hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (مقدّماتٌ في آراء منهجيّة في الاجتهاد الشرعي)

تاريخ الاعداد: 4/20/2024 تاريخ النشر: 4/20/2024
2450
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(19 ـ 4 ـ 2024م)



تمهيد

أرى من المناسب أن نجعل مقدّمة منهجيّة مرتبطة بهذه التعليقة المتواضعة على "منهاج الصالحين"، تختصر بعضاً من أبرز آرائي في موضوعات أصوليّة وحديثيّة وقرآنيّة ورجاليّة ومنهجيّة على صلة بالاجتهاد الشرعي، وقد كنت سابقاً قد نشرت، بين عامي 2021 ـ 2023م، خلاصةَ هذه الآراء المنهجيّة بعينها على موقعي الالكتروني ضمن قسم "آراء"، فارتأيت جمعها لتكون مقدّمةً لهذه التعليقة، وأعتقد بأنّها سوف توضح للمهتمّين السبب في التمايز الكبير بين الآراء الفقهيّة السائدة والنتائج التي توصّلت إليها هذه التعليقة. وقد ساعدني في جمع هذه المقدّمة وترتيبها الأخ العزيز صاحب الفضيلة الشيخ سعيد نورا، جزاه الله خيراً.

 

حيدر محمّد كامل حبّ الله

10 ـ 10 ـ 1445هـ

19 ـ 4 ـ 2024م

 


 


مدخل

1 ـ افتتاح قسم (آراء)

اقترَحَ عليَّ بعضُ الأصدقاء والمتابعين فتحَ قسمٍ في الموقع الالكتروني الشخصي، يخصَّص لذكر عُصارة النتائج الفقهيّة وغيرها، والتي توصّلتُ إليها في أبحاثي وكتبي أو في محاضراتي ودروسي، سواء منها جميعاً المنشور وغير المنشور حتى الآن. وقد اعتبر هؤلاء أنّ أغلب الناس ربما لا يكون لديهم الفسحة أو المكنة الكافية لمراجعة كتب مطوّلة أو بحوث موسّعة في موضوعات مختلفة حتى يستوضحوا الرأي النهائي فيها، الأمر الذي يجعل من المفيد جعلهم مطّلعين على النتائج البحثيّة التي توصّلتُ إليها بشكل مختصر للغاية في بضعة أسطر قليلة.

وقد رأيتُ أنّ هذه الفكرة جيّدة، خاصّة وأنّ سعة البحوث ونوعيّة الموضوعات ـ بما فيها الأجوبة المطوّلة في العادة ضمن كتاب (إضاءات) ـ جعل بعضهم يتصوّر أنّ العديد من الموضوعات لم أبدِ رأيي فيها.

انطلاقاً من ذلك، ارتأيتُ تخصيص قسم في الموقع الالكتروني تحت عنوان: (آراء)، أكتب فيه النتائج التي توصّلت إليها في هذا الموضوع أو ذاك بشكلٍ موجزٍ ومختصر جدّاً.

آمل أن تكون هذه الخطوة مساعدة في التبادل المعرفي والثقافي، ومن الله نستمدّ العون وهو وليّ التوفيق.

 


2 ـ قسم (آراء) توضيحات وتعليقات

بدايةً، أشكر الله تعالى على التفاعل الطيّب الذي حصل عقب افتتاح قسم (آراء) في الموقع الشخصي الالكتروني، لكن أودّ هنا ذكر بعض التوضيحات والتعليقات:

1 ـ منذ افتتاح قسم (آراء) تتالت عليّ مجموعة من الأسئلة الفقهيّة، وأحبّ هنا تذكير المتابعين والمحبّين أنّ قسم (آراء) ـ كما اتضح من المنشور الأوّل المرتبط به ـ ليس صفحة استفتاءات، ولم أذكر آرائي فيه بقصد عمل الآخرين بها، بل هي صفحة خلاصات بحثيّة بهدف توضيح أفكاري، وبيان رأيي النهائي في المسألة، ورفع بعض الالتباسات، وتسهيل وصول الآخرين إلى قناعاتي بعد سلسلة طويلة من الاعتراضات التي ترى أنّ الكتبَ والبحوث مطوّلةٌ، وأنّ القارئ بحاجة لخلاصات مكثفة، أو أنّ فلاناً لا يُعطي رأيه بصراحة، فاضطررت للكشف عن آرائي التي هي موجودة أصلاً في الكتب والمقالات والبحوث المنشورة لي من قَبل.

من هنا، فهذه الصفحة هي مجرّد صفحة تعكس الآراء ونتائج البحوث، ويحقّ لأيّ إنسان نشر نتائج بحوثه، وفي الوقت عينه يحقّ للآخرين الترحيب أو الانتقاد المبنيان على مراجعة البحوث نفسها دون استعجال في القبول أو الردّ.

2 ـ تمّت ملاحظة ظاهرة تبدو لي غير صحيّة أتت عقب نشر بعض آرائي المخالفة للمشهور، وهي ظاهرة الحماس الذي انتاب بعض المحبّين والمتابعين، فأخذوا بتوجيه سهام النقد للآراء المشهورة في الفقه والاستخفاف بها والتقليل من شأنها.

إنّ ما أودّ التركيز عليه هو أنّ مدرسة العقل والإيمان التي ننتمي جميعاً إليها تدعونا لتقديم الأنموذج الأخلاقي الأفضل في سلوكنا تجاه الآراء الأخرى، لنكون مثالاً في التعدّدية والانفتاح، فكما يمكن أن تكون آراء المشهور غير مصيبة للواقع، كذلك يمكن أن تكون الآراء المخالفة للمشهور هي الخاطئة. وعلينا جميعاً التأكيد والعمل على احترام جميع الآراء وعدم جعل بعض المنطلقات غير الصحيحة أساساً في تعاملنا مع القضايا البحثيّة والعلميّة. فليس كلّ جديد حقّاً لمجرّد أنّه جديد، ولا كلّ قديم باطلاً لمجرّد أنّه قديم، والعكس صحيح تماماً؛ فليس كلّ قديم أو مشهور يجب أن يكون حقّاً لأنّه قديم أو مشهور، ولا كلّ جديد أو مخالف للمشهور يجب أن يكون باطلاً لمجرّد أنّه جديد أو مخالف للمشهور.

هذا ولكلّ المحبّين والمتابعين منّي كلَّ الودّ والحبّ والاحترام والتقدير والشكر.

نسأل الله لنا جميعاً الهداية والتوفيق والرشاد والعمل الصالح، فهو الهادي إلى سواء السبيل.


 


 

 

الفصل الأوّل

آراء في أصول الفقه الإسلامي

1 ـ الموقف من قانون "تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الراجعة للعباد"

تُعتبر مسألة علاقة التشريعات الدينيّة بالمصالح والمفاسد الراجعة للعباد أنفسهم، من قضايا علم الكلام وأصول الفقه الإسلامي معاً، وقد ساهم في الحديث عنها الفلاسفةُ وغيرهم أيضاً. وقد ظهر اتجاهان أساسيّان في التراث الإسلامي هنا:

1 ـ اتجاه تبعيّة الأحكام جميعاً للمصالح والمفاسد الراجعة على العباد في الدنيا، وهو ما مال إليه الكثير من الفلاسفة والمعتزلة والإماميّة وغيرهم.

2 ـ اتجاه فكّ الارتباط بين التشريع الديني والمصلحة بهذا المعنى، فقد لا يكون خلف التشريع أيّ مصلحة راجعة للعباد سوى مصلحة الطاعة الناتج عنها الثواب الأخروي.

وثمّة نقاش طويل في تعريف المصلحة وحدودها هنا، وفي أدلّة ومعطيات الفريقين المختلفَين معاً، وثمّة خلط وإبهام في غير زاوية من زوايا هذا الموضوع عند مراجعة العديد من كتب التراث.

والذي توصلتُ إليه نتيجة مقاربات عقليّة وعقلانية ونصيّة أنّ أغلب التشريعات الدينيّة ترجع لمصالح على العباد أنفسهم في الدنيا، غير مصلحة الثواب الأخروي على الطاعة، بصرف النظر عن كون المصلحة المشار إليها كامنةً في المتعلّقات أو غير ذلك، غير أنّه من الصعب إثبات أنّ كلّ التشريعات قاطبةً تقف خلفها مصالح من هذا النوع، فلا يمكننا في دائرة الأقليّة إثبات ذلك ولا نفيه، وعلى سبيل المثال فقد تكون مصالح بعض التشريعات راجعةً لغير الإنسان ـ مثل الحيوانات ـ وقد لا تكون هناك مصلحة سوى مصلحة الطاعة والعبوديّة، والعلم عند الله([1]).

 


2 ـ الموقف من شمول الشريعة ومساحة الفقه الإسلامي

المعروف بين علماء المسلمين ـ إلا القليل جدّاً منهم ـ أنّ الشريعة الإسلاميّة جاءت لتغطّي مختلف جوانب الحياة، فكلّ أمرٍ صغيرٍ أو كبير في حياة الإنسان فإنّ للشريعة فيه حكماً، وهذا ما يتعارف عليه بقاعدة نفي الخلوّ، والتي تقول: «لا تخلو واقعةٌ من حكم». وعلى هذا الأساس فكلّ الوقائع القديمة والجديدة، السابقة والمستجدّة.. للشريعة فيها موقفٌ من تحريم أو وجوب أو ترخيص أو غير ذلك.

ووفقاً لهذه الفرضيّة المسبقة فإنّ الفقيه يُفترض أن يشتغل على استنباط حكمِ كلّ واقعة، فإذا صار هناك أمرٌ مستجدّ مثل السفر إلى القمر، فإنّ الفقيه مطالَب بالبحث عن الأدلّة بهدف تحديد الصلاة وشروطها وكيفيّاتها واستقبال القبلة هناك، وتقديم أجوبة على هذه الاستفتاءات، وهكذا الحديث عن الاستنساخ فإنّ الفقيه يبحث في مقتضيات الأدلّة في تحديد الموقف منه ومن ملحقاته وتوابعه مثل الإلحاق النسبي وغير ذلك. وكذلك الحديث عن اللحم المصنَّع فإنّ الفقيه يبحث عن جواز أكله من حيث عدم وجود ذبح شرعي أصلاً فيه؛ حيث لا يوجد حيوان أساساً، وأنّه أيضاً ملحقٌ بعنوان الحيوان الذي تمّ تصنيعه منه أو على شاكلته أو لا؟ وهكذا إلى ما شاء الله من قضايا البيئة والتنظيم المدني وشكل الدولة وفقه الفضاء و..

ويعتمد الفقهاء هنا في استنباط الأحكام تارةً على عمومات ومطلقات النصوص باعتبار العموم والإطلاق طاقةً دلاليّة قادرة على التغطية، وأخرى على مقتضيات الأصول العمليّة من البراءة والاحتياط والاستصحاب وغير ذلك، وثالثة على قواعد وآليات مختلفة لا داعي للإطالة بالحديث عنها هنا.

وبدخول العصر الحديث، تنبّه بعضُ الفقهاء إلى سعة الوقائع والتحوّلات والمستجدّات، فمنحوا ـ منذ عصر الميرزا النائيني وإلى اليوم ـ سلطةً للفقيه أو لوليّ الأمر أو للمجالس التشريعيّة في سنّ القوانين والتشريعات المتناسبة مع المصالح العامّة، وظهر ما صار يُعرف بمنطقة الفراغ، غير أنّ هذا الفريق من العلماء لم يصرّح بوضوح بعدم اعتقاده بشمول الشريعة، بل على العكس أحياناً حيث اعتبر بعضهم أنّ منطقة الفراغ ودور وليّ الأمر فيها لا يعبّر عن نقص في التشريعات الدينيّة، بل عن شموليّة وكمال، ولهم في ذلك قراءات وتحليلات متعدّدة.

في المقابل ظهرت تيارات فكريّة تعتبر أنّ الشريعة لا تحتوي إلا على أقلّ القليل من الأحكام التي تحتاجها الوقائع، وأنّ الغالبية العظمى من الوقائع يجب الرجوع فيها إلى الكليّات العامّة العقلية والأخلاقيّة والقيمية، فتحدّثوا عن الفقه بحدّه الأدنى وطالبوا بتقليص دوره إلى أكبر حدّ ممكن.

ويعتبر هذا الموضوع في تقديري من أهمّ الموضوعات التي تحتاج لمراجعة عميقة؛ لأنّ الجواب عن سؤال الشموليّة يمكنه التأثير على تحديد منهج الاجتهاد ومساحته ودور الفقه والفقهاء في الحياة الإسلاميّة، وهذا ما دفعني للاشتغال على هذا الموضوع مدّةً من الزمان، وقد ألقيتُ 113 محاضرة في ذلك على طلاب البحث الخارج في الحوزة العلميّة في قم، واستعرضتُ مختلف الاتجاهات والأفكار في حدود إمكاناتي المتواضعة، ثم أصدرتُ أعمالي في كتاب حمل عنوان (شمول الشريعة، بحوث في مديات المرجعيّة القانونيّة بين العقل والوحي)، وذلك في 820 صفحة، طبع دار روافد، في بيروت، لعام 2018م.

والحديث هنا طويل، لكن عصارة ما توصّلتُ إليه هو رفض الاتجاهات القائمة اليوم، سواء تلك المنادية بشمول الشريعة في الحدّ الأعلى، أم تلك المنادية بحلولٍ تفترض الانسجام مع شمول الشريعة مثل منطقة الفراغ (محمد باقر الصدر وآخرون)، أو تلك المنادية بالفقه والشريعة بالحدّ الأدنى (سروش ـ شبستري ـ علي عبد الرازق ـ مهدي بازركَان، وغيرهم)، فرأيت ـ والعلم عند الله ـ أنّ الشريعة الواقعيّة لا تغطّي مختلف وقائع الحياة، وليس هذا نقصاً فيها، بل هو جزءٌ من برنامجها، لكنّ هذا لا يعني أنّها تغطّي مساحة قليلة جدّاً أشبه بالمختفية كما يرى الفريق الثالث، بل تغطّي مساحة واسعة، لكنّها لا تبلغ مستوى الاستيعاب التامّ. ولك أن تقول: إنّ شموليّة الشريعة دستوريّةٌ وليست شموليّةً قانونيّة. وقد استعرضتُ في الكتاب مختلف الأدلّة العقلية والقرآنية والحديثية وغيرها والتي تقف لجانب نظريّة الشمول المشهورة، وكانت لي مناقشات متصلة بها جميعاً.

وينتج عن هذه القراءة أنّ الاجتهاد يجب أن يقوم في البداية بخطوة لمراجعة الأدلّة المحرزة، فإنّ تمّ وجود دليل شامل بغير تكلّف (وقد تحدّثتُ عن موضوع التكلّف في الكتاب) فبها ونعمت، حيث يمكن للعمومات والمطلقات تغطية مساحة غير قليلة، وإن لم نعثر على دليلٍ له هذه القدرة، ففي هذه الحال يقوم الإنسان (السلطة التشريعيّة البشريّة) بسنّ القوانين اللازمة لتنظيم الوقائع غير المشار إليها في النصوص، بلا حاجة للذهاب خلف أصالة البراءة، بل المحكَّم هو أصالة عدم الجعل لا أصالة البراءة. والإنسان الذي يقوم بعملية سنّ القوانين ـ سواء كان فرداً أم جماعة ـ يراعي في سنّ القوانين عدّة أمور، منها عدم مخالفة القانون لأيّ تشريع إسلامي ثابت، ولا مخالفته لأيّ مقصد شرعي مؤكّد وغير ذلك من الشروط.

وينتج عن منح العقل الإنساني المؤمِن سلطةَ سنّ القوانين في (منطقة الفراغ الحقيقيّة) أنّ مختلف هذه التشريعات في هذه المنطقة ستصبح بشريّةً، يمكن معارضتها ومناقشتها والاختلاف معها، ولا يصحّ نسبتها للدين ولا لله، لكنّ بشريتها لا تعني أنّها غير ملزِمة، بل هي ملزمة لاعتبارات عدّة تطرّقتُ إليها هناك، فيجب طاعة القوانين الصادرة عن الجهات الشرعية المكلّفة في الدولة أو المجتمع سنَّ القوانين، بعد التثبّت من شرعيّة هذه الجهات، لا لأنّ هذه القوانين والتشريعات عبارة عن فتاوى أو أحكام الله، بل لأنّه يجب طاعة السلطة الشرعيّة الراجعة لسلطة الاجتماع والتوافق أو غير ذلك طبقاً للنظريّات المختلفة في الفقه السياسي، مع حقّ الجميع في الاعتراض والنقاش والاختلاف مع هذه السلطة في هذا القانون أو ذاك. فالسلطة الشرعيّة تسنّ القوانين وتعرضها على مجلس الفقهاء لا للتأكّد من أنّها قوانين دينيّة، بل للتثبّت من عدم معارضتها للشريعة والدين، وفرقٌ كبير بين إثبات كونها جزءاً من الشريعة، والحديث عن كونها غير معارضة للشريعة، فانتبه.

وتترك النتيجة التي توصّلتُ إليها تأثيرات متعدّدة، من نوع تراجع بعض أشكال نظريّة القياس، وبعض نظريّات فقه المصلحة، وكذلك تترك تأثيرات على كيفيّة التعامل مع الدلالات اللفظيّة في النصوص، وكذلك على كيفيّة التعامل مع الأصول العمليّة، بل وكذا على كيفيّة الاجتهاد في فقه النوازل وعلى قضايا متصلة بفقه النظام وغير ذلك مما تحدّثتُ عنه بالتفصيل في الكتاب المشار إليه.

ويهمّني أخيراً الإشارة في هذا المختصر إلى أنّه قد كُتِبَت أو ألقيت بعض المحاضرات والكتابات في نقد ما قدّمتُه في هذا الكتاب، وإنّني إذ أشكر الناقدِين الموقَّرين ـ وبعضهم من أفاضل العلماء الذين نجلّهم ونحترمهم ـ أتمنّى أن تحظى كلّ الأعمال البحثيّة بمناقشات ونقد وتقويم لنحيا بجدّ حياةً علميّة ملؤها الاحترام المتبادل والنقد البنّاء والتقويم الموضوعي، فما أقدّمُه ليس إلا مبلغي من العلم، ولا شكّ أنّ ما لا أعلمه أكثر بكثير جدّاً مما أعلمه، هدانا الله دوماً للرشاد والتوفيق.

وأعتقد بأنّه بسبب هذه النتيجة التي توصّلتُ إليها في شمول الشريعة، فإنّ جملة من النتائج الفقهيّة أو المواقف التي أتوصّل إليها سوف تختلف عن المشهور وبخاصّة في القضايا المستحدثة وفقه النوازل وطريقة التعامل معها. كما أنّني في كتاباتي الفقهيّة إذا استخدمتُ عبارة «يجوز» أو «جائز»، فإنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ هناك حكم شرعي توصّلتُ إليه، وهو الجواز، بل هو أعمّ من وجود حكم شرعي بالترخيص، وعدم وجود حكم أساساً.

 


3 ـ الموقف من العدالة بوصفها قاعدة أصوليّة في الاجتهاد الشرعي

لفكرة العدل والعدالة حضور واضح في الفقه الإسلامي الذي يكاد يوحّد في التوظيف بين مفردة العدل والعدالة، وغالباً ما كان التركيز فيه قائماً على محورين:

1 ـ العدالة بوصفها سمةً شخصيّة، وهذا ما نجده في حديث الفقهاء عن شرط العدالة في المرجع والقاضي وإمام الجماعة وإمام المسلمين والشهود والرواة وغير ذلك.

2 ـ العدالة بوصفها سمةً تنفيذيّة، وهذا ما نجده حاضراً في حديثهم عن السياسة الشرعيّة وعمل وليّ الأمر وفي العمل القضائي، وفي إدارة الحياة الزوجيّة والأسريّة في العدل بين الزوجات أو الأولاد، وهكذا..

غير أنّ هذا المسار الفقهي لم يقترب بشكل جادّ يوماً من جعل العدل قاعدة أصوليّة في الاجتهاد الفقهي، بمعنى العدالة التي تمثل أساساً في معرفة الحكم الشرعي نفسه، وفي هذا السياق نلاحظ موضوعات ذات صلة من نوع مرجعيّة العقل في المستقلات العقليّة عند أصوليّي الشيعة، وتجربة المصالح المرسلة في الاجتهاد السنّي، وهي تجربة ساندتها نظريّات من نوع الاجتهاد الذرائعي (سدّ الذرائع)، وغيره.

وفي العصر الحديث تنامى الحديث عن مرجعيّة العدل والعدالة في الاجتهاد، بحيث يتمّ ـ على سبيل المثال ـ عرض الفتوى الشرعيّة على قانون العدل فإذا وجدناها مخالفةً له، طرحناها أو تأوّلنا النصوص تاريخيّاً أو غير ذلك. وتظهر مؤشرات جزئيّة جدّاً لفكرة العدل في الاجتهاد عند بعض الشخصيّات مثل الشيخ مرتضى مطهري والشيخ محمّد مهدي شمس الدين، غير أنّ الأبرز هنا كان الشيخ يوسف الصانعي حيث توصّل لمجموعة من النتائج الفقهيّة عبر قانون العدل، وأحياناً إلى جانب أدلّة أخرى، فحكم ـ مثلاً ـ بوجوب طلاق الخلع؛ لأنّ عدم الوجوب هو ظلمٌ للمرأة، وحكم بتساوي المسلم وغيره والرجل والمرأة في القصاص والدية للسبب عينه، وغير ذلك من التطبيقات التي مارسها هنا.

فقانون العدل ـ بما له من صفة أصوليّة (أصول الفقه) ـ يعني أنّ الأخذ بصدور أو ظهور ودلالة أيّ نصّ ديني أو إطلاقه أو عمومه الزماني والأفرادي والظرفي والحالي والمكاني.. رهينٌ بأن ننظر في الفتوى الناجمة عنه، فإن كنّا نرى اليوم مثلاً ـ بمنظار عرفي أو زمني أو غيره ـ أنّ هذه الفتوى فيها ظلمٌ للمرأة أو الطفل أو العامل أو الرعيّة أو الإنسان أو الحيوان أو غير ذلك، قلنا بأنّ هذا الحكم إمّا لم يصدر من الشريعة أصلاً، أو صدر ولكن كانت له مبرّرات ظرفيّة مؤقّتة، فلا نأخذ بإطلاقه ولا بعمومه ولا نصدر فتوى كليّة على أساسه.

والذي توصّلتُ إليه هو رفض الفكرة أعلاه، والتي أطلقتُ عليها «نظريّة العدالة بالحدّ الأعلى»، مع الإيمان بفكرة أخرى بديلة، وهي التي أطلقتُ عليها «نظريّة العدالة بالحدّ الأدنى»، وخلاصة الخلاصة هنا، مع الاعتذار عن اضطراري لضغط العبارة وتكثيفها، هو الآتي:

1 ـ إنّ الدين بطرحه العدل أساساً لا يؤسّس له مفهوماً جديداً في المعنى العام له، والذي هو أقرب للمعنى اللغوي، لكنّ من حقّه أن يشرح معالم رؤيته للعدالة؛ لأنّ العدالة ليست مفهوماً واضحاً بديهيّاً في تجلياته ومصاديقه، بل قد اختلفت فيه كبرى المدارس العالميّة فكلٌّ يرى منظومته هي التي تمثل العدالة ومنظومة الآخر لا تمثلها.

إنّ الأديان والمشاريع الإنسانيّة الإصلاحيّة الكبرى، من حقّها ومن الطبيعي فيها ـ وسط زحمة الاختلاف في العدالة والظلم مفهوماً ومصداقاً ـ أن يكون لها رأي وتصوّر، وهذا متوقّع جداً، فالأديان جاءت لخلاص الإنسان من انحرافاته وتلويثه لفطرته؛ فمن الطبيعي أن تعيده للفطرة السليمة التي من الممكن أن تكون تلوّثت بفعل تراكم الأزمنة والأعراف الفاسدة، التي قد تفرضها السلطات والمصالح وقوى الشرّ في وجوده التاريخي.

هذا يعني أنّ الدين يصحّح تصوّرات الإنسان عن الحقّ والخير، عندما تكون هذه التصوّرات قد انحرفت بفعل تأثير المصالح والهوى، حتى لم يبقَ منها إلا القليل، إن لم نقل بأنّ الدين يأتي ليضيف للإنسان وعياً عن الحقّ والخير لا يملكه، ولهذا ركّزت النصوص القرآنية كثيراً على مفهوم: الله يعلم وأنتم لا تعلمون/علمُكم قليل..

ونتيجة هذا الأمر أنّ الشيء المنطقي في هذا السياق، أن نقرأ الحركة الإصلاحيّة للأديان كما نقرأ الحركات الإصلاحيّة الإنسانيّة الكبرى عبر التاريخ، نقرأها في عناصر إصلاحها، فهي لم تأت مفرّغةً من كلّ شيء، بل حملت معها إصلاحات وتصحيحات للمسارات والأفكار والقيم التي تتعرّض ـ بفعل طغيان البشر وتضارب مصالحهم، أو وقوعهم في أخطاء التقدير والحساب نتيجة محدوديّة اطّلاعهم ـ للخطر والتشويه والتحريف والنقصان باستمرار.

إذا جاءت الماركسيّة تطالب بالعدل والخير والعدالة الاجتماعيّة وتأمر بها وتحثّ عليها، فليس من المعقول أن نكبّلها بفهم العرف السائد الذي جاءت هي لإصلاحه، ثم نطرح جانباً كلّ ما خالف فهم هذا العرف أو الأعراف القادمة الآتية والتي لا يعلمها إلا الله، بحجّة أنّها أمرت بالعدل، ولا معنى لأمرها بالعدل إلا إحالة المرجعيّة للعرف.. إنّ الخطوة الناقصة هنا هي في ضرورة فهم تصوّرات الماركسيّة عن العدالة ورؤيتها لها وحدودها وأصولها وتطبيقاتها، لكي نفهم سائر نصوصها من خلال تصوّرها هي عن العدالة وسط زحمة الاختلاف في تفسير العدالة وآليّات تطبيقها وتجلّيها الميداني بين البشر.

