده أو تقليده إلى بطلانها([21]).

مسألة 306: يجوز تكرار الصلاة على الميّت الواحد، لكنّه مكروه([22])، إلا إذا كان الميّت من أهل الشرف في الدين.

مسألة 307: لو دفن الميت بلا صلاةٍ صحيحة، صلّي على قبره([23]) ما لم يتلاشَ بدنه.

مسألة 308: يستحبّ أن يقف الإمام والمنفرد عند وسط الرجل، وعند صدر المرأة([24]).

مسألة 309: إذا اجتمعت جنائز متعدّدة جاز تشريكها بصلاةٍ واحدة، فتوضع الجميع أمام المصلي مع المحاذاة بينها، والأولى([25]) مع اجتماع الرجل والمرأة، أن يجعل الرجل أقرب إلى المصلّي، ويجعل صدرها محاذياً لوسط الرجل، ويجوز جعل الجنائز صفاً واحداً، فيجعل رأس كلّ واحد عند ألية الآخر، شبه الدرج ويقف المصلّي وسط الصف ويراعي في الدعاء بعد التكبير الرابع، تثنية الضمير، وجمعه.

مسألة 310: يستحبّ في صلاة الميّت الجماعة([26])، ويعتبر في الإمام أن يكون جامعاً لشرائط الإمامة، من البلوغ، والعقل، والإيمان([27])، بل يعتبر فيه العدالة أيضاً على الأحوط استحباباً، بل الأحوط ـ وجوباً([28]) ـ اعتبار شرائط الجماعة من انتفاء البعد، والحائل، وأن لا يكون موقف الإمام أعلى من موقف المأموم، وغير ذلك.

مسألة 311: إذا حضر شخص في أثناء صلاة الإمام، كبّر مع الإمام، وجعله أوّل صلاته وتشهّد الشهادتين بعده، وهكذا يكبر مع الإمام ويأتي بما هو وظيفة نفسه، فإذا فرغ الإمام أتى ببقيّة التكبير بلا دعاء، وإن كان الدعاء أحوط([29]).

مسألة 312: لو صلّى الصبيّ على الميت، لم تجزِ صلاته عن صلاة البالغين، وإن كانت صلاته صحيحة([30]).

مسألة 313: إذا كان الوليّ للميّت امرأة، جاز لها مباشرة الصلاة والإذن لغيرها، ذكراً كان أم أنثى.

مسألة 314: لا يتحمّل الإمام في صلاة الميت شيئاً عن المأموم.

مسألة 315: قد ذكروا للصلاة على الميّت آداباً:

منها: أن يكون المصلّي على طهارة، ويجوز التيمّم مع وجدان الماء إذا خاف فوت الصلاة إن توضأ، أو اغتسل([31]).

ومنها: رفع اليدين عند التكبير([32]).

ومنها: أن يرفع الإمام صوته بالتكبير والأدعية([33]).

ومنها: اختيار المواضع التي يكثر فيها الاجتماع([34]).

ومنها: أن تكون الصلاة بالجماعة([35]).

ومنها: أن يقف المأموم خلف الإمام([36]).

ومنها: الاجتهاد في الدعاء للميّت وللمؤمنين([37]).

ومنها: أن يقول قبل الصلاة: الصلاة، ثلاث مرّات([38]).

مسألة 316: أقلّ ما يجزئ من الصلاة أن يقول المصلّي: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمّداً رسول الله (ص)، ثم يقول: الله أكبر اللهم صلّ على محمد وآل محمد، ثم يقول: الله أكبر اللهم اغفر للمؤمنين، ثم يقول: الله أكبر اللهم اغفر لهذا، ويشير إلى الميت، ثمّ يقول: الله أكبر([39]).

 

الفصل السابع

في التشييع

يستحبّ إعلام المؤمنين بموت المؤمن ليشيّعوه([40])، ويستحبّ لهم تشييعه، وقد ورد في فضله أخبار كثيرة، ففي بعضها من تبع جنازة أعطي يوم القيامة أربع شفاعات. ولم يقل شيئاً إلا وقال الملك: ولك مثل ذلك، وفي بعضها أنّ أوّل ما يتحف به المؤمن في قبره، أن يغفر لمن تبع جنازته.