هذا يعني أنّ الخطوة الأكثر منطقيّةً هنا، بعد فهم هذه السياقات، أن نذهب نحو الدين نفسه ونصوصه؛ لنفهمه فهماً داخليّاً، ونفهم العدالة وتعريفها وصورتها وتجلّيها الميداني عنده، من داخل منظومة النصوص، ثمّ أقول: إنّ العدالة، في فهم الإسلام لها، هي كذا وكذا في قضايا الحياة السياسيّة، وهي كذا وكذا في قضايا الأسرة إلى غير ذلك من الأمور.

بناءً على هذا كلّه، فعلينا في المرحلة الأولى أن نذهب للدين نفسه لاكتشاف رؤيته العليا والدنيا للعدالة، ونحدّد مفهومه لها، لا أن نحدّد المفهوم اللغوي فحسب! وهذا يعني أنّ الخطوة الأولى هنا هي الذهاب خلف السبل والطرق الموضوعة دينيّاً وعقليّاً لاكتشاف موقف هذا الدين، اكتشافاً تاريخيّاً خالصاً، بعيداً عن تقويمنا له، فكأنّنا نتعامل هنا مع موقف مدرسةٍ فكريّة ظهرت قبل ألف عام، حيث نذهب لنصوصها، فإذا أمرتنا بالالتجاء إلى نصوصها اليقينيّة والظنيّة ضمن شروط وحدود، فنحن في الخطوة الأولى نرجع للنصوص الكاشفة التي اعتمدتها هذه المدرسة لمعرفة الآخرين لأفكارها، وهذا هو السبيل الأوّل الضروريّ في هذه القضيّة.

ولهذا نقول بأنّ العرف لا يكون حاكماً على مرجعيّة النصّ في لوح الواقع؛ لأنّ هذه الحكومة لا تعني سوى تكبيل يد النصّ عن الإفصاح عن نفسه ورؤيته، والمفروض منطقيّاً ـ بالطريقة التي شرحناها آنفاً ـ أن يكون النصّ مُفْصِحَاً عن رؤيته وقناعته في العدالة ومعالمها.

إنّ الطريقة التي اعتمدناها هي طريقة استقرائيّة، وذلك أنّنا نكوّن تصوّرات هذا الدين عن العدالة والحقوق، من خلال مراجعة أغلب نصوصه، بما فيها كلّ نصوصه اليقينيّة، فإذا واجهنا بعد ذلك نصوصاً ظنيّة في الصدور أو الدلالة تقدّم عيّنةً للسلوك تتنافى مع مجمل الخارطة المرسومة في الأدلّة اليقينيّة وعُمدة الأدلّة الأخرى، شكّكنا في صدورها أو دلالتها أو إطلاقها؛ لأجل معادلة داخل ـ دينيّة هذه المرّة.

2 ـ إذا عارضت المعطيات يقيناً عقليّاً واضحاً وجازماً، بالمعنى الاصطلاحي لكلمة mالعقليn هنا، فلا شكّ في ترك المعطيات النصيّة؛ لأنّ كلّ دليل مقيّد لبّاً بعدم مناقضة واضحات العقول العمليّة، أو يمكن تخريج القضيّة بأنّ مواجهة معطيات واضحات العقول العمليّة لا يكون بمثل نصٍّ أو اثنين، بل بحجمٍ كبير من المعطيات المفيدة لليقين. وهنا يظهر الفرق بين مرجعيّة العرف أو الأزمنة في مفهوم العدالة ومرجعيّة العقل المطلقة.

3 ـ إذا رأينا أنّ معطياتٍ ظنيّة تعارض الارتكاز العقلائي العامّ في أمرٍ يتصل بالعدالة والظلم مفهوماً أو مصداقاً، ونعني بالارتكاز العقلائي العامّ ليس الأعراف، وإنّما القيم أو السلوكيّات التي تعتبر عند جميع الأعراف حقيقةً أخلاقيّة ثابتة، وقلنا بأنّ الارتكازات العقلائيّة التي من هذا النوع مغايرة لأحكام العقل العملي، فإنّ النصوص تولد مقيّدةً بعدم مخالفة هذا الارتكاز، أو فقل: إنّ مواجهة هذا النوع من الارتكازات يحتاج لحجم كبير من النصوص وتأكيدات صارمة يصعب معها القبول بمثل بضعة نصوص قليلة مع توافر الدواعي للنقل، لو كان يوجد غير هذه الكميّة القليلة من النصوص واقعاً.

4 ـ لو ثبت أنّ أمراً ما يعدّ في عُرف عصر ومكان النزول أو الصدور من واضحات مصاديق العدل أو الظلم أو المعروف أو الإحسان أو الخير أو الشرّ أو نحو ذلك، فإنّ ورود دليل غير يقيني يغيّر هذا التصوّر لا يغدو حجّة:

إمّا اعتماداً على أنّ تغيير هذا الوضوح العرفي يحتاج لتأكيدات كثيرة، ولمّا لم تصلنا سوى بضعة نصوص قليلة مثلاً ولو كان فيها صحيح السند، فإنّ هذا يكشف عن عدم الوثوق بصدورها أو عدم الوثوق بدلالاتها.

أو لأنّه لو كان النصّ الذي يعارض هذه الأمور العرفيّة الواضحة آنذاك ينحو في معارضتها منحى المعارضة بمجرّد الإطلاق؛ فإنّ هذه المعارضة ـ خاصّة لو كانت في نصوص قليلة ـ لا تنفع؛ لأنّ الذهن العرفي سوف يجعل وضوح الفكرة عنده بمثابة قرينة متصلة لبيّة للتقييد، فإذا أراد الشارع رفض هذا المرتكز الواضح لزمه التبيين بنصّ مباشر، لا عبر الإطلاق.

وهذه الطرق الثلاثة الأخيرة تدخل النشاط الذهني البشري على المستوى العقلي والعقلائي والعرفي الزمني الخاصّ، في سياق موقع الهيمنة على النصّ ضمن منظومة لغويّة، تكشف عن موافقة الدين على هذه المعطيات البشريّة، بما يحقّق شكلاً من التوفيق بين الاعتزال والأشعريّة في المجال الشرعي.

5 ـ في كلّ مورد لا نجد للشرع فيه تحديداً منافياً لتحديد العرف أو العقل أو العقلاء، فإنّنا نأخذ بتحديد هذه الثلاثة لمصاديق المفاهيم الكليّة الملقاة إليها، كما قال إمام المقاصديّين الشاطبيُّ، ولو اختلفت معطيات العقل أو العلم اليقينيّة عن معطيات العرف أو العقلاء، قدّم العقل؛ لأنّ المفروض أنّ هذه العناوين (العدل ـ القسط..) يراد تحقيق معنوناتها الواقعيّة في الخارج، والعقل ما دام قطعيّاً ولو بالدقّة، فيقدّم على العرف وغيره في عملية التحديد هذه؛ لأنّ غيره لا يبلغ درجته في اليقين.

6 ـ إنّ كلّ ما قلناه إنّما ينفع في طرف النفي لا في طرف الإثبات، بمعنى أنّ دور العرف والعقل والعقلاء هنا يمكن أن نجده في نفي أمرٍ يحتمل أنّه من الدين، كما في حالات تعيينهم للظلم، ضمن الشروط المتقدّمة، أمّا في العناصر المثبتة مثل تعيين العقل والعرف والعقلاء لمصداق من مصاديق العدل أو البرّ أو الإحسان أو غير ذلك؛ فإذا كان هذا المصداق سائداً في عصر النزول ملتفتاً إليه أمكن جعل الأمر بالعدل في الشريعة أمراً بهذا المصداق إذا كان واضحاً وكأنّه مشار إليه في النصوص العامّة، أمّا المصاديق الحادثة التي لم يكن لها وجود في عصر النصّ وقريبه، بل هي موضوعات مستجدّة، فإنّ تعيين العرف والعقلاء والعقل لها لا يوجب نسبة المؤدّى والناتج للشريعة، بناء على مسلكنا في عدم شمول الشريعة؛ وإنّما غايته أنّ الشريعة تأمرنا بالعدل، أمّا أنّ هذا المصداق الجزئي تأمرنا به الشريعة بعنوانه، رغم عدم وروده في النصوص، فهذا غير معلوم، فننسبه للعرف أو العقل أو العقلاء لا للشرع، ولا ننسب للشرع سوى الأمر بكليّة العدل، دون الكشف عن مصداقه الجديد هذا، كما شرحنا ذلك مفصّلاً في كتابنا «شمول الشريعة».

وبهذا يمكن لنا القول بأنّنا نختار قاعدة العدالة بحدّها الأدنى، لا بحدّها الأعلى([2]).

 


4 ـ نقد حجيّة الإجماع والشهرة الفتوائيّة

تُعتبر مسألة حجيّة الإجماع الفتوائي المذهبي أو الإسلامي، وكذلك حجيّة الشهرة الفتوائيّة، من القضايا التي شهدت بحوثاً موسّعة عبر التاريخ الإسلامي عند المذاهب. وقد كان الإجماع ذا قيمة عالية في الفضاء الاجتهادي السنّي. بل إنّ لديّ مقاربة تاريخيّة تحليلية، اجتماعيّة وسياسيّة، ترجّح أنّ فكرة سُلطة الإجماع والشهرة هي فكرة تكرّست بقوّة في العصر العباسي؛ لأهداف سياسيّة وطائفيّة في مواجهة الأقليّات المذهبيّة ومواجهة المعارضين والمختلفين في الرأي. أمّا إماميّاً فقد تراجعت ـ في القرنين الأخيرين ونظريّاً ـ قيمة بعض أنواع الإجماع (الإجماع المنقول)، وكذلك تراجعت قيمة الشهرة الفتوائيّة، وبخاصّة منذ زمن الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ).

لكنّ سُلطة الإجماع والشهرة ما تزال حاضرةً عمليّاً في أعمال الكثير من فقهاء المسلمين بمذاهبهم، كما أنّها هي التي تقف خلف الكثير ـ وليس الكلّ بالتأكيد ـ من الاحتياطات المبثوثة في الفتاوى والرسائل العمليّة.

والذي توصّلتُ إليه في هذه القضيّة التي أعتبرُها من أمّهات قضايا الاجتهاد والتي تضعه على مفترق طُرق، هو عدم حجيّة الإجماع المنقول، سواء كان على المستوى المذهبي أم على المستوى الإسلامي. أمّا الإجماع المحصَّل وكذلك الشهرة الفتوائيّة فنظريّاً ومبدئيّاً يمكن تبرير اعتبارهما المنطقي، لكنّني أرى ـ بنظري القاصر ـ أنّ محاولات إثبات الحجيّة لهما هي محاولات نظريّة بحتة في الغالبيّة الساحقة من الموارد؛ والسبب في ذلك هو صعوبة التحقّق من الشروط الموضوعيّة اللازمة لانعقاد إجماعٍ حجّة أو شهرةٍ كذلك. وبهذا لا قيمة للإجماع الفتوائي بنوعيه وللشهرة الفتوائيّة بما هما قاعدة لها حضورها في الاجتهاد الفقهي.

نعم، يصلح الإجماع والشهرة بمثابة شواهد إضافيّة على الأدلّة الحقيقيّة، تقوم بدور المؤيِّد لها أحياناً، لكنّهما ليسا دليلاً قائماً بنفسه ولو للكشف عن السنّة الشريفة. كما أنّني أُقرُّ بأنّ هناك مواضع قليلة جدّاً في الفقه يمكن أن يكون الإجماع أو الشهرة حجّةً مستقلّةً فيها بحسب طبيعة الملابسات، لكنّ هذه المواضع تظلّ حالات استثنائيّة قليلة للغاية تكرّسُ ميدانيّاً قاعدةَ عدم الحجيّة ولا تنفيها.

وقناعتي الشخصيّة هو أنّ الاجتهاد الشرعي يلزمه اليوم أن يُترجم هذا كلّه؛ ليُصبح أمراً عمليّاً، بمعنى ضرورة أن يتحرّر الفقيه حقّاً وحقيقةً من سُلطة الإجماع والشهرة ورهبتهما دون أن ينبذهما تماماً، ودون أن يصبح خصماً لهما عناداً واستكباراً، ودون أن يعيش عقدتهما نقصاً وانتقاماً.

من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصول المشتغِل في حقل العلوم الشرعيّة ـ وأعتبر نفسي أحد هؤلاء ـ لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد هو تحرّره النظري والعملي معاً من سلطة الإجماع والشهرة.

 


5 ـ نقد حجيّة أخبار الآحاد الظنيّة

تُعدّ مسألة حجيّة خبر الواحد الظنّي من أكثر البحوث أهميّةً في الاستنباط الفقهي وأعظمها تأثيراً على آليّات الاجتهاد الشرعي، بل وغير الشرعي أيضاً. والمعروف المشهور بين علماء أهل السنّة منذ قديم الأيام هو حجيّة أخبار الآحاد حتى ولو لم تكن متواترةً ولا قطعيّة الصدور. وهذا هو المعروف بين الإماميّة منذ عصر العلامة الحلي (726هـ) وإلى يومنا هذا. وقد خالف الإخباريّون في ذلك ولم يقبلوا بمرجعية الظنّ في الدين، لكنّهم في الوقت عينه غلب على العديد منهم الاعتقاد بأنّ أمّهات الكتب الحديثيّة قطعيّة الصدور في مرويّاتها، وليست أخباراً ظنيّة، ثم ظهرت بينهم تيارات أخرى أجرت تعديلات على تصوّراتهم هذه، لا نطيل بالحديث عنها هنا.

والذي توصّلتُ إليه هو عدم حجيّة خبر الواحد الظنّي مطلقاً، لا في الفقه ولا في التاريخ ولا في العقائد ولا في الأخلاق، ولا في التفسير، ولا في التكوينيّات، ولا في غير ذلك، إلا في مواضع محدودة أعطت فيها الشريعة دوراً للأخبار الظنيّة ضمن ضوابط، كما في البيّنات العادلة في المحاكمات القضائيّة ونحو ذلك. وقد صنّفتُ في هذا المجال كتاباً مستقلاً توصّلتُ فيه لنقد حجيّة خبر الواحد الظنّي من جهة وتأكيد حجيّة الخبر المتواتر تارةً، وكذلك حجيّة الخبر الآحادي المحفوف بما يوجب تحصيل الوثوق والاطمئنان بصدوره أخرى، فالأخبار غير المتواترة لا يؤخذ بها ولو كانت صحيحة الإسناد ما لم تحتفّ بشواهد وعواضد ترفعها لمستوى اليقين العادي العقلائي (الاطمئنان والوثوق)، وليس بالضرورة اليقين الفلسفي البرهاني. والكتاب الذي خصّصته برمّته لدراسة هذه المسألة المفصليّة هو (حجيّة الحديث، وهو في 778 صفحة، من طباعة مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، عام 2016م).

بل إنّني سبق أن توصّلتُ في كتابي (نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 33 ـ 164، الطبعة الأولى، 2006م)، ومن خلال دراسة تاريخية مطوّلة، إلى إثبات أنّ مشهور علماء الشيعة حتى نهايات القرن السابع الهجري، كانوا لا يؤمنون بحجيّة خبر الواحد الظنّي، وأنّ بدايات التحوّل كانت جزئيّةً مع الشيخ الطوسي (460هـ)، ليكون التحوّل الحقيقي مع العلامة الحلّي (726هـ) الذي اتهمه الإخباريّون بالتأثر بالثقافة السنيّة في هذا الموضوع وغيره.

من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد هو عدم اعتقادي بحجيّة خبر الواحد الظنّي.

 


6 ـ عدم ثبوت قاعدة التسامح في أدلّة السنن

تعتبر قاعدة التسامح في أدلّة السنن أو فضائل الأعمال من أكبر القواعد الأصوليّة الحاكمة في مجال الأحكام الشرعيّة غير الإلزاميّة (المستحبات والمكروهات)، وهي تعني أنّنا لسنا بحاجة، لكي نفتي باستحباب شيء أو كراهته، إلى وروده في دليل معتبر أو رواية صحيحة أو نحو ذلك، بل يكفي وروده في رواية ضعيفة السند، بل ما هو أضعف من ذلك، منسوباً للنبيّ وأهل بيته الكرام. ولعلّني لا أبالغ إذا قلت بأنّ عدد المستحبات والمكروهات التي ستثبت عبر هذه القاعدة يفوق بكثير ما هو مذكور في الرسائل العمليّة من مستحبّات ومكروهات، كما هو واضح لمن تتبّع الكتب الروائيّة وقارنها بالكتب الفتوائيّة الحالية.

وقد جرت عادة جملة من الفقهاء وما تزال على عدم الاهتمام بالاجتهاد والنظر في الأمور المستحبّة والمكروهة، بل يرى بعضهم عدم وجوب الاجتهاد فيها على الفقيه ولا الإفتاء، ولهذا فهو عندما يصل إلى بحث المستحبات يترك الاستدلال فيه ويعبُرُه دون أيّ تعليق، إلا إذا كانت من نوع المستحبّ الذي قيل بوجوبه من قبل بعض العلماء، مثل غسل الجمعة، والصلاة على محمّد وآله عند ذكر اسمه..

وقد خضعت هذه القاعدة لدراسات عدّة في أصول الفقه، وظهر تيار متأخّر يرفضها، وكثير من الفقهاء الحاليين لا يؤمنون بها. وقد جرت سيرة العلماء الرافضين للقاعدة أنّهم إذا وجّه إليهم سؤال عن مستحبّ أو مكروه، فإنّهم إمّا لا يذكرون رأيهم في نفي استحبابه، أو إذا ذكروا يُردفون ذلك بالقول بأنّه يمكن الإتيان به أو تركه من باب رجاء المطلوبيّة، ويعتبرون ذلك ضرباً من العمل الحسن ولو عقلاً على أقلّ تقدير. وبهذا تنتشر الكثير من العادات والأعراف والمفاهيم والأعمال التي منشؤها إمّا قاعدة التسامح أو ـ عملاً ـ قاعدة رجاء المطلوبيّة. ومهما مارس الفقهُ نقدَه الاجتهادي على إثبات مستحبٍّ هنا أو مكروهٍ هناك، فإنّ فكرة رجاء المطلوبيّة المتداولة في الأدبيّات الإفتائيّة تجعل النقدَ الفقهي حبيسَ الكتب والمحافل العلميّة، دون أن يُجري أيّ تغيير ميداني في حياة الإنسان المسلم، تماماً كفكرة الاحتياط الوجوبي في عالم الإفتاء والاستفتاء؛ إذ هي فكرة حجبت بعض التحوّلات التجديديّة في الفتاوى عند المتأخّرين عن أن تُحدث تحوّلاً في حياة الفرد المسلم على أرض الواقع، فرأينا الفقه يتحوّل بدرجةٍ ما في المحافل العلميّة لكنّه يظلّ هو نفسه تقريباً بالنسبة للفرد المسلم.

والذي توصّلتُ إليه بنظري القاصر هو بطلان قاعدة التسامح في أدلّة السنن، ووجوب الاجتهاد والإفتاء كفائيّاً في المستحبّات والمكروهات، بوصفها جزءاً من الدين وبرنامج الشريعة، بل لقد أبديتُ في بحوثي الأصوليّة بعض التحفّظات والمناقشات على كليّة إجراء مفهوم رجاء المطلوبيّة في مجمل الأمور التي لم يثبت استحبابها ولا كراهتها، واعتبرت أنّ التحسين العقلي الذي انطلق منه العلماء لتبرير فكرة رجاء المطلوبية يواجه مشاكل في تعميمه وليس في ذاته. لهذا كانت قناعتي وترجيحي هو أنّ كلّ ما ثبت استحبابه أو كراهته فالمطلوب إعلام الناس به والدعوة له وترويجه، وليس براجحٍ ـ لا عقلاً ولا شرعاً ـ تشجيع الناس على كلّ ما احتمل استحبابه أو كراهته ولو عبر فكرة رجاء المطلوبيّة، فما ثبت أنّه من الدين أخذنا به وما لم يثبت فلا داعي لترويجه أو لتسهيل حضوره في حياتنا، إلى أن يثبت بدليل معتبر.

من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد في مجال المستحبّات والمكروهات، هو عدم اعتقادي بقاعدة التسامح من جهة، مع تحفّظي على تعميم ثقافة رجاء المطلوبيّة من جهة ثانية([3]).

 


7 ـ عدم حجيّة سنّة الصحابي

لا شك في ورود عدد كبير من النصوص التي تقف عند حدود واحدٍ من صحابة النبيّ، وقد حاول علماء أهل السنّة تخريج هذه النصوص ـ رغم عدم ورودها عن النبيّ ولا أنها بحكم المرفوع ـ بتخريجات عدّة حتى لا تضيع هذه النصوص من أيدي المسلمين. وكانت واحدة من تلك التخريجات اعتبار سنّة الصحابي وقوله حجةً لغير الصحابي الذي هو مثله، على صيغ في ذلك، حتى ذهب بعض متأخّري الأحناف إلى إدراج سنّة الصحابي في تعريف سنّة النبي، ووافقهم على ذلك الإمام الشاطبي (790هـ).

وقد عُرّفت سنّة الصحابي بأنها ما نقل إلينا عن أحد أصحاب رسول الله من فتوى، أو قضاء، أو رأي، أو مذهب، في حادثةٍ لم يرد حكمُها في نصٍّ قرآني ولا نبوي، ولم يحصل عليها إجماع. وعليه، فلا يقصد بسنّة الصحابي الروايات التي يرويها الصحابيُّ عن النبيّ فهذا أمرٌ آخر، وإنّما المقصود آراؤه الشخصيّة في الدين مع فقدان نصّ قرآني ونبويّ وعدم وجود إجماع متصل بذلك الرأي الشخصي.

والمتداوَل هو أنّ جمهور الأشاعرة والمعتزلة والشيعة والشافعي ـ في قول ـ وأحمد في رواية.. أنكروا حجيّة قول الصحابي، وهو ما يُنسب إلى جمهور الأصوليين.. وذهب أئمّة الحنفية، والمشهور عن مالك وكثير من المالكية والحنابلة وبعض الشافعيّة، إلى الحجيّة. وذهب بعضهم إلى تخصيص الحجيّة بسنّة أبي بكر وعمر، وآخرون إلى تخصيصها بالخلفاء الأربعة مجتمعين، وغير ذلك من التفصيلات.

والذي توصّلتُ إليه بعد دراسة أصوليّة مقارنة، هو عدم حجيّة سنّة الصحابي ـ بما هو صحابي ـ ولا قوله ولا مذهبه، بل وكذلك الحال في نفي حجيّة سنّة التابعي، ومن هو صاحب أحد الأئمّة من أهل البيت، فإنّ آراء هؤلاء جميعاً غاية ما تمثل اجتهاداتهم التي هي حجّة لهم وعليهم، وليست حجّةً لنا ولا علينا. نعم دراسة آراء هؤلاء جميعاً لها فوائد تاريخيّة وتحليليّة مهمّة، غير أنّ آراءهم ليست حجّةً مُلزِمة للمسلمين بعدهم. لكن لو وصل الحال في قول صحابة النبيّ أو أصحاب الأئمّة من أهل البيت إلى حدّ تشكّل سيرة متشرّعية كاشفة عن موقف الشرع، كانت هذه السيرة حجّة، ولكنّ مفهوم السيرة المتشرعيّة مختلف تماماً عن مفهوم سنّة الصحابيّ([4]).

 


8 ـ الموقف من حجيّة التقرير (السنّة التقريريّة) ومدياتها

التقرير أو الإقرار أو الإمضاء معناه سكوت النبيّ‘ إسلاميّاً (والإمام× شيعيّاً) عن أمرٍ عَلِم به، ووقع بين يديه. وقد استفاد علماء الاجتهاد الإسلامي من التقرير النبوي العديد من النتائج الفقهيّة؛ لأنّ النبي لم يكن يعيش بمعزل عن مجريات الأحداث بل كانت تقع أمامه يومياً وقائع وظواهر عديدة جداً، فسكوته عن بعضها إذا كان يفيد حكماً تشريعياً فمن الطبيعي أن يمدّنا بالكثير من المعطيات في هذا المجال أو ذاك، وهذا ما يجعل نظرية حجيّة التقرير في غاية الأهميّة بالنسبة للاجتهاد الشرعي.

وقد استفاد علماء أصول الفقه الإسلامي حجيّةَ التقرير من أدلّة حجيّة السنّة، فكانت حجيّة التقرير مذهبَ جمهور العلماء، لكن المعروف أنّه خالفت في ذلك قلّةٌ قليلة، كما فيما نُسب إلى أبي بكر الباقلاني (403هـ)، وذهب إليه الجويني (478هـ) في خصوص كتاب «التلخيص»، من اعتقادهما أنّ السكوت لا يعمّ؛ لأنه ليس بخطاب، فيكون منحصراً بتلك الواقعة لا يُتعدّى عنها، فيُستفاد منه الجواز لذلك الفاعل لا لغيره، فلو شرب زيدٌ الماء جالساً أمام رسول الله، وسكت النبي عن فعله ولم يعلّق؛ فإنّ أقصى شيء تعطيه هذه الحادثة هو جواز شرب الماء في تلك الحال لزيد نفسه فقط، ويصعب أن نقوم بتعميمها لغيره بحيث نقعّد الموقف بوصفه حكماً شرعياً لعامّة المسلمين. غير أنّ التأمّل في رأي الباقلاني والجويني لا يدلّ على إنكارهما حجيّة التقرير، بل يفيد إنكارهما عموميّة الحجيّة والتوظيف، فلاحظ.

وقد ذُكرت تفصيلات أخرى في حجيّة التقرير ذهب إليها بعضُ العلماء الآخرين.

والذي توصّلتُ إليه هو أنّ أقصى ما تفيده أدلّة حجيّة السنّة هي حجيّة السنّة التقريريّة في خصوص دائرة الظواهر العامّة كالأعراف والسلوكيّات والمرتكزات العقلائيّة أو المحليّة التي تكون بمرأى ومسمع من النبيّ (أو الإمام) لمدّة زمنيّة متواصلة معتدّ بها، فإنّ سكوته عنها كاشفٌ ـ نوعاً ـ عن عدم مخالفة الشريعة لها. أمّا الأحداث والوقائع الخاصّة والجزئيّة أو الفرديّة التي تقع بمرأى النبيّ لمرّة أو مرّتين مثلاً، فإنّ سكوته عنها لا يكشف عن موقفٍ شرعيّ منها ـ حتى للفاعل أو التارك نفسه ـ ولو كان هذا الموقف هو عدم مخالفة الشريعة لها، إلا إذا قامت قرائن في حدثٍ خاص تبعّدُ احتمالَ عدم كاشفيّة السكوت، فيؤخذ بالقرائن حينئذٍ لا بعموميّة قانون حجيّة التقرير.

لكنّ التقرير ليس لديه قوّة السنّة القوليّة؛ إذ إمكانات المحدوديّة التاريخيّة فيه أعلى، وذلك بسبب كونه تعبيراً صامتاً لا يحمل إطلاقاً، إلا إذا كان متعلّق التقرير أمراً يحمل في نفسه إطلاقاً زمكانيّاً، كما ذكرنا بعض أمثلته في محلّه، فالإطلاقُ قائمٌ في متعلّق التقرير، لا في دلالة التقرير نفسها، فانتبه. وربما لهذا مال الباقلاني والجويني لتضييق دائرة توظيف التقرير النبوي. ومناقشةُ خصومهما لهما بأنّ ذلك على خلاف قاعدة الاشتراك في الأحكام هي مناقشة غير موفّقة في تقديري، كما ذكرتُ ذلك في محلّه، فراجع؛ حيث لا نريد الإطالة هنا([5]).

 


9 ـ تنوّع شخصيّة النبيّ والإمام، وتأثيرات ذلك على مناهج الاجتهاد الشرعي

لعلّ السائد في تعامل بعض أوساط الفقه الإسلامي هو اعتبار كلّ ما صدر عن النبيّ أو الإمام بمثابة تبليغ لحكم شرعي إلهي في أصل الشرع، بل إنّ التعامل مع سلوكهما بما في ذلك السلوكيّات الفرديّة الجزئيّة هو كذلك أيضاً في كثير من الحالات، من هنا فكلّ جملةٍ تصدر من النبيّ هي بمثابة إخبار عن وحي إلهي قرآني أو غير قرآني يبيّن موقفاً ثابتاً في أصل الشرع.

ومنذ قديم الأيّام كانت هناك وجهات نظر تُنوِّع شخصيّةَ النبيّ، دون أن تخلَّ بارتباطه بالسماء، لكن في العصر الحديث تنامى هذا التوجّه تنامياً كبيراً، سواء على الصعيد السنّي، وبخاصّة مع مثل الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور (1973م) في مباحث "مقاصد الرسول"، أم على الصعيد الإمامي مع شخصيّات كثيرة أذكر من بينها ـ على سبيل المثال لا غير ـ السيّد محمّد باقر الصدر، والسيّد الخميني، والشيخ المنتظري، والسيد علي السيستاني، والسيّد فضل الله، والشيخ محمّد مهدي شمس الدين، وغيرهم.

يقول هذا التوجّه بأنّ النبي قد تصدر منه مواقف عمليّة أو قوليّة بما هو مبلِّغ عن الله، وقد تصدر مواقف أخرى منه بما هو حاكم للجماعة المسلمة، فيُصدر أحكاماً حكوميّة تنظيمية دائمة أو مؤقتة ـ على الخلاف بينهم في زمكانيّة الأحكام الولائيّة السلطانيّة ـ ويُصدر أيضاً أحكاماً قضائيّة تحمل في العادة خصوصيات كثيراً ما تكون خاصّة زمكانيّاً وظرفيّاً، وتصدر منه مواقف طبعيّة ناتجة عن سلوك شخصي طَبعي لا يحمل أيَّ بُعد ديني تبليغي، كأن يكون يفضّل أو يرتاح بالجلوس بطريقة معيّنة، وهكذا. وهذا التمييز بين الشخصيّات يساعد الفقيه على فهم ما وصلنا عن النبيّ وأهل بيته وأصحابه بشكل أفضل، ويتعامل معهم في الإطار التاريخي بشكل أصحّ، ويبدو يحظى بدرجة أعلى من "المعقوليّة التاريخيّة".

وغالباً ما تَركّزَ نظرُ فقهاء الشيعة الجُدد هنا على ثنائيّة الحكم التبليغي والولائي، لكنّ فقهاء آخرين لاحظوا تنويعات أخرى، مثل ما ذهب إليه السيد السيستاني، تبعاً ـ فيما يبدو ـ لأستاذه الميرزا مهدي الإصفهاني (1365هـ)، من تنويع شخصيّة الإمام بين التعليميّة والإفتائيّة، مرتّباً على ذلك سلسلة من النتائج في نهج التعامل مع النصوص وتعارضاتها. والمجال لا يسع لعرض مختلف الآراء والتوجّهات هنا.

والذي توصّلتُ إليه، هو الإيمان العميق بتعدّديّة شخصية النبيّ والإمام، ليس فقط ضمن ثنائيّات التبليغيّة والولائيّة أو الإفتائيّة والتعليميّة، بل الأمر مفتوح على قراءات ثريّة في هذا الصدد وتنويعات متعدّدة، وهذا التنوّع يفرض على الفقيه جهوداً مضاعفة في كيفيّة التمييز ـ ميدانيّاً ـ في النصوص والأفعال بين ما صدر تبليغاً لأصل الشرع وما صدر لواقعة خاصّة حكم فيها النبي حكماً زمكانيّاً لظروف تاريخيّة بما هو مدير للجماعة مثلاً؛ لأنّ عدم اهتمام الفقيه وتنشيط قراءته لجوانب الشخصيّة سوف يؤدي الى الإفتاء بأحكام شرعيّة ليست من أصل الشرع، أو الإطاحة بأحكام شرعيّة هي من أصل الشرع، لكن تمّ تصوّرها على أنّها صدرت لا من حيث مقام التبليغ.

وهذا ما يدفع بعض الناس اليوم للقلق الكبير من فكرة تعدّد الشخصيّات هذه، إلى حدّ توهّم بعضهم أنّها تبطل فلسفة النبوّة! رغم أنّهم يقرّون ـ مثلاً ـ بصدور مئات، وربما آلاف النصوص على نحو التقية من الأئمة، ويبذلون جهوداً مضاعفة في تمييزها، ويوقفون العمل بها، رغم اعتقادهم بصدورها، لكونها صدرت على نحو التقية عندهم، دون أن يضرّ ذلك ـ من وجهة نظرهم ـ بفلسفة الإمامة، بل أليس موضوع التقية في جوهره تنويعاً في الشخصيّة يتبع المبرّرات الزمكانيّة؟!

إنّ دخول الفقيه مجال البحث في أيّ موضوع واضعاً أمامه احتماليّات متعدّدة في الشخصيّة المعصومة، يُثري فرضيات بحثه ويطوّر من قراءاته بشكل كبير جدّاً، ويُغني العمليّة الاستنباطية ويرفع مستوى الوعي التاريخي، شرط أن نواصل عمليّة التأصيل الأصولي للمسألة وتحديد المعايير والضوابط، حتى لا يذهب بعضٌ بها عريضة فيعتبر أنّ كلّ حكم شرعي لا يُعجبه فهو صادر لا من حيث التبليغ! كما يفعله بعض الناس اليوم مع الأسف الشديد. وعلى سبيل المثال عندما يطرح أمثال السيد الصدر أنّ تعبير الرواية: «قضى رسول الله»، يعطي نوعاً من البعد الولائي في الحكم الصادر، فهو ـ أي الصدر ـ يشتغل على تبيين معايير اكتشاف الحكم الولائي، سواء وافقناه على هذا المعيار اللفظي (قضى) أم لا. وما أدعو إليه هو الاستمرار في عمليات الحفر والتنقيب هذه، بل ومحاولة اكتشاف كيف يمكننا اليوم أن نستفيد حتى من الأحكام غير التبليغيّة الصادرة من النبيّ وأهل بيته، سواء على مستوى فهم كيفيّة إصدارهم لها أو المعايير والمنطلقات التي أصّلت لهذه الأحكام عندهم ووقفت خلفها، وهو ما يفرض مساحات ثريّة في التنظير الفقهي.

من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد، هو عدم اعتقادي بوحدة شخصيّة النبيّ والإمام، وإيماني بأنّ الاجتهاد الأفضل هو ذلك الاجتهاد الذي يحاول التماس التنوّع في الشخصيّة من خلال الشواهد والقرائن والضوابط، وبخاصّة في الأمور غير العباديّة. ودعوتي المتواضعة للحوزات العلميّة أن لا تخاف من هذا الطرح بحجّة أن بعض الناس استغلّته بطريقة فاضحة، فكلّ حقٍّ عبر التاريخ جاء من يستغلّه ويشوّهه، بل أن تفكّر فيه مليّاً وبروح رياضية وعقلٍ بارد، وتُشبعه نقداً وتمحيصاً، منطلقةً من روحٍ محايدة، لا من خلفية متشنّجة أو بعقلية جدليّة عوّدَنا عليها بعض المتكلّمين عبر التاريخ، فلعلّ في ذلك كلّه مفتاح الكثير من التطوير والقفزات النوعيّة في الاجتهاد الشرعي، وفكّ بعض المشاكل العالقة، إن شاء الله تعالى.

ودائماً كنتُ أقول: الرسائل العمليّة ليست معياراً لتقويم المناهج الاجتهاديّة، بل المنهج هو المعيار الذي تُعرَض عليه الرسائل العمليّة. وكلّ قلبٍ لهذه الحقيقة سوف يؤدّي إلى عدم تكوين اجتهاد يحمل قفزات نوعيّة ليقود العقل الديني إلى ما هو أفضل وأقوم. وبحمد الله فمنذ حوالي القرن من الزمن نشهد نموّاً مطّرداً في الأوساط الحوزويّة لهذا الموضوع، يسير بهدوء فتتسرّب الكثير من أنماط التفكير هذه بطريقة أكثر انضباطاً وموضوعيّة. ودائماً أقول: إنّ أولئك الذين لم يقرؤوا تاريخ تطوّر الأفكار، وهي المادّة شبه المفقودة في مناهج التعليم الديني، لن يعرفوا أنّ المشهد الديني ـ بما فيه المشهد الحوزوي الفقهي ـ قد شهد تحوّلات كبيرة وهم لا يشعرون، فالقضيّة أشبه بـ "أصالة الثبات في اللغة"، يشعر من لا عمق له في رصد المشهد بأنّ الأمور ثابتة، لكنّها تتحرّك باستمرار، وفي القرن الأخير تحرّكت بوتيرة أعلى في تقديري، وهي بحاجة للمزيد([6]).

 


10 ـ الموقف من الولاية التشريعيّة للنبيّ وأهل بيته (التفويض التشريعي أو السنّة المؤسِّسة المستقلّة)

واحدٌ من الموضوعات بالغة الأهميّة في قضايا السنّة النبويّة، موضوعُ السنّة المستقلّة والمؤسِّسة، أو ما يعرف أيضاً بالولاية التشريعيّة أو التفويض التشريعي، فهل يشمل دليل حجيّة السنّة تلك السنّة المؤسّسة لتشريع جديد أو مفهوم جديد، لا عين له في القرآن الكريم ولا يبدو له أثر، أم أن حجيّة السنّة تطال فقط سنن النبي‘ غير هذا النوع من السنّة التي تستقلّ عن القرآن في تقديم مستجدات دينيّة؟

وقد برز اسم أبي إسحاق الشاطبي (790هـ) في هذا الموضوع مخالفاً للجمهور ـ كما قيل ـ إذ رغم وجود بعض الخلافات بين متقدّمي علماء أهل السنّة في حجيّة السنّة المستقلّة قبل عصر الشاطبي، إلا أنّ هذا الموضوع لم يُفرد بالذكر بحثاً مستقلاً إلا في عصره؛ حيث عقد له باباً ذهب فيه إلى القول بعدم حجيّة السنّة المستقلّة، ثم تبعه من لحقه من بعده، واعتمد بعض القرآنيين أو التيار المناهض لحجية السنّة اليوم على مقولات الشاطبي هنا، ثم زادوا عليها آراءهم.

لكنّ جدلاً يلحق طبيعة موقف الذين عارضوا السنّة المستقلّة ـ غير بعض متأخري المتأخّرين ـ طبقاً لما يحدّثنا عنهم الشاطبي، بل جدل حول تحليل موقف الشاطبي نفسه، فماذا يراد من مقولة: «السنّة المستقلّة أو المؤسِّسة»؟ هل يُراد من مقولة: «ليس من سنّة إلا ولها أصل في الكتاب» أنّ السنّة المؤسّسة التي لا أصل لها في الكتاب ليست بحجة، أم أنّ المراد من وراء هذا التنازع أن كلّ ما صدر عن النبي فله أصلٌ في الكتاب حتى لو بدا لنا أنه لا أصل له، إذ يكفي الأصل الإجمالي والدلالة العامة الإشاريّة؟ وفرقٌ كبير بين الرؤيتين.

وبعيداً عن هذا التنازع في تحليل مراد بعض المتقدّمين هنا، فإنّ هذا البحث طُرق أيضاً في التراث الشيعي في حقّ أهل البيت النبويّ عليهم السلام، فهل دور أهل البيت بعد النبيّ هو بيان وشرح ما جاء في الكتاب والسنّة النبويّة وتأصيله وتطبيقه على مصاديقه ونحو ذلك، أمّ أنّ حدود نشاطهم يمتدّ لتأسيس أحكام شرعيّة إلهيّة لم يسبق أن جاءت في القرآن والسنّة النبويّة إطلاقاً، بل يعدّ حديثهم عنها هو المرّة الأولى التي صدر فيها هذا التشريع من قبل المشرّع للناس؟ هذا ما اختلف فيه علماء الشيعة أنفسهم، حتى أنّ الشيخ جعفر السبحاني نقل عن السيّد البروجردي ـ فيما يبدو ـ أنّ الشيخ الصدوق (381هـ) كان يرى أنّ إطلاق تعبير (الشارع) على الإمام هو من الغلوّ.

وقد استدلّ القائلون بالولاية التشريعيّة للنبي وأهل بيته بنصوصٍ من القرآن والسنّة، كما استدلّ النافون بنصوصٍ من القرآن والسنّة.

والذي توصّلتُ إليه هو ثبوت الولاية التشريعيّة للنبيّ بمعنى إمكانيّة أن يأتي بتشريعات ينسبها لله ولا وجود لها في القرآن الكريم، وتكون جزءاً من الشريعة الإلهيّة للناس. أمّا أهل البيت ـ فضلاً عن غيرهم ـ فلم تثبت لهم ولاية تشريعيّة بهذا المعنى أو تفويض تشريعي كذلك، فهم لا يذكرون حكماً لا وجود له في الكتاب والسنّة من قَبل، بل يبيّنون ما عرفوه من القرآن والسنّة مما يتوافقون فيه مع سائر الناس أو يختلفون، وتكون مرجعيّتهم العلميّة في أنّهم القول الفصل عند اختلاف الناس في مفاد الكتاب والسنّة النبويّة.

لكنّ أهلَ البيت ـ وغيرهم أحياناً ـ يملكون أنواعاً أخرى من التفويض غير بيان أحكام جديدة لا وجود لها من قبل، ومن أمثلة ذلك ـ والأمثلة فيها بعض التداخل ـ:

أ ـ التفويض في اختيار البدائل المتوفّرة تنفيذياً وإجرائياً لتطبيق الدين وكيفيّة ممارسته وتفعيله في الحياة.

ب ـ التفويض في تشخيص موضوعات الأحكام الثانوية العامّة التي تتصل بأمر المسلمين ودينهم، من قبيل الضرر والحرج والأهم والمهمّ على المستوى العام.

ج ـ التفويض في تأسيس أحكام حكوميّة مرحلية ملزمة لكنّها ليست جزءاً من التشريع الديني، كما هي صلاحيات الحاكم الشرعي في جعل قوانين تنظيمية مرحلية تخضع للعناوين التشريعية الإلهية العامة، مثل: نظم الأمور، ومراعاة المصلحة، واستهداف المقصد الشرعي الأعلى.

د ـ التفويض الإداري، بمعنى أنّه الحاكم المخوّل إدارة المجتمع الإسلامي.

هـ ـ التفويض في كيفيّة بيان العلوم والأحكام، بمعنى أنّهم يتحيّنون الفرص ويختارون الأسلوب والطريقة المناسبة لبيان الأحكام للناس بما يحقّق خدمة الدين والمؤمنين معاً ويحافظ عليهما.

و ـ التفويض في الأعطيات والمملوكات العامّة والشخصيّة، مثل التفويض في كيفيّة تقسيم الغنائم، وفي عطايا الخمس والزكاة والفيء والجزية والخراج وغير ذلك، بما لا ينافي شرع الله تعالى.

ولهذا الموضوع فوائد كبيرة في الاجتهاد الشرعي، فمثلاً لو ثبت عن النبيّ شيء لا وجود له في القرآن الكريم ونسبه النبيُّ للشريعة الإلهيّة فهو حجّة، ويكون جزءاً من أصل الشرع. ولو نُسب لأهل البيت حكمٌ لا يحتمل ـ عقلائيّاً ـ وجوده في الكتاب والسنّة النبويّة بحيث لو كان لبان، ثم ظهر في عصر الإمام الباقر أو الجواد مثلاً في أوّل مرّة، ففي هذه الحال ينخفض الوثوق بكون هذا الحكم من أصل الشرع وترتفع جداً احتماليّة كونه حكماً ولائيّاً تاريخيّاً. وينتُج عن ذلك أيضاً أنّه لا معنى لممارسة أهل البيت لنَسخ التشريعات الواردة في الكتاب والسنّة.

وهذه النتائج التي توصّلتُ إليها تترك أثراً واضحاً على نتائج بحثيّة في الفقه الإسلامي يخرج الباحث من خلالها بمواقف متعدّدة مخالفة للمشهور([7]).

 


11 ـ تقدّم القرآن على الحديث أو قاعدة عرض الحديث على الكتاب

العلاقة بين الكتاب والسنّة موضوع متشعّب الزوايا، تعرّض له علماء القرآنيّات والتفسير وعلماء الحديث، وكذلك علماء أصول الفقه في مواضع متعدّدة، تارةً بطريقة موسّعة وأخرى بطريقة مختصرة.

وفي هذا السياق تظهر مقولات في غاية الأهميّة، ومنها على سبيل المثال:

1 ـ مقولة اليقين والظنّ من حيث يقينيّة القرآن في صدوره وظنيّة الحديث كذلك في العادة، وطبيعة العلاقة بين الكتاب والسنّة المنقولة من زاوية ايبستمولوجيّة قائمة على ثنائيّة اليقين والظنّ.

2 ـ مقولة العرض على الكتاب أو قانون الطرح، والتي تأتي في سياق النصوص الروائيّة الكثيرة (كثيرة عند الشيعة وقليلة عند أهل السنّة)، التي تؤكّد على ضرورة عرض الحديث على القرآن للتثبّت منه، وطرح ما خالف الكتاب الكريم.

3 ـ مقولة انحصار تفسير القرآن الكريم بالسنّة، وقدرة السنّة على تخصيصه وتقييده وتعديل دلالاته.

هذه المقولات الثلاث وأمثالها تتداخل في دراسة موضوع شبكة العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة، بل والسنّة الواقعيّة أحياناً، وسوف أتكلّم هنا حاليّاً عن المقولة الثانية خاصّة، وشيء من المقولة الأولى.

والمتعارف بين علماء المسلمين أنّ يقينيّة الصدور القرآني لا يمكنها أن تمنح النصّ القرآني تقدّماً في الاعتبار والحجيّة على نصوص السنّة المنقولة ولو كانت ظنيّة الصدور؛ لأنّ حاصل الاجتهاد من القرآن يعتمد على مزدوج الصدور والدلالة معاً، فإذا كان الصدور القرآني يقينيّاً فإنّ الدلالات ظنيّة، ومن ثمّ فالعلاقة بين الكتاب والحديث هي ـ بحسب المحصّلة؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات ـ علاقة الظنّي بالظنّي، الأمر الذي يفتح الطريق أكثر على نصوص السنّة كي تكون لها حكومة وسُلطة على الكتاب، بل قد قال بعضٌ مقولتَه المشهورة: إنّ السنّة قاضية على الكتاب، والكتاب غير قاضٍ على السنّة. وهي المقولة التي عرفناها منذ القرن الثالث الهجري، وتركت بصماتها إلى يومنا هذا على الكثير من مذاهب وفقهاء وعلماء المسلمين.

كما أنّ المتعارف بين العلماء أنّ نصوص العرض على القرآن الكريم، تعني كون الحديث منافياً للقرآن بنحو التباين الكلّي أو الجزئي (كالعامّين من وجه)، فالحديث يقول: لا تجب الصلاة، والقرآن يقول: تجب الصلاة، وفي هذه الحال تقع المعارضة ويُطرح الحديث، أمّا في غير صورتَي التباين، فلا مجال لإعمال قاعدة طرح الحديث أو عرض الحديث على الكتاب. بل ذهب العديد من علماء أهل السنّة إلى التشكيك في روايات عرض الحديث على القرآن واعتبروا أنّها من صنع أعداء السنّة النبويّة والحديث الشريف، والذين يعتبرونهم عادةً من الخوارج والمعتزلة وأمثالهم؛ لأنّ أهل السنّة تصوّروا روايات العرض ذات صلة بإنكار السنّة المستقلّة عن الكتاب، الأمر الذي يهدّد مرجعيّة الحديث تهديداً جدّيّاً عندهم، بل قد طُرح في علم أصول الفقه توظيف نصوص العرض على الكتاب لإثبات بطلان نظريّة حجيّة خبر الواحد الظنّي.

والذي توصّلتُ إليه هو أنّ أحاديث العرض على الكتاب والتي تُعرف أيضاً بأخبار الطرح ـ بعيداً عن أخبار العلاج ـ صحيحةٌ وكثيرة ولا معارض لها، بل حتّى لو لم تكن معتبرة فإنّ القواعد الاجتهاديّة الإيبستمولوجيّة في معايير اليقين والظنّ تقتضي عرض الحديث على الكتاب وتقدّم الكتاب على السنّة المنقولة بهذا المعنى للتقدّم، بعيداً عن مفاهيم التخصيص والتقييد وأمثالها، فالحديث لا يبلغ رتبة الاعتبار قبل أن يجتاز قنطرة العرض على الكتاب الكريم، للتثبّت من عدم ظهور منافٍ للكتاب فيه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ تفسير قاعدة العرض أو قانون الطرح لا يقف عند المعنى الموروث الذي يحصره في دائرة التباين الكلّي والجزئي، بل يعني ـ وفاقاً لجملة من علماء العصر الحديث من أمثال السيد محمّد باقر الصدر والسيّد علي السيستاني والسيد محمّد حسين فضل الله وغيرهم ـ معارضة الحديث لروح القرآن ومزاجه العامّ أيضاً لا المعارضات الحدّيّة فقط.

كما توصّلتُ إلى أنّ نصوص العرض على الكتاب لا تدلّ على بطلان حجيّة السنّة، ولا بطلان حجيّة السنّة المستقلّة، بل ولا على بطلان حجيّة خبر الواحد الظنّي. واللافت أنّ بعض نصوص العرض على الكتاب والتي وردت عن أهل البيت النبوي جاءت تاريخيّاً في سياق محاربة ظاهرة الغلوّ، فراجع([8]).

 


12 ـ الموقف من تاريخيّة التشريعات الدينيّة

المعروف في الفقه الإسلامي وعلى مستوى مناهج الاستنباط الشرعي أنّ الأصل والقاعدة في الأحكام والتشريعات الواردة في الكتاب والسنّة هو أن تؤخذ:

أ ـ كما هي في النصّ.

ب ـ وبنحو التأبيد، وأنّها متوجّهة لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة.

ما لم يقم دليل على اختصاص حكم شرعيٍّ هنا أو هناك بزمن معيّن ذهب وانقضى، أو أنّ خلف ظاهر الحكم الذي في النصّ حكماً آخر هو الأصل وأنّه يحمل صياغةً أخرى.

وينطلق الاجتهاد الشرعي والتنظير الأصولي والتقعيد الفقهي هنا من مجموعة من الأدلّة رغم أنّ هذا البحث لا يُفتح له في العادة باب مستقلّ في الدراسات الأصولية والشرعيّة بهذا العنوان، غير أنّ مراكمات معطيات كلاميّة وما تفيده بعض أدلّة قاعدة الاشتراك في الأحكام وغير ذلك، سمح للفقهاء بالوصول إلى هذه النتيجة (مبدأ موضوعيّة العناوين في الخطابات الشرعيّة ومبدأ نفي التاريخيّة) واعتبارها كالبديهيّة.

ولا يعني ذلك أنّ الفقهاء لم يوافقوا على أنّ بعض الأحكام خرجت عن قاعدة موضوعيّة العناوين أو قاعدة نفي التاريخيّة، بل يرون ذلك استثناءً وأنّه ما لم يقم دليل حاسم عندهم على هذا التحويل من الموضوعيّة إلى الطريقيّة ومن التأبيد إلى الزمنيّة، فإنّهم يتعاملون مع النصوص بالطريقة المدرسيّة المعهودة.

وفي مقابل هذا التوجّه المدرسي المشهور، ظهرت في العقود الأخيرة، بل في القرنين الأخيرين، بين المسلمين، تياراتٌ ورموز تتحدّث عن تاريخيّة التشريعات، وصار المجال للحديث عن التاريخيّة مفتوحاً بشكل أكبر، إلى أن وصل الأمر إلى حدّ القول بأصالة التاريخيّة، بمعنى أنّ الأصل في كلّ تشريع أنّه تاريخيٌّ إلا ما خرج بالدليل.

والكلام في هذا الموضوع طويل، وتعريف التاريخيّة التشريعيّة هو الآخر يعاني من التباسات. وما أعنيه بالتاريخيّة هنا أحد أشكال أربعة:

أ ـ إلغاء الحكم كلياً: كأن نقول بأنّ تعدّد الزوجات إنّما جاء نتيجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والشخصي الذي كانت عليه المرأة آنذاك، وأنّ الإسلام كان بصدد إلغاء التعدّد مطلقاً لكن بشكل تدريجي، فهو يقصد من الأربع عدم الزيادة لا تقرير جواز أكثر من الواحدة، وهذا يعني أنّه بمرور الأيام سوف يصبح الزواج غير متعدّد انسجاماً مع السياسة التدريجية المذكورة. أو نقول: إنّ الجهاد الابتدائي من تشريعات ما يسمّى بمرحلة التأسيس، دون الاستقرار، فليس له معنى اليوم؛ لذهاب مرحلة التأسيس كليّاً.