وله آداب كثيرة مذكورة في الكتب المبسوطة، مثل أن يكون المشيّع ماشياً خلف الجنازة، خاشعاً متفكّراً، حاملاً للجنازة على الكتف، قائلاً حين الحمل: بسم الله وبالله وصلّى الله على محمّد وآل محمد، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.

ويكره الضحك واللعب واللهو، والإسراع في المشي، وأن يقول: ارفقوا به، واستغفروا له، والركوب والمشي قدّام الجنازة، والكلام بغير ذكر الله تعالى والدعاء والاستغفار، ويكره وضع الرداء من غير صاحب المصيبة، فإنه يستحب له ذلك، وأن يمشي حافياً([41]).

____________________________

([1]) أمّا غير المسلم فلا تجب الصلاة عليه، بل تكون محرّمة من باب التشريع لا ذاتاً، بصرف النظر عن موضوع الاستغفار للمشرك.

([2]) مقتولاً في المعركة أم لا، خلافاً لخبر مسعدة بن صدقة الدالّ على عدم صلاة الإمام علي على عمّار بن ياسر، والذي هو خبرٌ شاذّ في بابه.

([3]) بل ما بين الستّ سنوات والبلوغ، يكون وجوب إقامة صلاة الميت عليه احتياطيّاً، كما أنّ مقتضى الاحتياط هو أنّ الطفل إذا عقل الصلاة صُلّي عليه ولو لم يبلغ الستّ سنوات؛ لأنّ الستّ أمارة العقل.

([4]) هذا في حال كون ذلك موجباً لقوّة الظن الوثوقي بكونه مسلماً، فاحتماليّة كونه غير مسلم ضعيفة، فالعلاقة تقع بين احتماليّة كونه مسلماً ومكان العثور عليه، لا بين مكان العثور عليه والحكم بإسلامه ظاهراً وتعبّداً.

([5]) استحباباً، وإلا فالعبرة بالمعيار المتقدّم فيمن وجد ميتاً في ديار الإسلام.

([6]) أصل وجوب خمس تكبيرات مع الدعاء والذكر أربعاً بينها واضحٌ، أمّا تعيين الأدعية والأذكار بالترتيب الذي قاله الماتن فلم يثبت، بل الأرجح أنّ المكلّف يدعو بما يشاء ويذكر الله، وإن كان ما ذكره في المتن هو الأحوط استحباباً، وبخاصّة ذكر الشهادتين بعد التكبيرة الأولى والثانية.

([7]) النيّة هنا بالنحو الذي ذكره الماتن في الوضوء صحيحة، وإن كنّا في الطهارات الثلاث نفسها لم نقل بشرط النيّة، لكنّ شرط النيّة هنا صحيح.

([8]) بمعنى أنّه لم تثبت صلاة الميّت على الغائب، بل الثابت في مورده مطلق الدعاء.

([9]) على الأحوط استحباباً.

([10]) على الأحوط استحباباً.

([11]) على الأحوط استحباباً.

([12]) على الأحوط استحباباً، وإلا فيكفي مطلق صدق عنوان أنّه يصلّي عليه وكلاهما ـ الميّت والمصلّي ـ في مكان واحد.

([13]) على الأحوط استحباباً، إلا إذا استلزم من مثل الجدار عدم صدق كونه في مكان الصلاة على الميّت بل في مكان آخر.

([14]) على الأحوط استحباباً.

([15]) بحيث يصدق عنوان الصلاة عليه بوصفها فعلاً واحداً، وإلا فمطلق الموالاة ليس بشرط.

([16]) على الأحوط استحباباً.

([17]) على الأحوط وجوباً.

([18]) على الأحوط استحباباً. نعم لا يجوز النظر إلى عورته، كما أنّه إذا لزم الهتك فالحرمة واضحة أيضاً.

([19]) استحباباً، وقد تقدّم الحديث عن موضوع الولي في باب تجهيز الميت.