ب ـ تضييق الحكم وتقييده: كأن يقال بأنّ الروايات الواردة في الحثّ على الإكثار من النسل ليست مطلقةً، وإنما صدرت في ظرفٍ كان المسلمون فيه قلّةً قليلة يحتاجون للعديد، حيث كانت الكثرة العددية في الحروب مصدراً للقوّة والعزّة، أما وقد كثر المسلمون فلا معنى لهذه النصوص حينئذٍ، ولا سيما أنّ الكثرة العدديّة لم تعد هي المعيار النهائي في موازين القوى في الحروب، فإنّ القراءة التاريخية لهذه النصوص قيّدت استحباب الإكثار من النسل في حال حاجة المجتمع وقوّته إلى ذلك، فألغت في الحكم طبيعةَ الإطلاق.

ج ـ توسعة الحكم: ومثال ذلك أن يقال بأنّ أدلّة اشتراط الرؤية في ثبوت الهلال إنّما جاءت على أساس الوضع التاريخي آنذاك؛ إذ لم يكن هناك من سبيل لليقين بدخول الشهر إلا ذلك، وإنما العبرة باليقين، فلو تطوّرت العلوم لما ظلّت الرؤية السبيل الوحيد لإثبات الشهور، بل صار اليقين بدخول الشهر هو الشرط الحقيقي، فيُحمل شرط الرؤية على الاعتبار التاريخي، وهذا ما يوسّع وسائل إثبات الشهور من خصوص الرؤية إلى غير ذلك مما يعطي اليقين.

د ـ توسعة الحكم وتضييقه معاً: وهذا مثل القول بأنّ دليل تحريم الشطرنج لو قرأناه تاريخيّاً باعتبار ذلك الزمان، فسنتوصل إلى تقييد تحريم الشطرنج بحالة كونها آلة قمار، وفي الوقت عينه سوف نفهم منه التوسّع في التحريم من الشطرنج لمطلق آلات القمار، فنحن هنا أمام توسعة من جهة وتضييق من جهة ثانية.

من هنا لا تعني التاريخيّة حصراً إلغاءَ الأحكام، بل إعادة فهمها انطلاقاً من مقاربات سياقية زمنيّة، وهذا أمرٌ مهم جدّاً.

والذي توصّلتُ إليه أنّه لا يوجد أصلٌ مرجعي اسمه أصالة الموضوعيّة ولا أصالة عدم التاريخيّة، كما لا يوجد أصلٌ اسمه أصالة التاريخيّة، بل بحث شبكة العلاقة بين التشريع والسياقات الزمنيّة يجب أن يكون جزءاً من كلّ عمليّة اجتهاديّة يقوم بها الفقيه في مختلف الأبواب والموضوعات، وعليه مراقبة الاحتمالات والنظر في القرائن والشواهد لصالح فرضيّة التاريخيّة أو عدمها، أو فرضيّة تخطّي الدلالة الحرفية وعدمها. فإذا ترجّح في نظره ـ نتيجة شواهد أو تحليل موضوعي معيّن، لا نتيجة مزاج أو فوضى الاحتمالات ـ أنّ الحكم الفلاني يؤخذ كما هو في ظاهر حرفيّة النصّ ولكُلّ الأزمنة، أمكن الإفتاء بذلك، وإذا ترجّح لديه من خلال معطيات وتحليلات، أنّ الحكم الفلاني هو حكمٌ مرتبط بسياقاته التاريخيّة، وأنّ علينا القول بانتهاء عصره أو بإعادة إنتاج فهمٍ جديد له يتخطّى حرفيّة النصّ والخطاب، لزمه الإفتاء على وفق ذلك، حيث تقوم لديه الحجّة، وأمّا إذا تأرجحت الأدلّة ورأى الفقيه شواهد ـ ولو ناقصة ـ للتاريخية وعدمها بحيث صعب عليه البتّ، ووقع الفقيه فيما أُطلقُ عليه دائماً «الشكّ الحقيقي»، بحيث كان احتمال التاريخيّة وعدمها متساوياً أو متقارباً عنده، فإنّ اللازم هنا هو الأخذ بالقدر المتيقّن، وهذا القدر المتيقّن يختلف من حالٍ لآخر، فمثلاً في مثال الشطرنج يكون القدر المتيقّن هو حرمة الشطرنج حالة كونها آلة قمار، لا مطلقاً ولا حرمة كلّ آلة قمار عبر دليل الشطرنج نفسه، وفي مثال رؤية الهلال يكون القدر المتيقّن هو الأخذ بالرؤية المصاحبة لليقين لا بمطلق الرؤية ولا بمطلق اليقين، فلا تُنتج التاريخيّة إلغاء الحكم، بل تُعيد إنتاجه، فانتبه.

من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد في الفقه المدرسي، هو عدم اعتقادي بأصالة الموضوعيّة في العناوين الواردة في الخطابات ولا بأصالة نفي التاريخيّة، بل إنّ هذا الذي توصّلتُ إليه يفرض على الفقيه مهمّات جديدة تقوم على رصد المقاربات التاريخيّة لإعادة فهم النص ودلالاته ومدياته([9]).

 


13 ـ تحديد معنى القياس الذي نهى عنه أئمّة أهل البيت

يعتبر الموقف من القياس من أهمّ عناصر الافتراق في المنهج الاجتهادي بين جمهور أهل السنّة من جهة، والإماميّة والظاهريّة وأمثالهم من جهةٍ أخرى، وقد وردت عشرات الروايات عن أئمّة أهل البيت (بالمفهوم الإمامي) في نقد القياس ورفضه، وعادة ما يفهم كثيرون من القياس المنصوص على رفضه في كلمات أهل البيت مطلق أشكال القياس المتعارفة المستخدمة في وسط أهل السنّة بعد القرن الثالث والرابع الهجريّين إلى يومنا هذا. والسؤال الذي يُطرح هنا: ما هو القياس أو الرأي الذي رفضه أهل البيت؟ وأيّ قياس تحفّظوا عليه؟

توجد هنا فرضيات محتملة، وبعضهم نصّ على بعضها، وأهمّها:

الفرضيّة الأولى: أن يكون المراد بالقياس ونحو ذلك، ما هو المعروف اليوم، وتداول بين علماء أهل السنّة منذ القرن الخامس الهجري ـ في الحدّ الأدنى ـ وما بعد، وهو محاولة الحصول على علّة الحكم في الأصل بهدف تحقيقها في الفرع؛ لإثبات الحكم في الفرع بما هو في الأصل، وقد صاغوا له تعريفات متعدّدة لسنا نهدف الوقوف عندها.

الفرضيّة الثانية: أن يكون القياس هو نقل الحكم من الأصل إلى الفرع عبر مجرّد التشابه، لا عبر العلّة الآتية من الطرق الأخرى المعروفة في مسالك التعليل، وهو ما يُسمّى بقياس الشّبَه، بمعنى أنّنا نتكلّم عن قياس بدائي ينطلق من مجرّد حدّ أدنى من الشبه بين الأصل والفرع، دون دخول في تعميق شكل هذه العلاقة الشبهيّة تحت عنوان العلّة بمفهومها الدقيق المتأخّر.

وادّعاء هذه الفرضيّة قائم على أنّ القياس وُلد بهذه الطريقة البدائيّة العفويّة البسيطة، وأنّه تغيّر وتقعّد فيما بعد بالتدريج، وأنّ سلوك الأحناف الأوائل كانت مشكلته في ذلك.

الفرضيّة الثالثة: أن يكون القياس المنهيّ عنه عبارة عن التماس العلل الواقعيّة للأحكام الشرعيّة من طريق العقل والقناعات الذاتيّة، وجعلها مقياساً لصحّة النصوص التشريعيّة، فما وافقها فهو حكم الله الذي يؤخذ به، وما خالفها كان موضعاً للرفض أو التشكيك.

بناء على هذه الفرضيّة سوف يكون القياس الممنوع عنه هو نوع من الاجتهاد العقلي أو الشخصي في مقابل النصّ، فنحن نلتمس العلل الواقعيّة ثم نحاكم النصوص عبر فهمنا للعلل الواقعية فهماً آتياً من العقل هذه المرّة، وبهذا تقترب فكرة القياس من فكرة «الاجتهاد في مقابل النصّ».

وفرق هذه الفرضيّة عن السابقتين أنّها تُستعمل لنفي الحكم وإثباته، بينما القياس العلّي والشبهي يستعملان لإثبات حكمٍ ما في غير منصوصٍ بناء على حكمٍ في منصوص.

هذه الفرضيّة هي التي يبدو اختارها السيد محمّد تقي الحكيم في تحليل طبيعة النزاع بين الإمام الصادق والإمام أبي حنيفة. كما يبدو من الشيخ حسن الجواهري الميل لهذا الافتراض هنا. بل يبدو ذلك أيضاً من الشيخ جعفر السبحاني، والسيد محمد علي أيازي وغيرهم.

لكن كون هذا هو المنهيّ عنه عند أهل البيت النبوي لا يعني حجيّة القياس المتداول اليوم، بل يعني أنّ القياس بمعناه القديم منهيٌّ عنه، ولكنّه بمعناه اللاحق وإن لم يكن منهيّاً عنه بعنوانه، لكنّه لا دليل على حجيّته ما لم يُفد اليقين، فهو من الظنّ الذي لم يقم دليل على حجيّته. نعم على القول بالانسداد وأنّه لا يخرج عن دليل الانسداد سوى الظنّ القياسي؛ لكونه منهياً عنه، سوف يكون دليل الانسداد شاملاً للقياس بمعناه اللاحق دون وجود مانع في هذه الحال، وهذا ما له تأثير كبير على الانسداديّين لو قلنا بهذه الفرضيّة.

ويمكننا تطوير هذه الفرضيّة أكثر لتستوعب كلّ ممارسة تحدّد الموقف من النصّ أو الموقف من دلالة النصّ وفقاً لرأي الإنسان وقناعاته التي يكوّنها من خارج النصوص، فيستوعب الأمر قياس صدور النص على الرأي والقناعة الشخصيّة تارةً وقياس دلالة النصّ تارةً أخرى بما يسمح بالتأويل والتصرّف في معنى الحديث بما ينسجم مع قناعاته الخاصّة المتولّدة مسبقاً من خارج السياق النصّي.

الفرضيّة الرابعة: أن يكون المراد من القياس مطلق التقدير، لا قياس شيء على شيء، فإنّ القياس بمعنى التقدير وارد في اللغة، وعليه فيشمل القياس كلّ عمليّة يقوم فيها الفقيه بتقدير الموقف ولو خارج إطار النصوص، ومن ثم يستوعب المصلحة المرسلة والرأي وغير ذلك مما يُعتمد أساساً في الاستنباط فيما لا نصّ فيه، إذا لم يقم عليه دليل شرعيّ خاص يمنحه الحجيّة.

الفرضيّة الخامسة: اعتماد النظر الشخصي في اتخاذ الموقف الشرعي دون الرجوع للنصّ رغم إمكان الوصول إليه. ويعني ذلك أنّ الفقيه صاحب الرأي والقياس هو ذلك الشخص الذي يعوّل كثيراً على آرائه وهو قليل الاهتمام بمرجعيّة الرواية والحديث وعموم النصّ، مع توفّر الأدلّة النصيّة إمّا واقعاً منكشفاً بين يديه أو على تقدير الفحص، فإنّ بإمكانه الوصول لكنّه لا يهتمّ كثيراً لمرجعيّة النصّ بالمستوى المطلوب، بل يميل أكثر لرأيه وقياسه.

وقد تلتقي الفرضيّات الثلاث الأخيرة لتشكّل إطاراً عامّاً لمرجعيّة الرأي الشخصي، وأنّ مدرسة الرأي والقياس في القرن الأوّل والثاني، لم تكن غير تعبير عن مرجعيّة النظر الشخصي في القضايا وتحكيمها وإعطاء هذه المرجعيّة دوراً كبيراً في الإفتاء، وأنّ فكرة التعليل وبناء نظام تبرير باسم القياس وما يرتبط به من سياقات.. جاءت لاحقاً، وتمّ تأويل الأمور بطريقة غير دقيقة فيما بعد ليصبح المشهد في القرنين الأوّلين منتظماً على سياق النظريّة التي وضعت في القرون اللاحقة على قانون العلّة ومسالكها، وهذه فكرة يؤيّدها غير واحد من الباحثين ليس آخرهم عبد المجيد تركي، في دراسته الموسّعة في هذا الصدد، متابعاً نسبيّاً ما توصّل إليه جوزيف شاخت في قراءته التاريخيّة.

والذي توصّلتُ إليه بعد دراسة مطوّلة حول الموضوع، هو أنّ المراد من القياس المنهيّ عنه في نصوص أهل البيت هو الفرضيّة الثالثة والخامسة، والتي تعني اعتماد الإنسان على عقله وتقديراته للأمور تارةً بلا رجوع للنصوص أو إذا رجع إليها أخرى فهو يعمد لتأويلها والتصرّف فيها بما ينسجم مع قناعاته الشخصيّة المسبقة، فإذا كان النصّ الديني دالاً ـ مثلاً ـ على وجوب الحجاب للمرأة، لكنّه رأى الحجاب مفهوماً غير مقنع له، فهو إمّا لا يهتمّ كثيراً لمراجعة النصوص الدينيّة بل يُصدر حكمه بشكلٍ مسبق ويدّعي أنّ الله يجب أن يكون قد قال ذلك، أو أنّه إذا راجع النصوص فهو يعمد لتأويلها والتصرّف فيها واختراع أيّ افتراض ولو واهٍ للفرار من معطياتها، كما يفعل كثيرون اليوم. فالمنهيّ عنه هو اعتماد الاجتهاد خارج النص بوصفه المرجع الحقيقي رغم وجود النصّ، لا القياس القائم على مسالك التعليل ونظريّاتها، أو على محاولة اكتشاف العلّة بهدف تعميمها أو ممارسة تخصيص عند فقدها، ولا غير ذلك. نعم يحتمل احتمالاً ضعيفاً أن تشمل نصوصُ النهي الفرضيةَ الثانية أيضاً، وهو قياس الشبه البدائي الذي ظهر في القرن الثاني الهجري قبل تطوير نظريّة القياس عند أهل السنّة لاحقاً. أمّا الفرضيّة الأولى والرابعة فلا يظهر من النصوص ما يرتبط بها. لكنّ هذا لا يعني حجيّتها كما ألمحنا سابقاً، بل هي حيث لا تفيد إلا الظنّ بحاجة لإثبات حجيّة الظنّ الآتي منها([10]).

 


14 ـ موقع التعليل النصّي من الاجتهاد الشرعي

التعليل النصّي أو العلّة المنصوصة من البحوث التي أسهب علم أصول الفقه الإسلامي في دراستها، واتُخذت من هذه العلّة مواقف متعدّدة.

ونعني بالتعليل النصّي أن تدلّ نصوص الكتاب والسنّة بنفسها على علّة الحكم، إمّا بنحو العلّة المِلاكيّة (المصلحة والمفسدة المبرّرتين لجعل الحكم)، أو بنحو العلّة المناطيّة (الصفة أو المدار الذي يدور الحكم حوله وتبعاً له، مثل صفة الإسكار في تحريم الخمر)، سواء كانتا ـ الملاكية والمناطيّة ـ علّةً عامّة، كما في المقاصد الشرعية العامّة، أو خاصّة كما في هذا المورد الجزئي هنا أو هناك.

كما أنّ التعليل النصّي الذي نعنيه هنا يستوعب كلّ دلالة ظاهرة من الكلام تكون حجّة ومعتبرة، سواء اندرجت ضمن النصّ الصريح أو الظهور أو ضمن الإيماء والتنبيه والإشارة والاقتضاء وغير ذلك، ما دامت تُفهم في العرف اللغوي العام تعليلاً للحكم الشرعي أو لمجموعة من الأحكام أو لمجموعة الأحكام. وبهذا يكون هذا الموضوع شاملاً لعدّة مسالك من مسالك التعليل المعروفة عند أصوليّي أهل السنّة.

والذي توصّلتُ إليه في دراسة التعليل النصّي أنّ الفقه الإسلامي لم يولِ التعليلَ النصّي الأهميّةَ التي يحملها، بل قام في كثيرٍ من الأحيان بإجهاض التعليلات النصيّة تحت مبرّرات متعدّدة من نوع حكمة الحكم الموجبة ـ في بعض مدارس الاجتهاد الإسلامي ـ لسلب تأثير العلّة المنصوصة في الاستنباط الشرعي. وقد رأيتُ أنّه يمكن توظيف الكثير من التعليلات النصيّة الواردة في الكتاب والسنّة في مجال الاجتهاد الشرعي، تارةً في توسعة نطاق الحكم، وهو ما يحصل في بعض الموارد، وأخرى في تضييق نطاق الحكم وهو ما يمكن حصوله بشكل أوسع، بل إنّ التعليل النصّي يمكنه ـ ضمن ضوابط معيّنة ـ تعديل دلالة الدليل على هويّة الحكم نفسه، بما لا يسمح المجال بتفصيله هنا.

من هنا دعوتُ للتفكير الجادّ بالنصوص التعليليّة والنظر إليها وإعطائها قيمةً مضافة في فهم واستنباط الأحكام الشرعيّة. ومع الأسف لا يمكنني هنا شرح تمام التفاصيل المتعلّقة بهذا الموضوع نظراً لسعتها وتشعّبها. وقناعاتي في موضوع التعليل النصّي تعتبر أحد عناصر اختلاف آرائي عن العديد من قراءات المشهور للموضوعات الفقهيّة والفتاوى([11]).

 


15 ـ الموقف من قاعدة "درء المفسدة أولى من جلب المصلحة"

تعتبر هذه القاعدة من القواعد الشهيرة في أصول الفقه الإسلامي، وبخاصّة في الوسط السنّي، وقد اعتمدتها المجلّة العدليّة في المادّة الثلاثين. وعادةً ما تُبحث عندهم في سياق دراسة القواعد الفقهيّة ومباحث الأشباه والنظائر، ولا سيما بمناسبة الحديث عن قاعدة أخرى يُطلق عليها قاعدة: (الضرر يُزال)، إذ تعدّ من توابعها ولواحقها، ولو من جهة اعتبارهم أنّ دفع المفسدة نوعٌ من إزالة الضرر، وبهذا تكون هذه القاعدة ذات صلة تفرّعيّة وثيقة أيضاً بقاعدة نفي الضرر (لا ضرر). كما يبدو أنّها مقبولة عند الإباضيّة.

وتُستخدم لبيان أو عنونة هذه القاعدة صيغ كثيرة يجمعها: درء (دفع/رعاية درء/عناية الشرع بدرء) المفاسد (الضرر/المفسدة/الشرّ/المضرّة) مقدّم (أولى/أهمّ/آكد) على جلب (تحصيل/إيصال) المصالح (المصلحة/المسارّ/الخير/النفع/المنافع). وقد يعبّر عنها بقاعدة «الاجتناب مقدّم على الاجتلاب»، كما تتصل أيضاً بقاعدة «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام».

وهذه القاعدة يمكن أن تدرس على مستويين: العلم والاحتمال، بمعنى أنّنا تارةً نتكلّم عن أنّ دفع المفسدة المعلومة مقدّم على جلب المصلحة المعلومة، وأخرى نتكلّم عن أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة.

لكن لا تُطلق هذه القاعدة على كليّتها كما يتصوّر بعضٌ، بل لها بعض الشروط والقيود، التي تجعلها تقع، في مركز الخلاف فيها، في مقابل قاعدة التخيير، لا غير.

والذي توصّلتُ إليه أنّه لم يثبت وجود قاعدة مستقلّة بعنوانها من هذا النوع (درء المفسدة المعلومة أو المحتملة أولى من جلب المصلحة المعلومة أو المحتملة)، بل ليس هناك إلا قاعدة واحدة، وهي قاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ، فقد تكون المصلحة أهمّ من المفسدة، فتقدَّم المصلحةُ، وقد تكون المفسدة فتقدّم المفسدة، وعندما تتساوى المصلحة مع المفسدة في الأهميّة والخطورة فإنّ القاعدة هي التخيير لا دفع المفسدة، وعليه فقاعدة تقديم درء المفاسد ـ والتي تُتَّهم بأنّها المسؤولة عن تثبيط حركة المسلمين وعن هيمنة قلق المفسدة عليهم على أمل المصالح، وبخاصّة في فقه المستقبليّات ـ هي قاعدة غير ثابتة بما هي قاعدة([12]).

 


16 ـ الموقف من نظريّة الاستصلاح أو المصلحة المرسلة

تعتبر نظريّة الاستصلاح أو المصالح المرسلة من النظريّات الاجتهاديّة التي شهدت نقاشاً طويلاً عبر التاريخ بين المدارس الفقهيّة عند المسلمين حتى فيما بين أهل السنّة أنفسهم، ولطالما كان يعتبرها المنتصرون لها واحدة من وسائل تطوّر الاجتهاد واستمراريّته عبر التاريخ ومرونته وقدرته على مواكبة الوقائع المستجدّة، حتى عبّر عنها عبد الوهاب خلاف (1956م) بأنّها أخصب الطرق فيما لا نصّ فيه، وقال ابن العربي: «لم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة». وهي تصنّف في عداد الأدلّة المساعِدة غير اللفظيّة على الأحكام الشرعيّة، إذ لا يتمّ الاستناد فيها على نصٍّ من كتابٍ أو سنّة، بل على عمليّة تركيبية استدلاليّة معنويّة، ومن هنا فهي تصنّف ضمن المناهج الاجتهاديّة فيما لا نصّ فيه ولا ما هو في قوّة النصّ كالإجماع.

وقد اعتبر الفخر الرازي نظريّة المصلحة المرسلة من نظريات الوسائط التي تقع بين النصّ الشرعيّ والقياس الشرعي، ذاكراً إلى جانبها الاستقراء والاستصحاب وغيرهما، فيما أطلق الغزالي عليها تعبير قياس المعنى. ولهذا نجد الحديث عنها في كتب أصول الفقه السنّي في بابَي: القياس والاستدلال.

وقد اختلفت التسميات التي أُطلقت على هذه النظريّة، وأبرزها:

1 ـ المصلحة المرسلة.

2 ـ المناسب المرسل، وهو استخدام أمثال الغزالي وابن الحاجب والآمدي في بعض كتبهم، وهذا الاستخدام موجودٌ عند متكلّمي الأصوليّين.

3 ـ الاستدلال أو الاستدلال المرسل أو الاستصلاح. والغريب أنّ الشيخ محمّد إبراهيم الجناتي فصلَ المصالح المرسلة عن الاستصلاح، واعتبر كلّ واحد منهما مصدراً اجتهاديّاً مختلفاً عن الثاني، مقرّباً الأمر بأنّ الاستصلاح يكون في موارد تتحقّق فيها موازنة بين المصالح والمفاسد، بينما المصلحة المرسلة ليس في موردها سوى مصلحة، وليس هناك مفسدة، حتى يتطلب الأمر موازنة. وكلامه ليس له عين ولا أثر في التراث الاجتهادي عند المسلمين بحسب تتبّعي ومراجعتي المتواضعة، بل عباراتهم واضحة في إطلاق التعبيرين بمعنى واحد من جهتين، حتى أنّ الجناتي بنفسه يقرّ بأنّ الغزالي لم يفرّق بينهما، ولم نجد كتاباً سنيّاً يفصل بين هذين المصطلحين بهذه الطريقة.

4 ـ القياس المرسل، وهو القياس المصلحي.

وقد انقسم الموقف ـ إجمالاً ـ من هذه النظريّة إلى عدّة آراء، أبرزها:

أ ـ الموافقة المطلقة، وهو المنسوب إلى جمهور المالكيّة والحنابلة، ومن أبرزهم الإمام الطوفي (716هـ).

ب ـ الرفض المطلق، وهو ما نسب إلى الأكثر، بل ذكر ابن رشد الحفيد (595هـ) أنّه لا يقول به إلا مالك من فقهاء الأمصار. وهو ما يظهر أيضاً من الإماميّة والشافعيّة، بصرف النظر عن فكرة إرجاع المصالح المرسلة إلى المصالح المعتبرة أو الملائمة، كما نسب للأحناف وكانت هناك مناقشات في هذه النسبة.

وقد التبس الأمر على بعض الباحثين المعاصرين، فظنّ أنّ قول الشيعة الإماميّة بقاعدة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد (التعليل المصلحي العام) كأنّه يشي بنوع تناقض مع رفضهم مبدأ المصلحة في الاجتهاد، مع أنّ الشيعة هناك يقبلون بالمصلحة بوصفها خاصية واقعيّة، بينما هنا يرفضونها بوصفها خاصية معرفيّة اجتهاديّة، والتمييز بينهما واضح، فلا تناقض في منظومتهم. هذا وتوجد نقاشات مطوّلة في تصحيح هذه النسب هنا وهناك.

ج ـ الموافقة عليها ضمن إدخالها في مثل كلّيات مقاصد الشريعة، بمعنى أنّها نظريّة صحيحة إذا كانت تهدف للوصول إلى هذه المقاصد المأخوذة من مجموع النصوص وكانت متفقة معها لا غير، وهو ما يُنسب إلى الزيديّة. ويسمّيها بعض الباحثين المعاصرين بالمصلحة المعتبرة ضمنيّاً، وإن لم تكن معتبرة إسميّاً؛ لأنّ موافقتها للمقاصد يمنحها هذا اللون من الاعتبار.

د ـ الموافقة عليها في خصوص المصالح الضروريّة، أو بقيد أن تكون أيضاً قطعيّة وكليّة، لا في مطلق أنواع المصالح. وهذا ما ذهب إليه الغزالي، رغم تصديره البحث في المصلحة المرسلة بوصفها بأنّها من الأصول الموهومة. وهذا الرأي الرابع ربما يمكن إدراجه ضمن الرأي الثالث.

وثمّة قول بأنّ ما كان يسمّيه مالك بالمصلحة المرسلة هو بعينه ما عاد وأُطلق عليه لاحقاً نظريّة مقاصد الشريعة، أو ما كان يمارسه الآخرون تحت عنوان: المناسبة غير المقيّدة، أو هو أمرٌ متفق عليه في الأصل لكنّ عدم وضوح معناه لدى الباحثين فيما بعد أوجب ظنّ الاختلاف، كما يُلمح إلى الأمر الأخير الشيخُ البوطي.

لكنّ بعض الباحثين يميّز بين المصلحة المرسلة والمقاصد، والكلام فيه تفصيل لا يسمح به المجال هنا.

وبهذا وغيره يَبِينُ لنا أنّ نسبة الأقوال هنا في غاية الاضطراب والتذبذب والتعارض، وهذا ما يؤكّد لي:

أ ـ إمّا أنّ نظريّة الاستصلاح مرّت بمراحل بحيث بدت في كلّ مرحلة قد اتُخِذت منها مواقف مختلفة عن المرحلة السابقة، وهذا ما أوجب اضطراب النسبة.

ب ـ أو أنّها استُنبطت استنباطاً من ممارسات هذا الفقيه أو ذاك دون وجود نصوص أصولية واضحة ونهائية له كما يبدو أنّه حصل بعضَ الشيء مع فهم موقف الإمام مالك.

ج ـ أو أنّ تنوّع الشروط التي ذكروها هنا وهناك أوجب ظهور فهوم متعدّدة لهذه النظريّة، ولا سيما أنّ معنى المرسَل يبدو غير مفهوم بشكل واضح خاصّةً بعد قيود من نوع لا نصّ خاصّاً فيه أو لا يوجد أصل كلّي يشمله..

د ـ بل إنّ الموقف من أنواع المناسب في باب القياس من حيث الاقتصار على المؤثر منه ـ كما هو المنسوب إلى الأحناف ـ أو الشمول لغيره، ترك تأثيرات عجيبة هنا جعلت الموقف ملتبساً للغاية.

هـ ـ أو أنّ الخلاف كان منحصراً ـ ولو في حقبة زمنيّة معيّنة ـ في اعتبار الاستصلاح دليلاً مستقلاً عن نظريّات: النصّ والإجماع والقياس وتوابعها، فالشافعيّة مثلاً تُنكر المصلحة بوصفها دليلاً مستقلاً، فيما تؤمن بها المالكيّة بالوصف عينه وهكذا.

و ـ أو أنّنا أمام خلافات لفظيّة ومشكلة تعابير، باعتبار أنّ القرون الخمسة الهجريّة الأولى لم تكن فيها المصطلحات قد نضجت وانفصلت عن بعضها بطريقة دقيقة، فالتعابير كانت تتراوح بين الاستخدامات اللغويّة والتوظيفات المصطلحيّة أحياناً.

والذي توصّلتُ إليه هو أنّه حيث إنّني لا أؤمن بشمول الشريعة لكلّ وقائع الحياة، لهذا أعتبر أنّ ما لا دليل على وجوده من الأدلّة الحجّة المعتبرة، كالنصوص الكتابية والحديثيّة الثابتة صدوراً ودلالة، ينبغي فيه إجراء أصالة عدم الجعل القانوني من المولى سبحانه، حيث لا علم بوجود حكم، بلا حاجة لتكلّف اختلاق قواعد اجتهاديّة للوصول إليه حذراً من ضياع الشرع، إذ هو غير معلوم الوجود أصلاً، لا أنّه معلوم الوجود، ويجب ـ بأيّ ثمن ـ الوصول إليه.

كما أنّ التقريبات الاستدلاليّة التي قُدّمت لصالح تأسيس قاعدة منهاجيّة في الاجتهاد الشرعي باسم المصالح المرسلة، بحيث يتمّ من خلالها استخراج أحكام الله تعالى فيما لا نصّ فيه ولا دليل عليه، كلّها تخضع للنقاش والنظر، وليست متينة وكافية. ومجرّد ظنّ المصلحة، بل حتى اليقين بها، لا يعطي ظنّاً بالحكم الشرعي أو يقيناً به بالضرورة، بل لو أعطى ظنّاً فإنّ هذا الظنّ لا دليل على اعتباره وحجيّته.

نعم، غاية ما يمكن لنا إثباته هو أنّ على الهيئة الاجتماعيّة للمسلمين (أو الدولة أو ولي الأمر) أن يعتمدوا المصلحة أو عدم المفسدة في سياستهم الشرعيّة، فالمصلحة المدرَكة بالعقل الإنساني شرطٌ في سنّ القوانين في دائرة منطقة الفراغ، ومتولّو شؤون المجتمع الإسلامي مسؤولون عن العمل لما فيه صالح المسلمين، لكنّ الناتج عن مقرّراتهم وقوانينهم ليس حكماً شرعيّاً استنبطناه بالمصلحة، وإنّما هو حكم ولائي سلطاني إداري تدبيري وجبت طاعته، ولكنّه ليس جزءاً من منظومة الشريعة الإسلامية في نفسه.

وهذا هو الفارق بيني وبين القائلين بالمصلحة المرسلة، فنحن نقبل أن يقوم المتولّون لشؤون المسلمين بوضع قوانين معيارها المصلحة الموائمة مع مقاصد الشريعة وغاياتها، وغير المعارضة للنصوص والأحكام الشرعيّة، بل نرى لزوم ذلك شرعاً، لكنّنا لا نفسّر الناتج القانوني لهذه العمليّة بكونه استكشافاً لحكم الله في الواقعة، وإنّما هو حكمُ البشر فيها. وأعتقد لو أنّ الاجتهاد السنّي تخلّى منذ البداية عن فكرة الشموليّة، لم يكن بحاجة لجعل المصالح المرسلة أداةً في الاجتهاد، بل لقبل بها بوصفها أداةً في التقنين منتجةً لسلسلةٍ قانونية وإجرائيّات واجبة الطاعة في هدي قواعد الشرع ومقاصده، لكنّها لا تمثل جزءاً من الشريعة.

فخلاصة الموقف في المصلحة المرسلة، أنّها ليست قاعدةً في الاجتهاد الشرعي، بل هي قاعدةٌ في السياسة الإداريّة الشرعيّة.

ومن الطبيعي أنّ هذه النتيجة التي توصّلتُ إليها في المصالح المرسلة، تجعل الكثير من الآراء الفقهيّة المتداولة في الفقه السنّي غير صحيحة من وجهة نظري([13]).

 


17 ـ هل حقّاً يبدو نظام المستحبّات والمكروهات والآداب في الفقه الإسلامي هشّاً؟!

يستغرب كثيرون عندما يتمّ البحث في قضايا تنتمي ـ في التصنيف الفقهي ـ إلى قسم المستحبات والمكروهات والسنن والآداب وفضائل الأعمال وما شابه ذلك.. يستغربون من النقاش في الكثير جدّاً من هذه المندوبات والمكروهات و.. الأمر الذي يثير في أذهانهم سؤالاً: هل هذه المندوبات والمكروهات هشّة في الفقه الإسلامي إلى هذا الحدّ بحيث إنّ أكثر من ثمانين بالمائة منها غير ثابت؟! هل هذا معقول؟!

ولرفع الاستغراب وممارسة فهم أفضل للتراث الفقهي، يلزمنا أن نعرف حقائق أربع:

الحقيقة الأولى: قاعدة التسامح في أدلّة السنن، والتي دفعت الكثير جدّاً من العلماء لعدم التحقّق من ثبوت هذا المستحبّ أو ذاك المكروه، فبمجرّد وجود روايةٍ فيه ولو ضعيفة جدّاً، يُعتبر ذلك ـ من وجهة نظر قاعدة التسامح أو قاعدة فضائل الأعمال ـ كافياً للإفتاء بالاستحباب أو الكراهة، وبهذا يظهر عدد هائل من المكروهات والمندوبات في كتب الفقه والآداب والأخلاق مبنيّاً على هذه القاعدة.

ومن الطبيعي في هذه الحال لو أنّ شخصاً أنكر هذه القاعدة ـ كما هي الحال مع الكثير من متأخّري المتأخّرين من الفقهاء والأصوليّين ـ ثمّ أراد إثبات هذه المستحبات أو المكروهات بعيداً عن القاعدة.. من الطبيعي أن يجد أنّ الكثير جدّاً منها ليس هناك ما يُثبته عنده. وهذا لا يعني أنّ تحوّلاً هائلاً قد حصل في دراسة هذه المستحبّات، بحيث كانت ثابتة والآن أكثر من ثمانين في المائة منها لم يعد ثابتاً، بحيث نسأل: كيف يُعقل أنّها برمّتها قد سقطت؟! إنّما التحوّل كان في شيءٍ واحد وهو قاعدة التسامح نفسها.

الحقيقة الثانية: فكرة رجاء المطلوبيّة بوصفها بديلاً ممكناً، بمعنى أنّ الكثير من الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين، لا يجدون ضرورةً ـ في كتبهم الفتوائيّة ورسائلهم العمليّة ـ لتمييز المستحبّ عن غيره مما لم يثبت استحبابه عندهم، لهذا فهم يذكرون الكثير من تلك الأعمال التي ليس من الضروري أن يكون ثابتاً عندهم استحبابها أو كراهتها، لكنّهم يكتفون في مقدّمة الرسالة العمليّة مثلاً، بالقول بأنّ الكثير من المستحبّات والمكروهات في هذه الرسالة لم يثبت لديهم، انطلاقاً من عدم اعتقادهم أساساً بقاعدة التسامح، فيطلبون من المكلّفين إذا لاحظوا مستحبّاً مذكوراً في هذه الرسالة العمليّة أن يأتي به رجاءً، أي برجاء المطلوبيّة دون نيّة الورود أو كونه ثابتَ الاستحباب، وبهذا لا يميّزون في هذه الكتب بين المستحبّ الثابت عندهم والذي ليس ثابتاً، الأمر الذي يُبقي كميّة المستحبّات والمكروهات في الذهن العام واحدة، لأنّ المكلّف العادي سوف لا يلاحظ نقصاناً في العدد، بينما لو قام فقيهٌ بالكشف عمّا ثبت استحبابه وما لم يثبت، فقسّم المستحبّات في رسالته العمليّة ـ مثلاً ـ إلى ما ثبت استحبابه وما لم يثبت، وميّز ما ثبت استحبابه عمّا لم يثبت عنده، لوجدنا أنّ ثمانين في المائة مثلاً لم يثبت عنده، بعد استبعاد قاعدة التسامح، فطريقة التدوين الفقهي الفتوائي لعبت دوراً في الإيحاء للجمهور بكمّيةٍ هائلة من المستحبّات، أو على الأقلّ لم تساهم في الكشف عن الرقم الحقيقي لما ثبت استحبابه أو كراهته، مما يوحي للمتلقّي لاحقاً أنّ نظام المستحبّات هشٌّ عندما يجري التدقيق فيه، أو أنّ الناقدين للمستحبّات والمكروهات مفرطون أو مبالغون، وفي الحقيقة الأمر ليس كذلك بالدقّة.

الحقيقة الثالثة: وهي وجهة نظر بعض العلماء ـ كما يُنقل عن شخص السيد الخوئي نفسه ـ والتي ترى أنّه لا يجب على الفقيه الإفتاء بالمستحبّات والمكروهات، ولهذا نجد أنّ السيد الخوئي نفسه لا يبحث في دراساته الاستدلالية الأغلبيّة الساحقة من المستحبّات والمكروهات، إلا إذا كان مستحبٌّ ما قد وُجد قولٌ بوجوبه مثل غسل الجمعة، أو له علاقة بالمشروعيّة مثل بعض الصلوات المندوبة.

هذه العمليّة تُعتبر بمثابة أحد التبريرات للفقيه أن يضع في رسالته العملية قائمة المستحبّ والمكروه ناسباً لها إلى ما ذكره العلماء، دون أن يميّز للمكلّفين ما ثبت عنده استحبابه أو كراهته وما لم يثبت، الأمر الذي يوجب تحقّق ما أشرنا إليه في الحقيقة الثانية أيضاً.

الحقيقة الرابعة: ضعف أسانيد عدد كبير من المستحبّات والمكروهات والآداب والسنن. ومن أسباب ذلك أنّ بعض كتب المستحبّات والمكروهات نفسها بُنيت على حذف الإسناد أو التساهل فيه، مثل كتاب "مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد" للشيخ الطوسي (460هـ)، وهذا الكتاب يعدّ أحد أهمّ المصادر التي دوّنت على أساسها أمّهات كتب المستحبّات والأدعيّة والآداب لاحقاً، مثل كتاب إقبال الأعمال وغيره للسيد ابن طاوس، وكتاب عدّة الداعي لابن فهد الحلّي، وكتاب المصباح للكفعمي، وكتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي وغيرها من الكتب.

وفي ظلّ ثقافة حذف الإسناد من عددٍ كبير من المستحبّات والمكروهات والآداب، من الطبيعي أن يخرج الباحث بنتيجةٍ مفادها أنّ الكثير منها ليس بثابت، وبخاصّة أنّه لم يتمّ التعرّض لها في مثل الكتب الأربعة، بل بعضها لم نعثر له على رواية أصلاً، وإنّما تمّ تلقّيه في الكتب الفقهيّة دون الحديثيّة، وأحياناً ظهر في القرون اللاحقة وتمّ تداوله نتيجة قاعدة التسامح. وأحد أسباب ذلك ربما انتقال بعض النصائح الأخلاقيّة من كتب الأخلاق للفقه بما أوحى بالاستحباب، وانتقال بعض نصوص المستحبّات من خارج السياق الحديثي الشيعي إليه، مثل ما بين السنّة والشيعة، وما بين كتب الصوفيّة وعلماء الأخلاق والشيعة وهكذا.

وبهذا نستنتج أنّ من يرى وجوب البحث في المستحبّات والمكروهات، ويرى ضرورة الإفتاء بما ثبت منها وما لم يثبت، وضرورة التمييز للمكلّفين، ولا يعتقد بقاعدة التسامح في أدلّة السنن.. من الطبيعي أن تكون نتائجه في باب المستحبّات والمكروهات موصلةً له لعدم ثبوت أكثرها، وبخاصّة لو كانت له نزعة نقديّة في علم الرجال والحديث مثل السيّد الخوئي أو غيره. والعلم عند الله.

 


18 ـ الفقه ليس كلّ شيء لكن لا قيامةَ من دونه

شهدت العقود الأخيرة أكبر الجدل حول الفقه الإسلامي ومصيره وأهميّته ووضعه وأحواله. وانقسم الناس فيه بين محبٍّ غال ومبغضٍ قال. ولست هنا بصدد الحديث عن ذلك كلّه، لكن ما أودّ الإشارة إليه هو قضيّة صغيرة ومحدّدة، وهي مركّبة ـ كما يظهر من العنوان ـ من جزأين:


18 ـ 1 ـ ليس الفقه كلَّ شيء

يتصوّر كثيرون أنّ الفقه هو كلّ شيء، ومعنى أنّه "كلّ شيء" يتجلّى في أمور، أبرزها:

أ ـ الجانب المعرفي في الدراسات الدينيّة، حيث يتصوّر الكثير من العلماء والأفاضل وغيرهم أنّ الجهاز العصبي والهيكل العظمي والروح الحقيقيّة للمعرفة الدينيّة تكمن في العلوم المتصلة بالفقه، من نوع علم أصول الفقه وعلم الحديث والرجال وأمثال ذلك. وترى هذه الثقافة السائدة في العديد من الأوساط أنّ من يعرف علم الفقه والأصول وبعضاً قليلاً من العلوم ذات الصلة بها كالرجال والحديث فهو العالم الحقيقي وغيره أمره مشكوك، حتى أنّ بعض العلماء لا يجيز صرف الحقوق الشرعيّة على من يشتغل بدراسة غير الفقه والأصول وما له صلة قريبة بهما.

هذه الفكرة تنسحب على عقيدة مستحكمة ترى أنّ الخبير بعلم الفقه والأصول قادر على حلّ المشكلات المعرفيّة أكثر من غيره بكثير، وأنّ العدّة المعرفية التي تقدّمها هذه العلوم تتخطّى مجالَها.

ب ـ الجانب العملي، بمعنى أنّ الفقه هو الذي يستجيب لكلّ شيء، فبالفقه تكون إدارة المجتمع، وبه يمكن تحقيق القيامة الحقيقيّة له، ولو استجابت الناس للفقه لحلّت مشاكلها، وينجم عن ذلك أنّ وظيفة العلماء والدعاة والمبلّغين يجب أن تكون متركّزة على الفقه، فهو منهاج الحياة. وهذا ما يُنتج تقدّمَ الفقهاء على سائر المتخصّصين في العلوم الإسلاميّة كالمفسّرين والمحدّثين وعلماء التاريخ والسيرة وعلماء الفلسفة والكلام والمنطقيّات وغير ذلك، فهم القادة الدينيّون للمجتمع الإسلامي لا غير.

وقد سبق أن تحدّثتُ عن هذا الأمر بالتفصيل في مناسبات عدّة، لكن في مقام التعليق المختصر هنا ـ وفق ما توصّلتُ إليه ـ فإنّ ما يبدو لي هو أنّ الفقهَ ليس هو كلّ المعرفة الدينيّة، ولا الذي يتعلّمه بقادرٍ على حلّ مشكلات الفلسفة والكلام والتاريخ والتفسير وعشرات غير ذلك، بل على العكس أحياناً فقد رأينا بعض من استحوذ الفقهُ على كلّ عقله وتفكيره كيف صنع عندما أراد الدخول في مناقشات متصلة بموضوعات غير فقهيّة، وكيف قارب الأمور بذهنيّة فقهيّة بدت لكثيرين ناقصةً جداً، ولستُ بصدد إعطاء أمثلة هنا.

وليس الفقه هو الوحيد في إدارة حياة الناس، بل هو شعبة تحتاجها حياتهم في الإدارة، وإلا فإدارة الحياة لا تكون بالفقهاء فقط بما هم فقهاء، بل تحتاج لتعاون هائل بين مختلف الاختصاصات الدينيّة والإنسانيّة والتجريبيّة وغيرها، فتبسيط المشهد غير دقيق إطلاقاً.

إنّ تصوّر بعض المشتغلين بالفقه أنّه يمكن تفقيه أو فقهنة كلّ شيء، هو تصوّر يحتوي مغالطات ولو غير مقصودة، ويذكّرنا أحياناً بالتشبيه الذي يقول بأنّ الذي يحمل في يده مطرَقة يَتصوّرُ كلَّ شيء من حوله مجموعة مسامير تحتاج للطَّرق عليها بمطرقته!


18 ـ 2 ـ لا قيامة من دون الفقه

أقصد من هذا العنوان أموراً عدّة أبرزها:

أ ـ إنّ مجتمعاتنا الدينيّة، وما يحيط بها، هي مجتمعاتٌ تربّت على الفقه وشبكة العلاقة مع التشريعات ومع الفقهاء، ولهذا فأيّ محاولة تغييريّة لا تأخذ بعين الاعتبار هذا الواقع المتجذّر فإنّ مصيرها الفشل أو إذا نجحت سوف تنجح على حساب الدّين نفسه. يجب اعتبار الملف الفقهي ـ بما فيه الفقهي التجزيئي أو فقه المسألة ـ من أكبر الملفات التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند التفكير في حلّ أيّ قضيّة تواجهنا على المستويات العامّة، وهذا ما يفسّر أنّ الذين اتخذوا إصلاحاً عامّاً منفصلاً عن الفقه إمّا فشلوا أو خرجت تجربتهم عن مجال الدين، إلا من شذّ وندر.

ولا أقصد بما قلتُه وجوب أن يدير التحوّلات فقهاءٌ بالضرورة، بل وجوب أن يكون لنا موقفٌ واضح وقراءة صحيحة وشاملة للفقه ـ ولا أقصد قراءة نقيضة تماماً ـ بحيث تحلّ محلّ الفقه بوضعه الحالي.

توصِلُنا هذه المقاربة إلى قناعة عميقة بأنّ مجتمعاتنا الدينيّة ـ وكثير من الأعراف والتقاليد في المجتمعات غير المتديّنة أيضاً ـ لا يمكن تغييرها بمجرّد تغيير مفاهيم عامّة وكليّة؛ لأنّ المفاهيم العامّة سوف تتحطّم عند صخرة التفاصيل والعادات والأعراف والتقاليد ونمط العيش، ومن يمكنه أن يلعب دوراً في تغيير هذه كلّها بشكل أكبر هو الفقه؛ كونه المجال الذي يملك تماساً أكبر مع تفاصيل الحياة.

يؤكّد ذلك لنا أنّ التفاصيل ليست هامشيّة بل مهمّة للغاية، لأنّ إجراء تحوّلات فيها يساهم في تغييرات اجتماعيّة، وبهذا نكون أمام فرصة أكبر لتحوّل عامٍ منشود. وعلى حدّ تعبير بعض علماء الاجتماع المسلمين المعاصرين، فإنّ مشكلة المجتمعات الإسلاميّة ليست هي الاستبداد السياسي فحسب، حتى نعلّق عليه كلّ مشاكلنا، بل أيضاً طبيعة المجتمع وأعرافه وقناعاته التفصيليّة هي التي تكوّن الكثير من الأشياء، بما فيها الاستبداد السياسي نفسه، فما لم نشتغل عليها بإعادة إنتاجٍ ممنهج فسيكون من العسير تغيير الأوضاع القائمة.

طبعاً هذا لا يعني تحقّق المطلوب، بل التغييرات الجزئيّة في علم الفقه، لاسيما على مستوى العادات والتقاليد والأعراف وأنماط العيش ـ وهي أمور أعتقد بأنها مهمّة للغاية خلافاً لما يتصوّره كثيرون ـ يلزم أن تتحوّل لتغييرات سلوكيّة بين الناس أو بعضهم، وعلى سبيل المثال، بعض العادات المنسوبة للدين عندما تتغيّر في السلوك تبدأ مرحلة نهاية عمرها.

ب ـ إنّ تطوّرات علم الفقه وما يحيط به من مجموعة علوم ذات صلة، بلغت الذروة في القرنين الأخيرين، بل قد تلقّفت الدراسات الأصوليّة والفقهيّة العديد من الموضوعات في العلوم الأخرى القريبة منها وقامت ببحثها بشكل مركّز، وهذا يعني أنّ علم أصول الفقه أخذ دوراً منهجيّاً أكبر من حجمه الطبيعي الموكل إليه، فتصدّى لما لا يجب عليه التصدّي له. يجرّ ذلك إلى قناعة بأنّ العديد من الاجتهادات في المنظومة المعرفيّة باتت تحتاج ـ في هذه المرحلة ـ لخبراء في العلوم النقليّة الشرعيّة هذه أو تحتاج لخبرتهم.

ج ـ إن ترك الفقه والتخلّي عن إجراء قراءات فيه وحوله، سوف يضع الهوية الاجتماعية الدينية أمام مشاكل عميقة، فالفقه هو عنصرٌ فاعل جدّاً من العناصر التي تمسك بمقوّمات تشكيل الهوية في السلوك والعادات والأعراف والعلاقات، والتخلّي عنه إمّا سيترك هذه المساحات لمن هي في يدهم الآن أو سيجعل الآخر المفاصل للدين يتولّى أمرها ويعيد تشكيلها، وهذا يعني أنّنا بحاجة للفقه في عمليّات حفظ الهوية كذلك.

أكتفي بهذا القدر وللتفصيل مجال آخر.

 


19 ـ المتفقّهُ الجدلي والفقه الجدلي، المفهوم، والأسباب، والموقف

 


19 ـ 1 ـ من هو "المتفقّه الجدلي"؟ وما هو "الفقه الجدلي"؟

أعني بـ "المتفقّه الجدلي" ذاك الشخص الذي يفهم من البحث الفقهي ما يقوم على قواعد الجدل والمناظرة، بهدف الدفاع عن فكرة فقهيّة أو توليفة أفكار أو مهاجمة فكرة أخرى تُعتبر خصماً قائماً. ولكي نذكر شبيهاً تاريخيّاً نأخذ علم الكلام المتَّهم على غير صعيد ـ بحقٍّ أو بغير حقّ ـ بأنّه تورّط باعتماد مرجعيّة الجدل في اشتغالاته البحثيّة، فالمتكلّم كثيراً ما تهمّه المناظرة وممارسة أشكال الجدل المعتمدة في المنطق الصوري وغيره.

إنّ المتفقّه الجدلي ظاهرة لها شكلان:

الشكل الأوّل: المتفقّه الجدلي المقارن (بين المذاهب)، وهو الذي ولَّدَ علم الفقه المقارن القائم على الجدل، دون علم الفقه المقارن القائم على الحوار والبحث والتعاون، فالمتفقّه الجدلي المقارن هو ذلك الذي يبحث في قضيّةٍ فقهيّة ـ أو توليفة قضايا فقهيّة ـ ليس لكي يكتشف الحقّ فيها، بل لكي يردّ على قول الذين ينتمون لغير مذهبه العقائدي أو لغير مذهبه الفقهي.

الشكل الثاني: المتفقّه الجدلي غير المقارن، وهو ظاهرة ازداد انتشارها في العقود الأخيرة، ويمكن العثور على نسيجها وروحها في أعمال سابقة فقهيّة. وهو متفقّه يدرس مسألةً فقهيّة لا لكي يخرج بنتيجة تقتضيها الأدلّة، بل ليُثبت نتيجةً مسبقة أو ليُبطل نتيجةً يراها خصومه من داخل مذهبه العقدي ومن داخل مذهبه الفقهي، أو من خارج نطاق الفقه كلّه.

نوعٌ من المتفقّه الجدلي غير المقارن يمكن العثور عليه منذ زمن بعيد جداً، وهو ذاك المتفقّه الذي يعرف مسبقاً أنّ النتيجة واحدة، لكنّه يبحث حتى يُثبتها، فلو فرضنا أنّه لم يقدر على إثباتها، فهو يبذل قصارى جهده لإثباتها، وكأنّه لا بُدّ لها أن تثبُت بأيّ ثمن، الأمر الذي يحوّله من فقيه استدلالي إلى فقيه يحمل الروح الجدليّة، فيعتمد أحياناً على المؤثرات النفسيّة أو يخترع أدلّةً يتصوّرها ذات قيمة، لا لشيء إلا لشعوره الذاتي بضرورة إبقاء الوضع على ما هو عليه.

إنّ الفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي ليس من الضروري أن يُنتج فقهاً كاملاً جدليّاً، بل يكفي أن يكون له حضوره النسبي داخل البحوث الفقهيّة، فلا أعني هنا فقهاً كاملاً يقوم على العقل الجدلي، بل ظاهرة داخل الفقه تزداد وتتقلّص وتؤثر على مجموعة من البحوث الفقهيّة، تبعاً لعوامل ومتغيّرات.