([20]) بل استحباباً. وممّا تقدّم يعلم أنّ بعض ما ذكره بعضٌ من الشروط ليس بشرط مثل: أن يصلّي المصلّي عن استقرار، بحيث لا يضطرب حال الصلاة اضطراباً منافياً للقيام، وأن تكون الأذكار الواجبة في صلاة الميّت باللغة العربيّة، وذكورة المصلّي على الميّت (خارج سياق الجماعة).

([21]) إذا لم يكن اجتهاده أو تقليده عن حجّةٍ شرعيّة، وإلا أجزأ كما ذكرناه في مباحث الاجتهاد والتقليد سابقاً.

([22]) إثبات الكراهة بعنوانها مشكل، بل مقتضى الصناعة القول بعدم مشروعيّة تكرار صلاة الجنازة بعنوانها تشريعاً، بلا فرق بين من صلّى عليها سابقاً أو لم يصلِّ، وبلا فرق بين الإمام وغيره، ويستثنى من ذلك أهل الفضل والمكانة في الدين فإنّه يمكن إقامة صلوات الجنازة عليهم مطلقاً، بل هو مستحبّ وراجح.

([23]) إثبات مشروعيّة الصلاة بعد الدفن ـ فضلاً عن الوجوب ـ في غاية الإشكال، كما أنّ إثبات حرمة الصلاة بعد الدفن هو الآخر مشكل، فالأقرب في هذا المورد عدم جواز الصلاة عليه تشريعاً، مع إمكان الإتيان بها برجاء المطلوبيّة، وإمكان عدم الإتيان بها. هذا ولا شكّ في أنّه لا يجب نبش القبر للصلاة عليه صلاةً صحيحة، وكذا الحال لو دفن بلا صلاة أصلاً.

([24]) لم يثبت هذا الاستحباب، والرواية به قليلة جداً بل ضعيفة إسناداً، بل في واحدة منها رجل مضعّف متهم بالوضع.

([25]) بل الأحوط وجوباً كون الرجال أوّلاً مما يلي المصلّي، ثمّ يكون النساء بعد ذلك.

([26]) لا شكّ في مشروعيّتها بمعنى الاجتماع على الصلاة مع تقدّم أحد المصلّين، أمّا الاستحباب بعنوانه ففيه تأمّل.

([27]) أمّا العقل فاشتراطه في محلّه، وأمّا البلوغ والانتماء المذهبي الخاصّ فلم يثبتا، فلو صلّى المميّز غير البالغ صلاةً صحيحة كفى.

([28]) بل استحباباً، إلا فيما هو شرط في تعنون الصلاة بأنّها جماعة، بحيث لولاه لم يصدق عرفاً هذا العنوان، كما لو كان الناس متباعدين جداً غير مجتمعين في مكان واحد.

([29]) بل هو الأقوى في المقدار الواجب منه، والدالُّ على التخفيف خبر آحادي.

([30]) بل الأقوى الإجزاء مع صحّتها.

([31]) كون المصلّي على طهارة في مثل هذه المواضع أمرٌ مستحبّ بالعنوان العام، وأمّا بالعنوان الخاصّ فلم يثبت؛ لكون مستنده آحاديّاً. وسوف يأتي في باب التيمّم في المسألة رقم: 356، ما له صلة.

([32]) استحباب رفع اليدين في تكبيرة واحدة على الأقلّ، ولا سيما الأولى، ثابت، أمّا غير ذلك فهو الأحوط استحباباً.

([33]) لم يثبت فيه استحبابٌ شرعي بعنوانه.

([34]) لم يثبت فيه استحباب شرعي بعنوانه

([35]) قد تقدّم التأمّل في ذلك.

([36]) لم يثبت فيه استحباب شرعي بعنوانه.

([37]) هو ثابت بالعنوان العام وتعزّزه نصوص كيفيّات صلاة الجنائز وأدعيتها.

([38]) لم يثبت فيه استحبابٌ شرعي بعنوانه.

([39]) قد تقدّم عدم وجود كيفية خاصّة فيمكن بما هو أقلّ من هذا المقدار الذي ذكره الماتن، كأنّ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسوله مثلاً، وهكذا.

([40]) لم يثبت فيه استحبابٌ شرعي بعنوانه، ولو ثبت فهو غير خاصّ بالشيعي الاثني عشري، بل يشمل مطلق المسلم.