هذا، وكلّ ما سأقوله حول الفقه الجدلي والمتفقّه الجدلي، له ما يشبهه في علم أصول الفقه الجدلي، وفي علم الحديث الجدلي، وفي علم الرجال الجدلي، وغير ذلك من العلوم النقليّة بل والعقليّة، بل قد تجد في علم الحديث والرجال نسبةً أعلى من الجدليّة من علمَي: الفقه والأصول.


19 ـ 2 ـ الأثافي الستّ للفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي

الأثافي التي يقوم عليها الفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي، عديدةٌ، يمكن التركيز على بعضها، وهي ست:

1 ـ عدم التفكير الصفري، بمعنى أنّ الباحث لا يبدأ من الصفر لإثبات فكرةٍ فقهيّة أو نفيها، بل يدخل البحث العلمي مفترضاً مسبقاً ثبوت هذه الفكرة أو بطلانها، وتكون بداية مشواره عمليّة التثبيت والتبرير والدفاع أو عمليّة الهجوم والإبطال.

2 ـ اعتماد منطق التفتيش والستر، إذ يقوم الفقه الجدلي على السعي للعثور على نقاط ضعف في الطرف الآخر، والتفتيش عن ثغرات ولو كانت شكليّةً، بهدف إحراجه أو إرباكه أو جعله في موقفٍ ضعيف. وفي المقابل يسعى المتفقّه الجدلي لكي يستر كلّ العيوب الموجودة في أفكاره أو عند رموز مدرسته، ويعمل بكلّ جهده للحيلولة دون انكشافها، وإذا حصل أن انكشفت أو كشفها خصمُه فإنّه يعمل على تبريرها عبر آليّات من نوع فتح باب الاحتمالات التفسيريّة الغريبة وغير المتوقّعة؛ بهدف أن يقول للطرف الآخر: إنّ هذه الفكرة أو هذه الفتوى تحتمل أن يراد منها كذا وكذا مما لا يحتمله أحدٌ في العادة. إلى غير ذلك من الطرق والأساليب، والتي يشتهر من بينها أسلوب قمع الآخر أو التنمّر عليه بحجّة أنّه غير متخصّص.

3 ـ اعتماد منطق المحاماة أو الادّعاء، وليس منطق القضاء، وبتعبير آخر: تقمّص شخصيّة المحامي أو المدّعي العام ـ أو وكيله ونائبه ـ وليس شخصيّة القاضي، فهو يريد أن ينتصر لفكرته أو لفكرة مدرسته وجماعته، فيلبِس ثوبَ المحاماة، ويبدأ يفتّش عن ألف منفذ ومنفذ؛ لكي يخرّج متهمه من وراء القضبان ويمنحه صكّ براءة. وإذا كان الذي هو خلف القضبان خصمُه وأعداؤه فهو يعمل بكلّ ما أوتي من قوّة لمراكمة أيّ شيء يمكنه أن يجعل القاضي يحكم بأقسى أشكال العقوبة. ولو أخذ المحامي القضيّة عينها لكن الذي خلف القضبان كان خصمُه، لانقلب إلى مدّعٍ تلقائيّاً، حتى لو كانت المعطيات واحدة!

تظهر بعض أمثلة ما نقول عندما يتصدّى فقيه أو مرجع أو مجمع فقهي ما لفتوى معيّنة، تثير بلبلةً ونقاشاً، ويظهر لها خصوم يسعون لتصفية حساباتهم مع هذا الفقيه أو المرجع عبر استغلال هذه الفتوى مثلاً، هنا نجد أنّ المحامي (المتفقّه الجدلي) يعقد الندوات والمحاضرات ويكتب الرسائل والمقالات، لتبيين وجهة نظر مرجعه أو مجمعه الفقهي بأحلى صورة، والدفاع عنها، ولو فرضنا أنّ الفتوى بعينها قالها بعض خصومه فإنّ الندوات عينها سوف تنعقد على العكس تماماً!

وأذكر يوماً أنّنا كنّا في محضر جماعةٍ من فضلاء الحوزة العلميّة، وكان حديثٌ عن فتوى أطلقها أحد المراجع في حينه، فكان الفضاء الحاكم على هذا المجلس أنّهم يريدون أن يقوم الباحثون بكتابة بحوث فقهيّة لتأييد تلك الفتوى! وهو ما أثار استغرابي، وكأنّ المرجع يُفتي وعلى الآخرين أن يشكّلوا جيشاً من المنظّرين والمدافعين عن فتواه! وأذكر أنّ تلك المسألة كانت من الغرائب عند السائد، بحيث أكاد أجزم ـ والعلم عند الله ـ لو أنّ مرجعاً آخر أفتى بها لهبّ الحاضرون أنفسهم ـ وأعرفهم جميعاً حقَّ المعرفة فرداً فرداً ـ للدعوة لكتابة مقالات في نقد تلك الفتوى! وإلى الله المشتكى.

4 ـ فنّ صناعة الدليل الفقهي، وأعني به أنّ المتفقّه بالفقه الجدلي عندما تنهار الأدلّة التي قدّمها هو أو فريقُه لإثبات فكرتهم نتيجة تطوّرات في البحث الاستدلالي أو نتيجة الجدل والمناظرة المباشرة وغير المباشرة، فهم يبتكرون الأدلّة الجديدة. إنّ ابتكار الأدلّة ليس عيباً، بل قد يكون إبداعاً، لكنّ ابتكار الأدلّة في سياقٍ جدلي كثيراً ـ ولا أقول دائماً ـ ما يعني شيئاً من "فبركة" الأدلّة الوهميّة والسعي لإقناع أنفسنا بها ومحيطنا، لا لشيء إلا لإبقاء أفكارنا وآرائنا قائمةً على حالها لا يحدث فيها تغيّر جذري. ولولا وضعنا النفسي هذا لما أقنعتنا هذه الأدلّة بشيء، ولربما ضحكنا عليها أحياناً.

5 ـ التركيز على الشكليّات دون الجوهر، بمعنى أنّ المتفقّه الجدلي وبسبب غرقه في النمط الجدلي، فهو إمّا عاجز أو لا يهمّه تقديم نقد جوهري وعميق وبنيوي لأفكار الآخرين؛ إذ يشعر أنّ هذه الطريقة طويلة ومضنية، وقليلاً ما يكون لها تأثير شعبي، إذ غالباً ما يقتصر تأثيرها على بعض النخب، لهذا يفضّل المتفقّه الجدلي استخدام أنماط النقد الشكلي مثل هفوة تعبيريّة هنا أو جملة غير دقيقة هناك أو كلمة في غير محلّها أو غير ذلك.

6 ـ الشعبويّة أو التركيز على العواطف والأحاسيس، وهذه من ميزات النهج الجدلي عبر التاريخ، وإذا طبّق ذلك متفقّهٌ جدلي فهو يعمل على أن يصوّر الطرف الآخر على أنّه شرير وطالب شهرة ومشكوك في نزاهته، أو أنّ هذه الأفكار تستبطن ادّعاء أنّ جميع علمائنا وتراثنا ليس سوى سخافات، أو هو يدمّر هويّتنا ويخدم عدوّنا شعر أم لم يشعر، وغير ذلك من أشكال شيطنة الآخرين.

ويشتهر المنتمون الجدليّون عبر التاريخ بتحريض العامّة، عبر إثارة العواطف الشعبيّة، فهذا من أدواتهم المعروفة عبر كلّ العصور وفي مختلف المجالات، والقائمة هنا لا تنتهي ليس الوحيد فيها الإمام الطبري (310هـ).


19 ـ 3 ـ ما هي أضرار الفقه الجدلي والمتفقّه الجدلي؟

يمكن ذكر مجموعة من الأضرار، أقتصر هنا منها على اثنين:

1 ـ التراجع العلمي، أو السَّير من الاستدلاليّة إلى الفوضويّة، بمعنى أنّ الفقه الجدلي مضلِّل؛ لأنّ السياقات الجدلية تعيد ترتيب وتنظيم العقل بطريقة تجعله يقتنع ـ أحياناً كثيرة ـ بأدلّة وهميّة، ولو أنّه لم يكن جدليّاً ولم يقع تحت التأثيرات النفسية والانتمائية للعقل الجدلي، لما اقتنع بهذه الأدلّة والحجج. وهذا يعني ظهور ركام من الاستدلالات والمناقشات العقيمة والهابطة على المستوى المنهجي والعلمي، فإذا تغلغل التفكير الجدلي في بنية الاجتهاد الفقهي أخرجه من "الاستدلاليّة" إلى "الفوضويّة".

وهذا هو السبب في أنّنا عندما نرصد بعض الموضوعات التي تُدرس على طريقة التفقّه الجدلي نجدها ركيكة في أدلّتها أحياناً كثيرة، بخلاف الموضوعات التي يتحرّك فيها الفقيه أو المتفقّه بطريقة مليئة بالحرّية وعدم الخوف من النتيجة مهما كانت. ويوماً ما قال أحد الأصدقاء الأفاضل، وهو يوصّف حال فقيهٍ معاصر يُشهَد له بالدقة والمتانة في الفقه والأصول، وكان تلمَّذَ على يديه لسنوات، قال: «إنّ أستاذنا الفقيه هذا لما تناول قضايا فقهيّة لها صلة بأوضاع مذهبيّة، وجدناه كالبقّال الذي يبيع الطماطم في السوق، وكأنّه لا يفقه شيئاً مما سبق وعلّمه للأجيال". ورغم أنّ هذا التعبير غير لائق منه، غير أنّني أنقله لمجرّد توصيف الحالة التي لمسَها هذا الصديق.. أعني حالة التفاوت الكبير بين الفقيه نفسه وهو يبحث مسألةً لا تدخلها حساسيّات الجدل ومنطلقاته، وبينه وهو يبحث موضوعاً داخل نطاق الجدل المذهبي.

هذا الفقيه عينُه كان قد أشكل يوماً على وجهة نظرٍ تقول بجواز استمناء المرأة، وهي قضيّة دخلت حينها حيّز النقاش الجدلي وفق تعريفي له، فطَرَح ـ حفظه الله ـ هذه القضيّةَ في درسه، ولم تأخذ معه سوى بضع دقائق! ليختم بالقول: «إذا كان فلاناً يسمح لبناته وزوجاته وأخواته بالاستمناء، فنحن لا نقبل بذلك!». هذه اللغة هي التي تعبّر عن الانتقال من الاستدلاليّة إلى الفوضويّة، وتذكّرني بخبر زرارة (المعتبر السند عند جميع العلماء فيما أظنّ)، قال: جاء عبد الله بن عمير (عمر/معمّر) الليثي، إلى أبي جعفر×، فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: «أحلّها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه‘، فهي حلال إلى يوم القيامة» فقال: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرّمها عمر ونهى عنها؟! فقال: «وإن كان فعل»، قال: إنّي أعيذك بالله من ذلك أن تحلّ شيئاً حرّمه عمر، قال: فقال له: «فأنت على قول صاحبك وأنا على قول رسول الله‘، فهلمّ ألاعنك أنّ القول ما قال رسول الله‘ وأنّ الباطل ما قال صاحبك»، قال: فأقبل عبد الله بن عمير، فقال: يسرّك أنّ نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمّك يفعلن، قال: فأعرض عنه أبو جعفر× حين ذكر نساءه وبنات عمّه([14]).

2 ـ الإغلاق الجزئي لباب الاجتهاد، فإنّ المتفقّه الجدلي يتصوّر أنّه بمناقشاته يُثري العمليّة البحثيّة، وهذا لا نشكّ فيه في الجملة، لكنّه من جهة أخرى يعطّل فتح باب الاجتهاد في دائرته التي ينتمي إليها؛ ولهذا فإنّ علم الفقه المقارن الجدلي يطوّر الفقه بين المذاهب، لكنّه يعطّل الاجتهاد الإبداعي في موضوعاته، داخل المذاهب نفسها. وأقصد من التعطيل وإغلاق باب الاجتهاد الحدَّ من ظهور الأفكار المخالفة في الدائرة التي يتناقش عليها الفقه المقارن، فمثلاً لو أخذنا مسألة مسح القدمين أو غسلهما في الوضوء، فإنّ الفقه المقارن الجدلي سوف يضاعف من أدلّة كلّ فريق لمصلحته، وهذا عنصر قوّة فيه، لكنّه في الوقت عينه سوف يمنع داخل الفريق السنّي ظهور قراءات مخالفة للسائد سنيّاً لمصلحة مسح القدمين، وسيمنع داخل الفريق الشيعي ظهور قراءات مخالفة للسائد شيعيّاً لمصلحة غسل القدمين، ولهذا عبّرتُ هنا بالإغلاق الجزئي، وهذا أحد أشكال الجزئيّة التي أعنيها.


19 ـ 4 ـ الفقه والمتفقّه الجدلي، الأسباب ومبرّرات الوجود

هناك أسباب عدّة لظهور الفقه الجدلي أشير ـ على سبيل المثال ـ للخوف على الهويّة، فإنّه كلّما طال البحث الفقهي بالنقد والتمحيص قضايا تتعلّق بالهويّة الدينية أو المذهبيّة أو بالهويّة الاجتماعيّة أو نحو ذلك، تحرّكت مشاعر المتفقّه الجدلي، ويتراجع هذا الأمر كلّما تعرّض النقد لقضايا لا علاقة لها بالهويّة المأنوسة عبر التاريخ، فمثلاً لو أنّ فقيهاً اليوم طرح رأياً جديداً في مسألة كيفية تطهير مخرج البول، ففي العادة لن تكون هناك إثارة شعوريّة ولا خوف على الهويّة يستدعي نهضة معاكسة، بينما لو طرح قضيّةً تتصل بجواز طلاق المرأة نفسها من الرجل مطلقاً، فهذا يهدّد التركيبة الاجتماعيّة، أو طرح ـ بين الإماميّة ـ مسألة تتعلّق بجواز أكل لحم الأرنب، فهذا موضوع يصنّف كمَعْلَم من معالم الفقه الشيعي عبر التاريخ، فيثير الهويّة وقلقها. إلى غير ذلك من الأمثلة.

وإلى جانب الخوف على الهويّة هناك الانصياع للسائد والمأنوس، فعندما يُرَوَّض الإنسان على الانصياع لكلّ مأنوس سائد ومتعارف، فإنّه سوف يتحوّل إلى إنسان جدلي في قراءته للقضايا التي لا تنسجم مع المألوف والسائد في محيطه؛ وبخاصّة أنّ الإنسان بطبعه يبحث عن الأمان في ظلّ محيط اجتماعي متوالم معه، فالشعور بالوحشة يُقلقه؛ لهذا فهو يفضّل الانصياع للمألوف هرباً ـ في اللاشعور ـ من معاناة الفراق والوحشة، ويبرّر انصياعه هذا بخلق نظريّات وأفكار، وتبدأ رحلة الجدل. وهنا نجد الكثيرين ممّن يطبّقون عمليّاً قاعدة: «الوقوف على التلّ أسلم»، لكنّ التلَّ هنا هو تلّ المشهور والإجماع والأعراف الاجتماعيّة وغير ذلك.

وهكذا العواطف والأحساسيس والمشاعر، فالمجتمعات الذكوريّة ـ مثلاً ـ يصعب عليها جدّاً أن تتقبّل أفكاراً تهزّ من هذه الذكوريّة وتخدشها، لهذا فهي تفضّل التضييق على المرأة أو إبقاء سلطة الرجل مطلقةً وسلطة المرأة في غاية التقييد، وكلّ شيء يمسّ ذلك يسمّى بالخدش بالحياء العام أو تدمير الأسرة أو نشر الفساد والفاحشة وغير ذلك، وتبدأ رحلة الجدل وخلق التبريرات والمفاهيم الوهميّة. ذلك كلّه والجدلي يدّعي أنّه يبحث عن الحقيقة ويدافع عن القيم والشرف والفضيلة.


19 ـ 5 ـ توضيحٌ ودعوة

وأختم كلامي المختصر هذا بأمرين: توضيح ودعوة

أمّا التوضيح، فهو أنّ المتفقّه الجدلي لا يقتصر على المتفقّه الجدلي الكلاسيكي، بل لدينا متفقّهون جدليّون تجديديّون كُثر، فهؤلاء أيضاً يقعون ضحايا لطريقة التفكير نفسها، فهو يحكم على الرأي الفقهي قبل بحثه، فيُعجبه أو لا يُعجبه، ثم يبحث ليُثبت ما يُعجبه أو لينفي ما لا يعجبه! أو ليُثبت ما يقول به رمزٌ من رموز مدرسته أو لينفي ما يقول به رموز مدارس أخرى في الفقه!

وأمّا الدعوة، فهي لتحييد التفكير الفقهي الجدلي من حياتنا، لإعادة الفقه الاستدلالي إلى موقعه في كلّ زوايا الفقه، بعيداً عن القلق والخوف والاضطراب والارتباك والعصبيّة والاصطفافات الزائفة، والله وليّ التوفيق.


19 ـ 6 ـ لهذا يختلف الاستدلاليُّ الحقيقي عن الجدلي

من كلّ ما تقدّم يتضح جيداً أن المتفقّه أو الفقيه الاستدلالي الحقيقي يختلف تماماً عن الفقيه الجدلي في النتائج البحثيّة، فمن المتوقّع منه أن يخالف السائد في مجالات متعدّدة، بعكس الفقيه الجدلي الذي تكون نسبة موافقته للسائد عالية.

 

 


 


 

 

الفصل الثاني

آراء في القواعد الرجاليّة والحديثيّة

1 ـ نقد يقينيّة أو حجيّة الصحيحَين والكتب الأربعة و..

ذهب العديد من علماء المسلمين، وبات أمراً شبه إجماعيّ بين أهل السنّة لاحقاً، إلى الاعتقاد بصحّة كلّ ما جاء في الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم. كما ذهب بعض الإخباريّة من الإماميّة إلى القول بكون كلّ ما جاء في الكتب الأربعة (الكافي للكليني، والفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي) يقينيّ الصدور، بل مال بعضهم ليقينيّة الدلالة أيضاً، كما وسّع بعضٌ لغير الكتب الأربعة. غير أنّ فريقاً آخر من الإخباريّين وربما يظهر من بعض الأصوليّين أيضاً في مقام الممارسة العمليّة على الأقلّ، قالوا بحجيّة ما ورد في الكتب الأربعة وكونه معتبراً من حيث الأصل والمبدأ. غير أنّ المشهد إماميّاً يختلف عنه سنيّاً فالكتب الأربعة لم تعد يقينيّة الصدور أو معتبرة بأكملها بعد هيمنة التيار الأصولي منذ الوحيد البهبهاني (1205هـ)، كما لم تكن كذلك قبل العصر الإخباري، بينما السائد في الوسط المدرسي السنّي إلى اليوم صحّة ما جاء في الصحيحين.

والذي توصّلتُ إليه في دراسة منطلقات الفريقين: السنّي والشيعي ـ وكذا الإباضي ـ هنا، أنّه لا توجد أدلّة مقنعة تثبت صحّة هذه الكتب أو غيرها، بهذه الطريقة للتصحيح، فضلاً عن القول بيقينيّة صدور جميع رواياتها أو دلالاتها. والأدلّة التي ساقها أهل السنّة والشيعة لإثبات ذلك كلّه تخضع لمناقشات مطوّلة، بل بعض هذه الكتب لم يكن بهذا المستوى من الأهميّة في زمن مؤلّفه وبُعيدَه، بل لا يعلم أنّ المؤلّف كان بهذه المثابة والمكانة في الأوساط العلميّة آنذاك، بل بعض الشواهد تُعطي نقداً شديداً على بعض مؤلّفي هذه الكتب وذلك من قبل العلماء في العصور السابقة نفسها، وإنّما تمّ لاحقاً صناعة هذه الهالة القدسيّة حول الكتب والمؤلّفين ونسج القصص المشكوك في صدقيّة بعضها. ذلك كلّه كان بفعل عوامل متعدّدة، يُشبه بعضُها ما حصل مع قوننة الأناجيل الأربعة عند المسيحيّين في القرون الميلاديّة الأولى.

فليس هناك كتابٌ معتبر بأكمله لا يجوز المساس به أو نقده، أو تتجاوز رواياته أو رواته القنطرة، أو يكون نقده جهدَ العاجز، كما قيل في حقّ بعض هذه الكتب. كما ليس هناك كتاب مرفوض بأكمله، بل العبرة بدراسة الكتاب من حيث نسبته ونسخه ومستواه بوصفه كتاباً حديثيّاً، ثمّ دراسة رواياته واحدة واحدة من حيث إمكانيّة إعادة بنائها التاريخي ورصد شواهدها ومتابعاتها في الكتب المختلفة. فعندما نقول: لا دليل على صحّة كلّ ما جاء في صحيح مسلم أو كافي الكليني، فهذا لا يعني سقوط الكتابين عن الاعتبار، كما أنّنا عندما نقول بعدم صحّة كتاب تفسير القمي أو العياشي أو الاختصاص.. فهذا لا يعني أنّ جميع روايات هذه الكتب أصبحت في حكم العدم، فدراسة الكتب وتقويمها بوصفها كتباً، تختلف عن دراسة كلّ رواية على حدة واردة في هذه الكتب، وبخاصّة على مسلك الوثوق الاطمئناني، فانتبه وتأمّل، فقد تلتقي النتائج وقد تختلف([15]).

 


2 ـ الموقف من حجيّة الحديث الحَسَن

عُرّف الخبر الحَسَن عند الإماميّة القائلين بالتقسيم الرباعي، بأنّه ما اتّصل سنده بنقل إماميٍّ ممدوح بغير تعديل، أي أن يكون قد مُدح لكنّه لم يُنصّ على عدالته، وقيل غير ذلك. فالفارق الجوهري بين الصحيح والحسن هو العدالة.

أمّا عند أهل السنّة، فيُعدّ تعريف الحديث الحَسن من الأمور التي وقع التباسٌ وجدل فيها، فعرّفه بعضهم بأنّه ما عُرف مخرجه واشتهر رجاله، وعرّف أيضاً بأنّه الحديث الذي اشتهر رواته بالصدق والأمانة لكن لم يبلغوا مستوى الضبط الذي عند رجال الحديث الصحيح، وكان للترمذي (279هـ) تعريفٌ منتسب له هنا اعتمده، وهو الذي لا يكون في إسناده من يُتهم بالكذب ولا يكون حديثاً شاذاً، ويُروى من غير وجه، وغير ذلك من التعريفات التي يجمعها أنّ الحسن أقلّ من الصحيح، وأنّ رواته لم يبلغوا رتبة العدل الضابط.

ولم يظهر مصطلح الحديث الحَسَن عند الإباضيّة إلا متأخّراً وبشكل محدود، على ما يفيده بعض الباحثين.

والذي توصّلتُ إليه هو أنّه:

1 ـ أمّا على مسلك حجيّة الخبر الموثوق الاطمئناني الذي نعتقد به، فإنّ العبرة في قيمة الحديث الحسن قائمة بحصول حالة الوثوق في نفس الفقيه أو الباحث نتيجة مقاربة متواشجة تتصل بالمتن والسند والمصدر معاً، فإذا تعاضدت الشواهد في الخبر الحسن وبلغت هذه الدرجة كان حجّة وإلا فلا. فالخبر الحسن كالصحيح، بل أوضح منه في بعض الحالات، من حيث إنّه لا يفيد في نفسه العلم بالصدور عادةً، بل يحتاج لقرائن وشواهد، فإذا بلغت صفاته وحالاته مبلغ العلم العقلائي كان حجّةً، وإلا فلا يكون كذلك.

2 ـ وأمّا على مسلك حجية خبر الواحد الظنّي الذي لا نؤمن به:

أ ـ فإذا جعلنا الحديث الحسن هو حديث الثقة ولو لم يكن عدلاً، فإنّ الأصحّ هو الحجيّة؛ لأنّ الصحيح على نظرية حجية الخبر الظنّي هي حجيّة خبر الثقة دون حاجة للعدالة.

ب ـ وأمّا تعريف الترمذي للخبر الحسن، فلا حجيّة له؛ لأنّ مجرّد عدم اشتهار الرواة بالكذب، وعدم وجود شذوذ في الرواية، لا يجعل الخبر خبر ثقةٍ أو خبر عدلٍ، ليكون مصداقاً لما دلّ دليل الحجيّة على حجيّته، ما لم يبلغ رتبة الوثوق الاطمئناني.

ج ـ أمّا إذا جعلنا المعيار في الحديث الحسن هو كون ولو أحد رواة الحديث الحسن ممدوحاً، كما هي الحال في التعريف الإمامي للحديث الحسن، فلا دليل على حجيّته ما لم يكن المدح موجباً لثبوت الوثاقة للراوي لا مطلق المدح، فإنّ للمدح أشكالاً وجهات، ولا يؤول كلّ مدحٍ للتوثيق أو التعديل خلافاً لما تصوّره بعضٌ. وقد ذهب المحقّق الأردبيلي إلى أنّ الحسن ليس بحجّة، ونصّ الشهيد الثاني وغيره على أنّ الأكثر ردّوا الخبر الحسن، بل ذكر النجفي الطهراني بأنّ عدم الحجية في نفسه هو المشهور بيننا، بل كاد يكون إجماعاً.

وقد حاول بعض العلماء ذكر أدلّة مستقلّة أو شاملة لحجيّة الخبر الحَسن الذي لم تثبت وثاقة الراوي فيه ولا عدالته، وقد ناقشناها بالتفصيل في محلّه([16]).

 


3 ـ منهج الوثوق الاطمئناني وكيفيّة التعامل مع الأخبار والروايات

تتنوّع طرائق التعامل مع النصوص الحديثيّة من حيث استنباط الأحكام الشرعيّة منها، ويمكنني أن أشير هنا إلى منهجين:

المنهج الأوّل: وأسمّيه بالمنهج التفكيكي التجزيئي، وهو يعتمد على أخذ كلّ رواية على حدة، ثمّ النظر، بعد الفراغ عن تحديد دلالتها، في نسبتها إلى كلّ رواية أخرى تتعلّق بالموضوع نفسه، فيتمّ إجراء المقارنات والمقاربات اعتماداً على مرجعيّة «وحدة الرواية»، أي أنّ وحدة الاشتغال هي كلّ رواية على حدة، ثم مقارنة كلّ رواية بكلّ رواية، حتى تظهر النتيجة، وهذا ما يبلغ ذروته مع نظريّة انقلاب النسبة في باب التعارض.

فإذا واجه الفقيه خمس روايات في موضوع معيّن، قرأ الرواية (أ)، وحدّد معطياتها، ثم قرأ الرواية (ب)، وفعل الأمر عينه وصولاً إلى الرواية الخامسة (هـ)، ثم يقوم برصد نسبة الرواية الأولى مع الثانية، وغيرها وهكذا، ليستخدم مناهج التخصيص والتقييد والحكومة وغير ذلك، فتكون الرواية (ج) مثلاً عامّة أو مطلقة أكثر من عموميّة وإطلاق غيرها، فيعتبرها الأصل، ثمّ يجري عليها التخصيصات من الروايات الأخرى لو كانت، أو يعتبر الموافق لها من الروايات الأخرى في دائرةٍ أضيق غيرَ ضارٍّ بها؛ لأنّه لا تعارض بين المثبتَين، وهكذا. وإذا كان هذا الفقيه يعمل على طريقة أمثال السيّد الخوئي، فهو يحذف الروايات ضعيفة الإسناد عادةً، ويقوم بالعمليّة نفسها مع الروايات الصحيحة فقط، فإذا كان عنده تسع روايات، وبينها اثنتان صحيحة فقط، حذف السبعة بعد تحقيق حالها، ثمّ قام بالتعامل مع الروايتين المتبقّيتين وفقاً للطريقة المتقدّمة، وهكذا.

المنهج الثاني: وأسمّيه المنهجي الانضمامي، وهو يتناسب مع مسلك الوثوق الاطمئناني في باب حجيّة الأخبار، وخلاصته ـ والكلام طويل في هذه الموضوعات ـ أن يعمد الفقيه لكلّ روايةٍ رواية، ثم يلاحظ دلالتها ومعطياتها تجزيئياً في المرحلة الأولى، لكنّه بعد أن ينتهي يأخذ مجموع الروايات الصحيحة والضعيفة معاً ملاحظاً التفاوت في قوّتها الاحتمالية الصدوريّة والدلاليّة، فالصحيحة أقوى في الاحتمال الصدوري من غيرها، وكثرة الروايات الضعاف قد تساوي قوّة رواية صحيحة احتمالاً، وهكذا. وبعد أن يجمع النصوص آخذاً بعين الاعتبار درجات قوّتها الصدوريّة والدلاليّة يلاحظ النقاط المشتركة التي دلّت عليها. ولنأخذ مثالاً افتراضيّاً، وهو القصر في السفر، فلو فرضنا أنّ بعض الروايات دلّ على المسافة، وبعضها دلّ على الزمان، فهنا لا نأخذ برواية ونقيس غيرها عليها، وإنّما نلاحظ مجموع النصوص، لنأخذ القدر المتيقّن ثبوتُ القصر فيه، وهو ـ مثلاً ـ طيّ المسافة مع طيّ المدّة الزمنيّة المقرّرة، فهذا القدر تلتقي عليه نصوصٌ موثوقة الصدور، وأمّا غيره ـ كمعيار المسافة لوحده ـ فإذا لم يبلغ في حجم تراكمه حدّ الوثوق بالصدور لا يؤخذ به، حتى لو وردت فيه رواية صحيحة، فلا قصر بالزمان دون مسافة، ولا بالمسافة دون زمان، وهكذا.. وهذا مجرّد مثال فرضي.. وبهذه الطريقة يلاحظ الفقيه ملتقيات النصوص ليرصد ما توفّره القوّة الاحتماليّة فيها، ويُسقط من حسابه ـ وفقاً لهذه النتيجة ـ النصوص المتفرّدة بشيءٍ ما دون أن تبلغ بانضمامها حدّ تحصيل الوثوق بهذا الشيء.

ويترك المنهج الثاني تأثيراً على تقليل حضور التخصيصات والتقييدات المنفصلة؛ لأنّ الأحكام فيه تولد مضيّقة في العادة نتيجة فكرة القدر المتيقّن، كما يترك تأثيراً أيضاً على أبواب التعارض واختلاف الأخبار بما لا يسمح لي المجال بتفصيله هنا، فلو تعارضت الروايات ضعف الوثوق بكلّ طائفة على حدة، وصار يلزم الأخذ بالقاسم المشترك بين المجموعات المتعارضة لو كان، وترك ما به الاختلاف. وهكذا ينمو في رحاب هذا المنهج مفهوم القدر المتيقّن صدوريّاً ودلاليّاً، وتترك عناصر كثيرة تأثيرها هنا في استنطاق القدر المتيقّن، إذ يختلف الموقف تبعاً لتحريم شيء أو ترخيصه أو الإلزام بفعله، ويختلف أيضاً تبعاً للأصل الأوّلي العدمي أو العملي أو اللفظي.

ويَعتبرُ المنهجُ الثاني أنّ المنهج الأوّل يعاني من قدر من الحرفيّة والجمود، ويتأثر بطريقة التعامل الفلسفيّة مع الأشياء، بينما المنهج الثاني أقرب للمناهج العقلائيّة العرفيّة العامّة في مقاربة الوثائق التاريخيّة وتفهّم وقائعيّات نقل الحديث الشريف من حيث النقل بالمعنى، وسقوط بعض التعابير أو القرائن، وعدم توفّر النص الحرفي للأسئلة، وطبيعة الأسئلة ذات اللغة الجزئيّة عادةً، ونوعيّة بعض الرواة من حيث عدم قدرتهم على التبيين العربي الفصيح بما يوجب عجمةً أو ارتباكاً، كما فيما قيل في عمار الساباطي، وتفاوت الرواة في قدرة الاستيعاب بحيث يؤثر ذلك على نوعيّة تبيينهم لما فهموه، وأزمة اختلاف نسخ الكتب القديمة، وغير ذلك كثير.

وإنّني أؤمن جدّاً بالمنهج الثاني بوصفه قاعدة فاعلة غالبة. وأقول: القاعدة الغالبة؛ لأنّ الفقه موضوعاته وحالاته متنوّعة جداً في سياق العملية الاستنباطيّة، فقد تتطلّب حالةٌ معيّنة منهجاً تأباه حالةٌ أخرى؛ إذ المادّة تؤثر في نوعيّة المنهج في العلوم، فقد تأتي رواية منفردة، فيها خصائص تعطيها لوحدها الاطمئنان بالصدور، فلا أدّعي أنّ هذا المنهج يطبَّق دوماً في كلّ الموضوعات ومع جميع الروايات. وكلامُنا في الاجتهاد في النصوص الحديثيّة، لا في النصوص القرآنيّة، فليُنتبه لذلك جيداً، ما لم تكن الدلالة القرآنيّة متنوّعة بين دلالاتٍ ظنيّة، بحيث نستخرج منها قدراً متيقناً دلاليّاً يمثل دلالية وثوقيّة اطمئنانيّة، بالمعنى العقلائي للكلمة لا بالمعنى الفلسفي والمنطقي الدقيق.

من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد، هو عدم اعتقادي بشرعيّة هيمنة المنهج التفكيكي التجزيئي بوصفه القاعدة الغالبة، وميلي للمنهج الانضمامي، انطلاقاً من مرجعيّة الوثوق الاطمئناني في حجيّة الصدور والدلالة.

 


4 ـ نحو تدوين موسوعة إسلاميّة جديدة في عِلَل الشرائع

تحدّثنا سابقاً عن التعليل النصّي وأهميّته، وانطلاقاً مما توصّلتُ إليه في هذا الموضوع، فقد قدمتُ اقتراحاً حول تدوين موسوعة إسلاميّة جديدة في علل الشرائع، وهو اقتراح رجوتُ ـ وما أزال ـ أن يلقى آذاناً صاغية.

إنّ كتباً سابقة دُوّنت في علل الشرائع، وقد تحدّثت حول هذه الكتب في الجزء الأوّل من كتابي (الاجتهاد المقاصدي والمناطي)، وكان من أبرز هذه الكتب إلى اليوم كتاب «علل الشرائع» للشيخ الصدوق (381هـ)، وقد تكلّمتُ عنه بالتفصيل من هذه الزاوية وشرحتُ بعض عناصر قوّته وضعفه.

غير أنّ هذه الكتب ـ ومنها كتاب الصدوق ـ لا تستوعب جميع نصوص العلل، فالكثير جداً من نصوص العلل لا وجود لها في هذه الكتب.

ومع الأسف يبدو أنّه لم يتمّ العمل منذ قرون على التوسّع في التدوين العللي النصّي؛ لهذا أقترح ـ للكشف الحقيقي عن هذه الثروة التعليليّة النصيّة التي تشكّل الجزء الآخر "المهمل" من وعينا للتشريعات، كما فصّلناه ـ الاشتغال على تدوين موسوعة «علل الشرائع» جديدة.

وهي تقوم على:

1 ـ جمع كلّ ما يتوقّع أو يترقّب دلالته ـ صراحة أو ظهوراً أو إشعاراً أو احتمالاً ـ على بيان علّة الحكم الأعم من العلل الثبوتيّة الملاكيّة، والعلل الإثباتيّة المناطيّة، بل حتى نصوص الفوائد والمضار ولو بغير صيغة التعليل.

2 ـ اعتماد مساحة واسعة في الرصد، وهو القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وأقترح أن تستوعب أيضاً النصوص التعليليّة التي طرحها أصحاب النبيّ وأصحاب الأئمّة؛ لما فيها من دور مساعد، نعم تعليلات العلماء فيما بعد تقلّ الحاجة إليها، وقد تصلح مشروعاً مستقلاً.

3 ـ اعتبار السنّة الشريفة إسلاميّةً، بمعنى اعتماد جميع الكتب الحديثيّة للمسلمين بمذاهبهم، من الشيعة بطوائفهم، والسنّة كذلك، والإباضيّة، وهكذا.

أعتقد بأنّ هذا العمل يمكنه ـ إذا تمّ توفيره مبوَّباً ومنظّماً ـ أن يوفّر مادّةً مهمّة توضع بين يدي الفقهاء والباحثين في مجال الدراسات الشرعيّة، عساها تخدم حركة الاجتهاد الإسلامي إن شاء الله تعالى.

نأمل أن تعمد الجهات أو المؤسّسات الإسلاميّة العلميّة للانطلاق بمشروعٍ إسلامي من هذا النوع يساعد في تكوين وعيٍ أفضل للتشريعات الدينيّة من خلال فهم حركة التعليل التي قدّمها القرآن الكريم والسنّة الشريفة معاً، والله من وراء القصد.

 


5 ـ الاعتبار الإجمالي للتراث الحديثي والفقهي و.. الإسلامي، والدعوة لاجتهادٍ إسلامي عامّ

يُدرك أيّ متابع بسيط للمشهد الجدلي بين المذاهب الإسلاميّة كالشيعة والسنّة، بل وبين الشيعة أنفسهم بمذاهبهم، وكذلك بين بعض أهل السنّة.. يدرك أنّ هناك ما يشبه الهجران للموروث الحديثي عند المذاهب الأخرى، فكلّ مذهب استقلّ بموروثه الحديثي وحصل عل الاكتفاء الذاتي من خلاله، فالسنّة لا يرجعون إطلاقاً للكتب الحديثيّة الشيعيّة، وبخاصّة الإماميّة منها، ولو رجعوا فليس ذلك إلا للنقد أو تسجيل نقاط ضدّ الشيعة، والشيعة كذلك ـ وبخاصّة الإماميّة ـ لا يرجعون في الاجتهاد الديني للمصادر الحديثيّة غير الإماميّة بوصفها مصادر معتبرة للخروج برؤية دينيّة إلا نادراً، ولو رجعوا فبهدف النقض أو تسجيل نقاط أو الاحتجاج لمذهبهم بما عند غيرهم ونحو ذلك.

ولا يقف الحال عند التراث الحديثي، فتراث الجرح والتعديل هو الآخر يواجه القضيّة نفسها إلا نادراً، فالشيعة لا يوثّقون شخصاً لأنّ الرازي وابن معين وثّقه، ولا يوثّق السنّة في العادة شخصاً لأنّ الطوسي وثّقه وهكذا. بل يمتدّ الأمر للتراث الفقهي والأصولي، وبخاصّة في القرون الأخيرة، وهو أكثر وضوحاً من قبل السنّة تجاه الشيعة منه من قبل الشيعة تجاه السنّة، فلا يُراجع الفقيهُ ـ إلا نادراً ـ موروثَ الفقه الآخر وينظر في أدلّته كما ينظر في أدلّة موروثه الفقهي، بل يرى نفسه في غنى عن ذلك، بل يحاول تنظيف ساحته من خلال عدم التلوّث بموروثات الآخرين واجتهاداتهم كما يراه بعضهم، ولعلّه لهذا تجد حجم الضعف في فهم كلّ مذهب فقهي للمذهب الفقهيّ الآخر ومصطلحاته ومنظوماته الاجتهاديّة، وكثرة الأخطاء في هذا المجال؛ لأنّ أنظمة التعليم لا تُعطي ـ إلا نادراً ـ طلاب العلوم الدينيّة موادّ دراسيّة ترتبط بالمذاهب الأخرى بصرف النظر عن الطابع النقدي.

وهذا المشهد يختلف شدّةً وضعفاً بين المذاهب، لكنّه بين الشيعة والسنّة يبدو أكثر وضوحاً. وبمراجعة التراث يظهر أنّ القرون الهجريّة الخمسة الأولى كان أخذ كل فريق من الآخر موجوداً نوعاً ما، وذلك من خلال مراجعة مصادر الكتب الحديثيّة والرجاليّة، حيث نجد مصادر شيعيّة وشخصيّات شيعيّة في الموروث الحديثي والرجالي والفقهي السنّي والعكس صحيح. لكنّ هذا لم يكن يعني يوماً اعتبار المصادر والمراجع المعتمدة عند كلّ مذهب بمثابة مرجع يرجع إليه علماء المذهب الآخر في تكوين الاجتهاد الديني، وبخاصّة الشرعي والعقدي. بل يشنّ علماء المذاهب المختلفة هجوماً نقديّاً عنيفاً على أولئك الذي يحاولون الرجوع لمصادر الفريق الآخر لا بهدف نقدها أو تسجيل نقاط عليها، بل بهدف ممارسة اجتهاد ديني إسلاميّ عام من خلالها.

ولهذه القضيّة تاريخٌ طويل من المدّ والجزر، ليس فقط على مستوى علمَي الحديث والرجال، بل على مستوى علوم أخرى أيضاً، حتى الانتماء المذهبي لصوفيٍّ أو عارفٍ أو فيلسوف صار يلعب هو الآخر دوراً في التعامل مع موروثه الفلسفي أو الصوفي عند كثيرين. ولعلّ اللغة وعلومها هي الأقلّ حساسية على هذا الصعيد عبر التاريخ.

والذي توصّلتُ إليه في أكثر من دراسة مطوّلة تناولت جوانب عدّة لهذه القضيّة، هو ما أطلقتُ عليه عنوان "الاعتبار الإجمالي للتراث الحديثي و.. الإسلامي". وقد قصدتُ من هذا العنوان أنّ التراث الحديثي والرجالي والفقهي والأصولي والتفسيري والتاريخي والفلسفي والكلامي والعرفاني واللغوي وغير ذلك، يحظى باعتبارٍ إجمالي، أي أنّه في الجملة نافعٌ نحتاج إليه في تكوين اجتهاد ديني في مجال علم الكلام أو التفسير أو الفقه أو في مجال الحديث وعلوم الدراية والجرح والتعديل. فليس هناك تراث مذهبي محكوم عليه بالعدم مطلقاً، ولا يوجد كتب حديثيّة مذهبيّة مشطوبة من قائمة مراجعة الباحث والفقيه والمفسّر، بل المطلوب من العالم الحصيف أن يضع على طاولة مكتبه مختلف الكتب المنتمية للمذاهب المختلفة عندما يريد دراسة موضوع تعرّضت له هذه الكتب بالنقض والإبرام، ويتعامل مع كلّ هذه الكتب بمنطق البحث العلمي المحايد، فقد يقبل الشيعي تحليلاً فقهيّاً للشافعي ويرفض تحليل الطوسي، وقد يقبل السنّي موقفاً للحلّي ويرفض موقفاً آخر لأبي حنيفة، فكلّ هذه المذاهب شاركت في صنع الأفكار والمنظومات، وموروثها فيه بعض الحقّ وبعض الباطل، وإن كان الباحث يرى أنّ موروث مذهبه يغلب عليه الحقّ، لكن لا شيء يبرّر حذف موروث المذاهب الأخرى تماماً أمام طلاب العلوم الدينيّة وعلماء المذاهب المختلفة، فلا يحقّ للسنّي أن يحذف آلاف الأحاديث التي وردت عن النبيّ من طرق أهل البيت في كتب الشيعة ويشطب عليها بجرّة قلم واحدة. ولا يحقّ للإمامي ـ وهو يجتهد في الفقه وغيره ـ أن يحذف عشرات الآلاف من الأحاديث النبويّة الموجودة في كتب السنّة والإباضيّة والزيديّة وغيرهم.

هذه الفكرة التي توصّلتُ إليها ـ والتي تساهم في إنتاج مشروع الاجتهاد الإسلامي العامّ ـ لم أنطلق فيها إطلاقاً من مقولات التقريب بين المذاهب، بل بالعكس تماماً، حيث انطلقت فيها من مقولاتٍ ايبستمولوجيّة وتاريخيّة، وهي التي تنتج التقريب الحقيقي بين المذاهب، ففرقٌ بين أن نختلق النظريّات لتقريب المذاهب أو أن نقرّب بين المذاهب على بعض الصعد؛ لأنّ النظريّات العلميّة تستدعي ذلك تلقائيّاً.

وقد استعرضتُ في بحوثي حول هذا الموضوع ـ والتي أخذت منّي تدوين مئات الصفحات ـ عشرات الإشكاليّات التي يسجّلها الشيعة على كتب الحديث والرجال و.. السنّيّة، والتي تجعلهم لا يثقون بها ويشطبونها عن بكرة أبيها تقريباً، كما استعرضتُ عشرات الانتقادات السنيّة على الموروث الشيعي كذلك، وناقشت مختلف المنطلقات النفسيّة والدينيّة والعقديّة و.. التي بدت لي أساساً لنظريّة الفصل والقطيعة بين التراثين، وبخاصّة في حقل الدراسات الشرعيّة (الفقه وأصول الفقه والحديث وعلم الرجال وما يتصل بها).

إنّ الاعتبار الإجمالي لكتب الحديث لهذا المذهب أو ذاك يعني إدخال هذه الكتب في منظومة الحديث الإسلامي، وهذا الأمر لا يعني تصحيح كلّ رواياتها، بل يعني أن تؤخذ بعين الاعتبار وتضمّ إلى سائر كتب المسلمين ويصحّح الصحيح منها، وينقد غيره، وتحدّد درجتها في الصحّة والاعتبار، فهذا هو السبيل الموضوعي المتعالي عن التحيّزات المذهبية للتعاطي مع تراث هائل لهذا المذهب أو ذاك. أمّا القول بكلمة واحدة بأنني لا أصدّق أهل السنّة كلّهم، فهم كذابون، ولا أصدّق الشيعة فهم دجالون مزوّرون، وشطب جهود الآلاف من العلماء من هذا المذهب أو ذاك، واتهامهم جميعاً بالتزوير والكذب والتحايل والجريمة.. فهذا أمر أعتقد بأنّه لا يتسم بالموضوعية إطلاقاً.

لقد اختلفت كتب حديث المذاهب في موضوع أساسيّ، وهو تاريخ العقود الأولى من الزمن الإسلامي، فالخلاف هناك هو الخلاف الرئيس، ومنه خلاف الإمامة والموقف من الصحابة وإمامة أهل البيت، ولكنّ كتب الحديث الإسلاميّة ليست كلّها تدور حول هذا الموضوع، بل هناك عند الشيعة مثلاً روايات كثيرة للغاية تدور حول الأخلاق والشريعة والإيمان والعلاقة مع الله وتفسير القرآن الكريم، بما يوجد الكثير من مثله أيضاً في كتب الحديث غير الشيعيّة، ومقدار تفاوت الحديث الشيعي عن السنّي مثلاً في غير قضية الإمامة، لا يزيد ـ فيما أتصوّر ـ عن مقدار تفاوت كتب الحديث السنّية نفسها فيما بينها. وقد دُوِّنَت مؤخراً بعض المشاريع التي أثبتت بالأرقام هذه النتيجة.

وكما أنّ الخلاف الفقهي بين الشيعة والسنّة موجود، فهو أيضاً موجود بنفس الدرجة تقريباً بين المذاهب الأربعة، فكيف لو أخذنا سائر المذاهب الفقهية السنيّة التي زالت وانقرضت كالمذهب الظاهري، ومذهب الإمام سفيان الثوري، ومذهب الإمام الأوزاعي، ومذهب الإمام الطبري، وغيرهم من الأئمّة.


5 ـ 1 ـ دعوة لموسوعات حديثيّة ورجالية و.. إسلاميّة عامّة

وانطلاقاً من هذا كلّه دعونا ـ وما نزال ـ إلى تأسيس موسوعة حديثيّة إسلاميّة عامة تكون مرجعاً حديثيّاً لكافّة علماء المسلمين، تجمع في مختلف الأبواب جميع روايات المسلمين في هذا الباب على اختلاف انتماءاتها، وتصبح مرجعَ الفقهاء، وتوضع بين يدي الفقيه لينظر فيها ويقارن ويأخذ الشواهد والقرائن والسياقات التاريخيّة، ويضم بعضها لبعض خاصة على مسلك الوثوق الاطمئناني، وينقد منها ما شاء من روايات ويأخذ بما شاء على قانون الاجتهاد الذي يراه صحيحاً. كما ودَعَونا ـ وما نزال ـ لموسوعة رجاليّة إسلاميّة عامّة كذلك، وكذلك أيّدنا طرح العلامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في العمل على فقهٍ إسلامي عام، كما هي عادة القدماء، يجمع بين العموميّة ويحترم لكلّ فقيهٍ ما عنده من الهويّة المذهبيّة. ودعونا كذلك أكثر من مرّة لتعديل أنظمة التعليم في الجامعات والمعاهد والحوزات الدينيّة عند المذاهب المختلفة، ليدرس الطلاب مختلف المذاهب العقديّة والفقهيّة والأصوليّة وغيرها من منظورٍ محايد، ثم بعد ذلك يتخذ كلّ واحدٍ منهم ما شاء من النقد على هذا المذهب أو ذاك؛ لأنّ المنظور المحايد في مجال التعليم ضروريٌّ للفهم وتصحيح الاستنتاجات وتقليل الأخطاء وتقليص المغالطات.


5 ـ 2 ـ من تجربتي الشخصيّة المتواضعة

وعلى مستوى تجربتي الشخصيّة المتواضعة، فقد قضيت عقوداً من عمري مهتمّاً بدراسة فقه وأصول وحديث ورجال وتفسير و.. سائر مذاهب المسلمين، وواجهتُ صعوبات جمّة في الفهم نتيجة عدم وجود أنظمة تعليميّة دراسيّة تؤهّلني لذلك، فاعتمدتُ على الله وبذلت جهداً وساهمت قدر ما أرجو أن يقبله الله منّي في تعليم الطلاب مدارسَ الاجتهاد المختلفة بين المسلمين ومقارنتها، وسعيتُ في مختلف كتبي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً أن يكون على طاولتي مختلف مراجع ومصادر وكتب المسلمين، أتعامل معها بطريقةٍ أحاول فيها ما قدرت أن أكون موضوعيّاً متوازناً. ومن الله سبحانه وتعالى أرجو القبول والتوفيق والهداية والرشاد.

كما ودعوتي الصادقة دوماً لجميع أخوتي وأخواتي من طلاب العلوم الدينيّة في الحوزات والجامعات على صعيد مختلف المذاهب، أن يخوضوا هذه التجربة ويثروا الفقه الإسلامي وعامّة العلوم الدينيّة بها، ويتحرّروا من سجن الخوف، لا لكي يكون تحرّرهم عدواناً على مذاهبهم كما هي عُقدة بعض الناس، بل ليكون عنواناً لفهمٍ أفضل للتاريخ والتراث والدين. وإنّني أتمنّى أن أكون أحد صغار أولئك الذين عندما بحثوا في مختلف القضايا وراجعوا موروث المسلمين، وُفّقوا ليكونوا موضوعيّين، لهذا أجد نفسي انتقد أفكاراً شيعيّة عشرات المرّات، وفي الوقت نفسه أنتقد عشرات المرّات أفكاراً غير شيعيّة، ولا أجد نقد الموروث الشيعي أسهل أو أصعب من نقد الموروث السنّي؛ لأنّني أتعامل ـ إن شاء الله ـ مع الجميع بطريقة واحدة وبدرجة جدّيةٍ واحدة، وأرى نفسي ـ وبحمد الله وفضلٍ منه ـ أنّني تخطّيت منذ زمنٍ بعيد مرحلة الضغط النفسي التي يعاني منها الذي يحاولون الخروج من إطار التفكير الاجتهادي المذهبي([17]).

 


6 ـ عدم ثبوت حجيّة مراسيل الصحابة والتابعين

المنسوب للشافعيّة وغيرهم القول بحجيّة الحديث المرسَل الذي يُرسله بعض التابعين مثل سعيد بن المسيّب، والحسن البصري. ويُنسب لبعض الأحناف الاحتجاج بكلّ المراسيل التي تقع داخل القرون الثلاثة الأولى المفضّلة، وثمّة من يتحدّث عن حجيّة مراسيل كلّ الصحابة والتابعين الناقلين في العادة عن الصحابة. وقد أشار غير واحد من علماء الدراية والحديث وعلماء أصول الفقه السنّي والشيعي لهذه الآراء. ويترتب على هذه الآراء تصحيحُ عددٍ غير قليل من الروايات.

لكنّ الذي توصّلتُ إليه أنّه لم يقم دليل مقنع على تصحيح مراسيل الصحابة والتابعين، وما ذكروه من وجوه وأدلّة ـ وبخاصّة في سعيد بن المسيب ـ لا يبلغ حدّ الاعتبار، بل بعض الأدلّة يعتمد التسامح في التعامل مع المراسيل. بل حتى لو قلنا بعدالة جميع الصحابة وصلاح حالهم فإنّ هذا لا يعني حجيّة كلّ رواية، كما بحثناه في محلّه؛ إذ العدالة لا تستبطن الضبط وإتقان النقل الذي هو شرط أساس في حجيّة الرواية، فلا بدّ من إحرازه، ومع الإرسال يصبح الأمر مشكلاً، ما لم تقم قرينة خاصّة في هذه الرواية أو تلك([18]).