([41]) لم يثبت شيءٌ من هذه المستحبّات والمكروهات جميعها عدا أصل التشييع والمشي خلف الجنازة، وكراهة المشي قدّامها. وهناك مستحبّات أخرى لم تثبت أيضاً بعنوانها، مثل: أن يقول المشيّع ـ بل مطلق من يرى الجنازة ـ: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، الله أكبر، هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، اللّهم زدنا إيماناً وتسليماً، الحمد لله الذي تعزّز بالقدرة وقهر العباد بالموت»، وأن يقول: «الحمد لله الذي لم يجعلني من السواد المخترم».وإلقاء ثوب غير مزيّن على الجنازة، وأن يكون حاملو الجنازة أربعة أشخاص، واتخاذ النعش للميّت. كما أنّ هناك بعض المكروهات الأخرى التي لم تثبت وهي: مشاركة النساء في تشييع الجنازة، والقيام عند مرور الجنازة. وبعضُ فقهاء أهل السنّة اعتبر القيام مستحبّاً. نعم بعض هذه الأمور المذكورة في المتن وفي التعليقة ثابت الاستحباب أو الكراهة بالعنوان العام وفي نفسه، ويقتضيه الاعتبار، أمّا الاستحباب الخاصّ الشرعي فلم يثبت وكذا المكروهات. غير أنّ مجموع نصوص آداب التشييع يفهم منها بضمّ بعضها إلى بعض، وضمّ المجموع إلى النصوص الأخرى في باب التعامل مع الميّت عموماً، وكذلك نصوص التوجيهات الأخلاقيّة العامّة:

أوّلاً: حُسن الوقار والجديّة أثناء التشييع.

ثانياً: حسن الربط بين التشييع والاستذكار والاعتبار وأمثال ذلك.

ثالثاً: حسن احترام الميّت وستره والتعامل برفق معه.

فهذه العناوين الثلاثة يمكن تحصيلها، أمّا تطبيقها فهو يختلف من زمنٍ لآخر ومن عرفٍ لآخر، وليس هناك صيغة محدّدة ثابتة تعبّر عنها ـ حصراً ـ المستحباتُ والمكروهات الواردة أعلاه، والعلم عند الله.

ولا بأس هنا بالإشارة إلى أمرين أيضاً:

الأمر الأوّل: إنّه يتعارف في العديد من بلاد المسلمين أن يقيم الناس مجالس تقبّل التعازي كمجالس الفاتحة أو العزاء أو يتلاقى أقرباء الميّت عند قبره، بعد مرور أسبوع على وفاة الميّت، وأحياناً بعد ثمانية أيّام أو عشرة أيّام، وكذلك بعد مرور أربعين يوماً، وكذلك ـ وبخاصّة في الشخصيّات المعروفة اجتماعيّاً و.. ـ في الذكرى السنويّة لوفاته، تعبيراً عن الحزن والعزاء و.. ويتصوّر بعض الناس أنّ هذا الأمر نابعٌ من توجيهٍ ديني واستحباب شرعي خاصّ. إلا أنّ الصحيح أنّه لم يثبت استحباب خاصّ لإقامة مجالس التعزية أو تقبّل التعازي كمجالس الفاتحة أو العزاء عن روح الميّت بعد أسبوع أو أربعين يوماً أو سنة أو غير ذلك، وليس في النصوص ما يفيد ذلك ممّا يمكن الاعتماد عليه، بل الوارد في بعض الروايات عند الفريقين أنّ الحدّ الأعلى للحداد هو ثلاثة أيّام لا يُزاد عليها، وأنّ الحداد لا يتخطّى هذا إلا في المرأة التي توفّي زوجها، فمدّدت لها الشريعة فترة الحداد أربعة أشهر وعشراً، لا كما تفعل بعض نساء المسلمين اليوم من إبراز مظاهر الحداد ولبس السواد على أزواجهنّ أو آبائهنّ أو إخوانهنّ أو.. لمدّة سنة وأكثر، فهذا لم يثبت وجود توجيه ديني خاصّ فيه أيضاً.

وعليه، فهذه المناسبات العزائيّة (أسبوع، أربعين..) هي مناسبات عرفيّة، وربما أخذها الناس من أعراف مناطقهم أو من موروثات سابقة، فقد كانت عادة الأربعين موجودة عند الفراعنة كما قيل، وهذا يعني أنّه لو أُريد القيام بها فيلزم أن لا يؤتى بها بقصد الورود، كما يلزم أن لا يتمّ تلقّيها عند العرف أمراً دينيّاً. ومن الضروري توضيح أنّنا نتكلّم عن المناسبات العزائيّة بما لكلمة "العزائيّة" من معنى، أمّا لو أحبّ شخص أن يتصدّق عن روح قريبٍ له مثلاً أو يُطعم الطعام لذلك أو يقرأ له آياتٍ من الكتاب أو يصلّي له ركعتين أو غير ذلك، فهذا أمرٌ راجع له، ولا زمان محدّداً له في الشرع.

أمّا استدلال بعض العلماء هنا ـ وهو السيّد جعفر مرتضى العاملي في كتابه "مختصر مفيد" ـ بالروايات التي تتكلّم أنّ الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً، وأنّ آدم بكى على هابيل أربعين ليلة، أو أنّ الإمام الرضا أمر برشّ قبر يونس بن يعقوب أربعين شهراً، أو أنّ المؤمن يُفتن في قبره سبعة أيّام، أو أنّ الإمام الصادق ناح سنةً على بنتٍ له ماتت وناح سنةً على ابن له مات وغير ذلك.. هذا الاستدلال غير مقنع؛ فإن قُصد منه تبيين محض الجواز مقابل الحرمة، فهذا ثابت، وإن كانت أكثر هذه النصوص لا علاقة لها به، وإن قُصد منه تبيين توجيه ديني واستحباب شرعي كما يُستوحى أيضاً من عبارته رحمه الله، فمضافاً لضعف عمدة هذه الروايات سنداً، لا دلالة فيها على شيء هنا بعنوانه، فإذا كان المؤمن يُفتن في قبره سبعة أيّام فهل هذا يُستنبطُ منه شرعاً استحباب إقامة مجلس عزاء أو الفاتحة عن روحه وتقبّل التعازي بعد مرور أسبوع؟! وإذا كان الإمام الصادق قد ناح على ولده سنةً، فهل هذا يفيد استحباب إقامة الذكرى السنويّة لأمواتنا؟! وبإمكانك قياس ما قلناه على سائر الروايات، ولا حاجة للإطالة هنا. واللافت أنّ السيد العاملي لم يُشر إلى روايات حصر الحداد والعزاء بثلاثة أيّام، ولعلّه يقصد هنا أنّ هذه المجالس ليست للتعزية أصلاً، بل لذكر الحسين أو لقراءة القرآن! مع أنّ هذا مخالف لما عليه الناس، وبخاصّة في الذكرى الأسبوعيّة والأربعينيّة، فإنّ مظاهر الحداد تكون أيضاً باديةً عليهم، والمقام مقام تقبّل التعازي بفقيدهم وغير ذلك.

الأمر الثاني: قراءة الفاتحة على أرواح الأموات، حيث يتعارف بين المسلمين قراءة سورة الفاتحة على الأموات، سواء عند زيارة قبورهم أم حال التعزية أم في غير ذلك، وسواء عند الدفن أم بعده. وقد ذكر السيّد اليزدي في (العروة الوثقى 2: 125) عند الحديث عن زيارة القبور ما نصّه: «ويستحبّ للزائر أن يضع يده على القبر وأن يكون مستقبلاً، وأن يقرأ إنّا أنزلناه سبع مرّات، ويستحبّ أيضاً قراءة الحمد والمعوذتين وآية الكرسي كلّ منها ثلاث مرّات». والوارد في جملة من النصوص الترغيب في قراءة القرآن وإهداء ثواب هذه القراءة إلى الميّت، كما ورد ذكر قراءة سورة الفاتحة سبعين مرّة على المريض وما لها من آثار في الشفاء، وفي بعض كلمات الفقهاء المتأخّرين ما يشير إلى إمضائهم هذه العادة الجارية في خصوص قراءة الفاتحة على الأموات.

لكنّ الأقرب أنّه لم يثبت استحباب خاصّ لقراءة سورة الفاتحة بعنوانها على الأموات، فقراءة سورة الفاتحة وإهداء ثواب ذلك للأموات جائز، بل وردت فيه النصوص العامّة المرغّبة، بعنوان كونه قراءة قرآن، وإلا فقراءة الفاتحة بعنوان أنّ قراءتها بنفسها وخصوصها أمرٌ مستحبّ، لا بمطلق عنوان القرآنيّة، لا دليل عليه، فلا يصحّ، فمن أراد أن يقرأ الفاتحة للميت فعليه أن يقرأها بعنوان كونها قرآناً، لا بعنوان أنّ الفاتحة بخصوصها وبعنوانها يستحبّ قراءتها للأموات. ولعلّ تداول ذلك بين الناس كان منطلقاً من عظيم ثواب هذه السورة وخصوصيّاتها ومحتوياتها، فأريد قراءتها وإهداء هذا الثواب العظيم للميّت، كما ولعلّ يُسر حفظها من قبل غالبية الناس ساعد على شيوع ذلك أيضاً، وإلا فليس فيها استحباب خاصّ بها. وليس هناك نصّ ثابت معتدّ به يفيد استحباباً خاصّاً لقراءة الفاتحة للأموات، نعم، ورد في خبر محمّد بن عجلان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «سلّه سلاً رفيقاً، فإذا وضعته في لحده فليكن أولى الناس مما يلي رأسه، ليذكر اسم الله [عليه] ويصلّي على النبي صلى الله عليه وآله، ويتعوّذ من الشيطان، وليقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد وآية الكرسي، وإن قدر أن يحسر عن خدّه ويلزقه بالأرض فعل، ويشهد ويذكر ما يعلم حتى ينتهي إلى صاحبه» (الكافي 3: 195؛ وتهذيب الأحكام 1: 317). ولكنّ هذا الحديث ـ لو تجاوزنا مشكلته السنديّة، على أنّه خبر آحادي ـ خاصّ بحال الدفن ولا علاقة له بسائر الحالات، فهو من مندوبات دفن الميّت، لا من مندوبات ذكره أو زيارة قبره، وفرقٌ بينهما.

وثمّة حديث آخر نقله ابن قولويه في كتاب (كامل الزيارات: 533)، قال: «وجدت في بعض الكتب: محمّد بن سنان، عن المفضل (الفضيل)، قال: قال: من قرأ: (إنّا أنزلناه) عند قبر مؤمن سبع مرات بعث الله إليه ملكاً يعبد الله عند قبره، ويكتب له وللميت ثواب ما يعمل ذلك الملك، فإذا بعثه الله من قبره لم يمرّ على هول إلا صرفه الله عنه بذلك الملك الموكّل حتى يدخله الله به الجنّة، وتقرأ بعد الحمد (إنّا أنزلناه) سبعاً، والمعوذتين، وقل هو الله أحد، وآية الكرسي ثلاثاً ثلاثاً». وفي الهامش رقم 2، من الصفحة نفسها ذكر أنّ في إحدى النسخ جاء: «ويقرأ مع إنّا أنزلنا سورة الحمد والمعوذتين وقل هو الله أحد وآية الكرسي ثلاث مرّات كلّ سورة، وإنّا أنزلناه سبع مرات». ونفس هذا الحديث نقله السيد ابن طاووس في كتاب (مصباح الزائر: 512 ـ 513). لكنّ هذا الحديث لا يُحرز أساساً كونه رواية عن نبي أو إمام؛ إذ لا ينسبه الراوي (الفضيل أو المفضّل) إلى إمام أو نبيّ، وفي مثله لا تجري حتى قاعدة التسامح، ولا نقول بها، إلا إذا قيل بأنّه لا يحتمل إلا أنّه رواية، وإثباته صعب جدّاً، بل لو كان رواية فهي ضعيفة السند لكونها وجادة وعدم معرفة الطريق إلى المصدر، فضلاً عن وجود محمّد بن سنان في السند.