 


7 ـ عدم ثبوت حجيّة مراسيل الشيخ الصدوق

تشتمل موسوعة "كتاب من لا يحضره الفقيه" للشيخ الصدوق (381هـ)، على عددٍ كبير من الأخبار المرسلة، قيل: إنّها تبلغ الثلث، ومشكلة الكثير من هذه المرسلات بل أغلبيّتها، أنّ الصدوق يكاد لا يذكر السند فيها أساساً، بل يصدرها تارةً بجملة: قال النبي أو قال الإمام الفلاني، وأخرى بجملة: روي عن النبي أو روي عن الإمام الفلاني. وقد ذكر الشيخ البهائي أنّه أحصى هذه المراسيل في هذا الكتاب فبلغت ألفين وخمسين حديثاً، وأمّا مسانيده فثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة عشر حديثاً، فجميع الأحاديث المودعة فيه خمسة آلاف وتسعمائة وثلاثة وستّون حديثاً، وفقاً لإحصاء البهائي.

ومحلّ البحث هي مراسيل الصدوق في خصوص هذا الكتاب لا في كلّ كتبه، وإلا فمراسيله في الكتب الأخرى يكاد يتفق العلماء على أنّ الأصل فيها هو عدم حجيّتها.

وقد سبّب وجود هذه الأخبار جدلاً بين علماء الإماميّة في إمكانيّة الاعتماد عليها رغم إرسالها أو عدم ذلك، وظهرت في هذا المجال عدّة أقوال:

القول الأوّل: نفي الحجيّة مطلقاً ما لم تقم قرينة خاصّة مورديّة، وهذا يعني أنّ هذه الروايات كلّها يمكن أن نعتبرها مجرّد مؤيّد عاضد، لكن لا يُبنى عليها موقف، بل تعتبر ضعيفة الإسناد فاقدة للاعتبار النهائي.

وقد اختار هذا القول جمعٌ من العلماء، من أمثال السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي، والعلامة المامقاني، والسيد محمّد باقر الصدر، والشيخ جواد التبريزي، وغيرهم. بل قال أحدُ الرافضين لهذه المراسيل، وهو السيد مصطفى الخميني، ما نصّه: «إنّ مرسلات الصدوق عندي غير نقيّة مطلقاً؛ لأنّه كان صافي الضمير سريع الوثوق».

القول الثاني: حجيّة تمام مراسيل الصدوق، وهو ما ذهب إليه عددٌ من العلماء، منهم الشيخ البهائي.

القول الثالث: التفصيل بين ما صدّره الصدوق أو قامت القرينة من كلامه على أنّه يقدّمه بنحو البتّ والجزم، مثل : قال النبي أو قال الصادق أو نحو ذلك، وما لم يصدّره بهذه الطريقة بما لا يفهم منه أنّه جازم بصدوره، مثل: روي عن الصادق، أو وفي الرواية عن الصادق، أو غير ذلك، ففي الحالة الأولى نلتزم بأنّ المرسَل حجّة دون الحالة الثانية.

ومن أوائل من ذهب إلى هذا القول الميرداماد، ثم تبعه على ذلك جماعة من المتأخّرين، منهم الميرزا النائيني، والسيد روح الله الخميني، وغيرهما. وكان السيد الخوئي يبني على هذا التفصيل في فترة سابقة من حياته.

الجدير بالذكر أنّ فكرة التمييز في الاعتبار بين الجزم وغيره في عبارات العالم المحدّث موجودة عند أهل السنّة، حيث فصّل بعضهم في الأحاديث المعلّقة في الصحيحين بين ما كان تعليقه بصيغة الجزم وغيره، على ما نقله النووي في شرح مسلم وغيره.

وقد كان بعض العلماء أجرى مقارنة بين مراسيل الصدوق وسائر الكتب الحديثية، واكتشف أنّ أغلب مراسيله قد أخذها من كتاب الكافي للكليني دون أن يسمّيه، غاية الأمر أنّ نقله للرواية مختلف اختلافاً جزئيّاً أو غير مختلف أحياناً عن نقل الكافي، وهذه الحقيقة ربما يمكن تصنيفها على أنّها من مكتشفات المجلسيّ الأوّل (1070هـ)، الذي قال ما نصّه: «الذي ظهر لنا من التتبّع أنّ مرسلات الصدوق أكثرها من الكافي».

والذي توصّلتُ إليه هو عدم وجود أيّ دليل على تصحيح مراسيل الصدوق، بالمفهوم الحديثي للتصحيح، لا في كتاب «الفقيه» ولا في غيره، بل تجري عليها أحكام الحديث المرسل، فإن تمّ العثور على الرواية بعينها في كتابٍ آخر ككافي الكليني، وكانت هناك مسندةً، تمّ النظر في السند هناك، فإن كان صحيحاً ارتفعت إشكاليّة الإرسال بعد العثور على سند صحيح للرواية، وإلا فتكون فاقدة للصحّة السنديّة([19]).

 


8 ـ الموقف من توثيق مشايخ النجاشي

في سياق حركة التوثيقات العامّة في علم الرجال والجرح والتعديل عند الإماميّة، طرح موضوع توثيق عامّة مشايخ الشيخ أبي العباس النجاشي (450هـ)، وتبنّى هذا القول السيد بحر العلوم والسيد أبو القاسم الخوئي وغيرهما، فيما رفضه آخرون مثل الشيخ آصف محسني، والسيد تقي القمي، والسيد كاظم الحائري، والسيد محمّد رضا السيستاني، وغيرهم.

وقد ذكروا أنّ قيمة هذه النظريّة تكمن ـ بشكل أقوى ـ في أنّنا نواجه مشكلةً على صعيد مشايخ الشيخ الطوسي، فقد ورد في طرق الشيخ الطوسي في الفهرست والمشيخة المذكورة في التهذيب والاستبصار العديد من الشخصيّات التي لم نعثر لها على توثيق، وإذا لم توثّق هذه الشخصيات فتكون الكثير من الروايات ضعيفة السند؛ لأنّ طرق الفهرست والمشيخة ليست طرقاً لرواية أو روايتين، بل هي طرقٌ لرواة وكُتب، فإذا صحّ الطريق سيُسهم ذلك في تصحيح جملة روايات هذا الراوي أو ذاك، وإذا ضعُف سيضعف عدد من الروايات دفعةً واحدة، والقضيّة لها تأثير أيضاً في باب تعويض الأسانيد، كما هو معروف.

وهنا، إذا عرفنا أنّ الشيخ النجاشي والطوسي كانا زميلي دراسة، نُدرك أن الكثير من مشايخ النجاشي هم مشايخ للطوسي أيضاً، فإذا ثبتت وثاقة مشايخ النجاشي ـ بوصفه عنواناً عاماً ـ فسوف تثبت وثاقة هؤلاء بوصفهم مشايخ للطوسي، وقد وردت أسماؤهم في المشيخة والفهرست، فيتمّ تصحيح الأسانيد.

وقد أُحصيت أسماء مشايخ النجاشي فبلغت ستين اسماً، إلا أنّ بينها تكرارات، بل في بعضها لا يحرز أنّه شيخ له؛ لاحتمال التعبير بصيغة الإرسال فيها جداً، حيث لم تصدّر بمثل: أخبرنا أو حدّثنا ونحو ذلك، وقد كان المحدّث النوري قد أحصاها بلا تكرار فبلغت عنده حوالي 32 اسماً.

وقد اعتمد القائلون بهذه التوثيق العام على نصوص للشيخ النجاشي نفسه فهموا منها أنّ مشايخه كلّهم ثقات إلا ما خرج بالدليل.

والذي توصّلتُ إليه هو عدم صحّة هذا التوثيق العام، بل غاية ما ثبت عندي هو تعهّد النجاشي بعدم الرواية والسماع عمّن تحوم حوله الكلمات والطعون والغمز في الأوساط الشيعيّة، أو يراه هو ضعيفاً، لا بعدم التلمّذ على مجاهيل الحال الذين لا يوجد حولهم كلام أو يُترقّب الكلام فيهم، فالتوثيق العام هنا قليل الفائدة، فقد تظهر فائدته فيما لو ضعّف الطوسي شخصاً كان من مشايخ النجاشي، فإنّ كونه شيخاً للنجاشي يفيد شهادة ضمنيّة للنجاشي بعدم ضعفه، فيتعارض مع شهادة الطوسي بضعفه، وقد يتساقطان، فيُرجع ـ مثلاً ـ لمن شهد بوثاقته لو كان، أو يدرج حديثه في المجهول لا في المرويّ عن ضعيف، إن لم نقل بأنّ النجاشي قد يكون تركه بعد أن علم ضعفه ولم يخبرنا، إذ لم يتعهّد بإخبارنا بأسماء كلّ شيوخه الذين تركهم لهذا السبب، فتأمّل جيّداً([20]).

 


9 ـ الموقف من توثيق مشايخ الطوسي

في سياق حركة التوثيقات العامّة في علم الرجال والجرح والتعديل عند الإماميّة، طرح أيضاً موضوع توثيق عامّة مشايخ الشيخ أبي جعفر الطوسي (460هـ). وتبنّى هذا القولَ المحدُث حسين النوري، وخالفه في ذلك جمهور العلماء والباحثين.

وهذه النظرية تترك ـ كنظريّة توثيق مشايخ النجاشي ـ تأثيراً كبيراً على تصحيح الأسانيد والطرق والكتب، بل هي أقوى في التأثير من توثيق مشايخ النجاشي.

والذي توصّلتُ إليه هو عدم صحّة هذا التوثيق العام، إذ لم يقم دليلٌ مقنع على توثيق عامّة مشايخ الطوسي، بل هم كسائر الرواة والمحدّثين يجب النظر في أحوالهم وتاريخهم وتجاربهم الحديثيّة؛ للتثبّت من قيمة نقلهم ووثاقتهم ودقّتهم وضبطهم وغير ذلك([21]).

 


10 ـ نقد توثيق مشايخ أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري

ذهب بعض العلماء إلى القول بأنّ أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري القمي لا يروي إلا عن ثقة، ولهذا يُحسب كلّ مشايخه ومن روى عنهم من الثقات، وهم يُعدّون بالعشرات، وبقاعدة توثيقهم ستحلّ عُقَدٌ كثيرة في الرواة والطرق والأسانيد. بل يُفهم من الشيخ البهبهاني ميله لتأسيس قاعدة (قرينة) أوسع من دائرة الأشعري، وهو قوله: «وإذا كان الجليل ممن يطعن على الرجال في الرواية عن المجاهيل ونظائرها، فربما يشير روايته عنه إلى الوثاقة».

لكنّ الذي توصّلتُ إليه هو أنّه لم تثبت وثاقة كلّ من روى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، وإن كان الأشعري في نفسه ثقةً جليلاً، بل غاية ما يمكن إثباته أنّ الأشعري لا يروي عن المشهورين بالضعف أو المتهمين في مرويّاتهم، لا سيما بالغلوّ ونحوه، لا أنّه لا يروي حتى عن مجهول الحال مثلاً، وعليه، فهذا التوثيق العام لمشايخ الأشعري غيرُ صحيح.

 


11 ـ الأسر والعوائل التي قيل بوثاقة جميع أفرادها ولم يثبت

وردت في مباحث الكليّات العامّة في علم الرجال محاولات توثيقيّة عامّة ترتبط بأسر وعوائل قيل بوثاقة جميع الرواة المنتمين إليها في تلك الفترة، وأبرز هذه الأسر والعوائل وما يشبهها هو الآتي:

1 ـ رجال آل أبي الجَهم. والمقصود أنّ كلّ راوٍ ينتسب إلى أسرة أبي الجهم يُحكم بوثاقته بالتوثيق العام. وقد ذكروا من أسمائهم: سعيد بن أبي الجهم، ومنذر بن أبي الجهم، ونصر بن أبي الجهم، ونعيم بن أبي الجهم، والحسين بن سعيد بن أبي الجهم، ومنذر بن سعيد بن أبي الجهم، ومحمد بن منذر بن سعيد بن أبي الجهم، ومنذر بن محمّد.

2 ـ رجال آل نُعَيْم.

3 ـ رجال آل أبي شُعْبَة الحلبي. ويثبت بهذا التوثيق العام، وثاقة كلّ من: عبيد الله بن عليّ الحلبي، وعلي بن أبي شعبة الحلبي، وأبي شعبة الحلبي، وأحمد بن عمر بن أبي شعبة الحلبي، ومحمّد بن علي بن أبي شعبة الحلبي، ويحيى بن عمران بن علي بن أبي شعبة الحلبي، وعمر بن أبي شعبة الحلبي، وعمران بن علي بن أبي شعبة الحلبي، وعبد الأعلى بن علي بن أبي شعبة، وربما غيرهم أيضاً.

(4 ـ 5 ـ 6) ـ الطاطريّون وبنو فضال وبنو سماعة.

والمراد من بني فضال خمسة رجال: علي بن فضال، وابنه الحسن، وأبناء الحسن الثلاثة.

والمراد من الطاطريّين: يوسف بن إبراهيم، وعلي بن الحسن بن محمد، ويمكن أن يراد الأعمّ من ذلك.

7 ـ آل الرواسي أو بيت الرواسي أو آل أبي سارة. وأبرز شخصياتهم: علي أبو سارة، والحسن بن أبي سارة، ومحمّد بن الحسن بن أبي سارة، ومعاذ بن مسلم بن أبي سارة، وعلي بن أبي سارة، ومسلم بن أبي سارة، وعباس بن علي بن أبي سارة، وعمرو (أو عمر) بن مسلم بن أبي سارة، والحسين بن معاذ بن مسلم بن أبي سارة، ويحيى بن معاذ بن مسلم بن أبي سارة.

وقد وقع انقسام في الرأي بين علماء الرجال والحديث الإماميّة حول هذه التوثيقات، وكثير منهم لم يوافق عليها، فيما وافق عليها بعضهم.

والذي توصّلتُ إليه أنّ هذه التوثيقات العامّة جميعها لم تثبت، وهذا لا يعني عدم ثبوت وثاقة بعض هذه الأسماء بأدلّة أخرى مستقلّة، فانتبه. ومن هنا يظهر أيضاً الموقف من سائر الأُسر العلميّة والحديثيّة، التي تطرح في علم الرجال أحياناً، وخصّص لها السيد بحر العلوم فصلاً للتعريف بها في رجاله، وهي أُسر قد تكون ممدوحة عموماً أو معروفة بالصلاح والسلامة، مثل: آل أبي رافع، آل أعين (الزراريّون)، آل أبي صفيّة، آل أبي أراكة الكندي، آل أبي الجعد، آل حيان التغلبي، وبني الحرّ الجعفي، بني إلياس البجلّي، بني خالد البرقي، بني عبد ربه، بني يسار، بني ميمون، بني أبي سبرة، بني سابور، بني سوقة، بني رباط، بني عطية، بني فرقد، بني الهيثم العجلي، بني دراج، بني عمار البجلّي، بني حكيم الأزدي، بني موسى الساباطي، وغيرهم. فمن ورد فيه توثيق من سبيل آخر يحكم بوثاقته، وإلا فمجرّد كونه من هذه الأسر لا يكفي للتوثيق([22]).

 


12 ـ عدم ثبوت قاعدة توثيق من ذكره النجاشي أو غيره دون طعن

توحي بعض الكلمات أنّ هناك من ذهب إلى أنّه لو ذُكر الراوي في رجال الشيخ النجاشي أو من هو مثله ولم يُطعن عليه، فهذا توثيق عام له، وقد رفض ذلك غيرُ واحد كالكجوري الشيرازي والخاقاني والكلباسي وغيرهم.

وقد اختار هذا القول بشكل صريح ـ لكن بمعنى سلامة رواية الراوي لا بمعنى وثاقته بشكل دقيق ـ المحقّقُ الداماد، كما أيّد المحدّث النوري ما قاله الداماد.

ولعلّ بدايات هذه الفكرة قد تمّ استيحاؤها من أنّه قد ذكر العلامة الحلّي في ذيل أحد الأخبار بأنّ في الطريق الحكم بن مسكين، ونمنع من الأخذ برواياته، لكنّ الشهيد الأوّل علّق عليه بأنّ الحكم بن مسكين ذكره الكشي ولم يطعن فيه بذمّ، ويبدو أنّه فُهم من كلام الشهيد الأوّل كأنّه يبني على أنّ من ذكر في أمّهات الكتب من غير طعن فهذا دليل توثيق أو اعتبار. ولعلّ الشهيد الأوّل قصد مجرّد التأييد من حيث إنّ الحكم لم يرد فيه ذمّ، ولا سيما أنّه أرفق كلامه بأنّ هذه الرواية التي يرويها الحكم بن مسكين مشهورة جداً بين الأصحاب.

والذي توصّلتُ إليه هو أنّه لم يثبت توثيقٌ عام تحت عنوان "من ذكره النجاشي أو غيره ولم يَطْعَن فيه"، فمجرّد عدم طعن النجاشي أو غيره غير كافٍ في التوثيق([23]).

 


13 ـ عدم ثبوت التوثيق بملاك شيخوخة الإجازة

لتحمّل الرواية عدّة طرق تحدّث عنها العلماء، ومنها الإجازة، وقد تعني أن يجيز الشيخ للتلميذ الحضور عنده والسماع منه، ولكنّ المعنى المشهور لها يقع بمعنى الإذن بالرواية عنه والتسويغ والتجويز، وذلك أنّ الشيخ قد يدفع كتابه للتلميذ فيستنسخه، فيجيزه في روايته عنه، أو يسمع كتاباً من الشيخ ثم يجيزه الشيخ أن يرويه عنه، والمعروف فيها عدم السماع، خاصّة بين المتأخّرين.

وقد وقع كلام بين علماء الرجال والجرح والتعديل حول توثيق كلّ مشايخ الإجازة من حيث هم مشايخ إجازة لثقةٍ من الثقات، فكل من ثبت كونه من مشايخ الإجازة بهذا المعنى فهو ثقة إلا ما خرج بالدليل.

والفائدة المترتبة على هذه النظريّة، عنيت توثيق مشايخ الإجازة، هو أنّ الكثير من مشايخ الطوسي والنجاشي والصدوق والمفيد والمرتضى وغيرهم، قد لا يوجد أيّ دليل على توثيقهم من نصّ أو شهادة، وقد روى الصدوق والطوسي الكثير من الكتب والمصنفات عبر هؤلاء المشايخ الواردين في طرقهما في المشيخات أو في الفهارس، فإذا لم تثبت وثاقة هؤلاء، فنحن أمام مشكلة مع عدد كبير من الروايات.

ومن هؤلاء المشايخ الذين تستهدف هذه النظرية توثيقهم: أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، وإبراهيم بن هاشم القمي، وأحمد بن محمد بن يحيى العطار، وأحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بابن عُبدون وبابن الحاشر، وعلي بن محمد بن الزبير القُرَشي، وأبو الحسين بن أبي جِيْد القمي، وعلي بن الحسين السعدآبادي، والحسين بن أحمد بن إدريس، وعبد الواحد بن محمّد بن عُبدوس النيسابوري، ومحمد بن موسى بن المتوكّل، وغير هؤلاء كثير. فكأنّ هذه النظريّة التوثيقيّة تسعى ـ بشكل أكبر ـ لسدّ الفجوة الموجودة في نقل الحديث في القرنين الثالث والرابع الهجريّين.

هذه الإشكاليّة بذلت جهود لتذليلها، فكانت نظريّة توثيق مشايخ النجاشي حلاً جزئياً للتوصل إلى توثيق أهم مشايخ الطوسي، وكانت نظريّاتٌ أخر، ومن أهمّ هذه النظريات كانت نظريّة وثاقة كلّ شيخ إجازة لثقةٍ من الثقات.

وقد تنوّعت الآراء والمواقف من شيخوخة الإجازة بين العلماء، فمنهم من وافق على كونها دليلاً على الوثاقة، ومنهم من رفض، ومنهم من فصّل بأكثر من وجهٍ من وجوه التفصيل، فراجع.

والذي توصّلتُ إليه أنّ التوثيق بملاك شيخوخة الإجازة أو توثيق مشايخ الإجازة من حيث إنّهم مشايخ إجازة، لم يقم عليه مطلقاً دليلٌ تامّ، وفاقاً لجملة من العلماء منهم: السيّد أبو القاسم الخوئي، والسيّد روح الله الخميني، والشيخ جواد التبريزي، والشيخ آصف محسني، والسيد علي السيستاني، وغيرهم([24]).

 


14 ـ عدم ثبوت توثيق من روى عنه أحد أصحاب الإجماع ولا تصحيح رواياتهم

يُقصد بقاعدة "أصحاب الإجماع" الرجاليّة إثبات وثاقة كلّ من روى عنه ولو واحدٌ من أصحاب الإجماع الذين ذكرهم الشيخ الكشّي في رجاله، كما يقصد بقاعدة " أصحاب الإجماع" الحديثيّة تصحيح جميع الروايات التي يكون سندها إلى أحد أصحاب الإجماع صحيحاً، حتى لو كانت الواسطة بين الراوي الذي هو من أصحاب الإجماع والنبيّ أو الإمام غير مذكورة أو مجهولة الحال أو.. الأمر الذي يوجب تصحيح مراسيلهم.

قال المحدّث النوري: «الفائدة السابعة، في ذكر أصحاب الإجماع، وعِدَّتهم، والمراد من هذه الكلمة الشائعة، فإنّه من مَهمّات هذا الفنّ، إذ على بعض التقادير تدخل آلاف من الأحاديث الخارجة عن حريم الصحّة إلى حدودها، أو يجري عليها حكمها». وقد نقل الآغا بزرك الطهراني أسماء بعض الرسائل والمنظومات المستقلّة في هذا الموضوع، وهو موضوع حظي باهتمام واسع في القرنين الأخيرين، بعد أن ساهم في تقوية هذه القضيّة التيارُ الإخباري؛ ليجعل منها أساساً من أسس تصحيح الكتب الأربعة وسائر الكتب الأصليّة عند الإماميّة.

وقد خضعت نصوص الكشي هنا لتحليلات عدّة بلغت السبعة أو يزيد، واختلفت مواقف العلماء كثيراً هنا في الأخذ بهذه القاعدة رجاليّاً وحديثيّاً أو عدمه، غير أنّ حضورها والأخذ بها تراجع نسبيّاً في العقود الأخيرة.

والذي توصّلتُ إليه بعد دراسة مطوّلة لهذا الموضوع، هو أنّه لم تثبت بفكرة أصحاب الإجماع لا قاعدة حديثيّة ولا قاعدة رجاليّة، فلا يوثق بها أحد ولا يصحّح بها حديث مرسل وهكذا، وإنّما غاية ما يثبت بها هو توثيقٌ عالٍ لاثنين وعشرين شخصاً أغلبهم من كبار الرواة، مع ملاحظة أنّ المجموعة الثانية والثالثة من المجموعات الثلاث لأصحاب الإجماع ثمّة تأييد لمرويّاتهم، لكنّه ليس تصحيحاً([25]).

 


15 ـ عدم ثبوت التصحيح ولا التوثيق العام لروايات كتاب كامل الزيارات أو رواته

اختلف علماء الرجال والجرح والتعديل من الإماميّة في توثيق الرواة الواقعين في أسانيد كتاب «كامل الزيارات»، لمؤلّفه الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه (368هـ)، أحد العلماء الثقات المشهود لهم بالعلم والوثاقة. وهذا التوثيق جاء استناداً إلى نصّ المؤلّف في المقدّمة، ولهذا يعدّ من التوثيقات العامّة.

وربما يكون الشيخ الحرّ العاملي (1104هـ) أوّل من فتح الحديث حول هذا التوثيق العام، ووفقاً لصحّة هذا الاستنتاج، سوف تثبت وثاقة 366 أو 388 شخصاً إضافيّاً على ما قيل، بعد كون مجموع رواة الكتاب عددهم 681 شخصاً، وستصبح أغلب روايات الكتاب صحيحة السند.

وقد ظهرت عدّة مواقف هنا، يمكنني اختصار أبرزها:

الموقف الأوّل: وثاقة جميع الرواة الواقعين في أسانيد مطلق روايات كامل الزيارات، بلا فرق بينها، وهذا ما قد يظهر من كلّ من الحرّ العاملي والسيد محمّد سعيد الحكيم وغيرهما.

الموقف الثاني: وثاقة بعض الرواة الواقعين في أسانيد الكتاب. وقد انقسم أنصار هذا الموقف إلى اتجاهين:

الاتجاه الأوّل: توثيق بعضٍ معيّن، وكان ضمن هذا الاتجاه عدّة آراء:

الرأي الأوّل: ما قد يظهر من السيد الخوئي في بعض المواضع من "المعجم"، من اختصاص التوثيق بمطلق الرواة الواقعين في خصوص الأسانيد التي تنتهي إلى المعصومين فقط.

الرأي الثاني: ما نُسب للسيّد الخوئي، من أنّه اختار لاحقاً توثيق الرواة الواقعين في الأسانيد المنتهية إلى المعصومين، حيث لا يوجد في السند رفعٌ ولا إرسال ولا شخص غير إمامي.

الرأي الثالث: ما نُسب للسيّد علي السيستاني، من قولٍ سابق كان يراه، وهو أنّ التوثيق خاصّ بالأسانيد التي تكون للروايات المتصلة بثواب زيارة النبي والأئمّة، دون مطلق روايات الكتاب.

الرأي الرابع: اختصاص التوثيق بالمشايخ المباشرين فقط، دون غيرهم، وهو ما ذهب إليه المحدّث النوري، والسيد الخوئي في رأيه الأخير، وإليه ذهب أيضاً السيد محمّد باقر الصدر وغيره.

يُشار إلى أنّ الشيخ عرفانيان كان يشكّك في صحّة نسبة العدول إلى السيد الخوئي، ويرى النصّ الذي نُشر عنه من صنيعة بعضهم!

الاتجاه الثاني: وهوالذي يذهب إلى توثيق بعضٍ غير معيّن، وفيه رأيان:

الرأي الأوّل: ما ذهب إليه الشيخ جواد التبريزي، من أنّ المراد توثيق الرواة الواقعين في أسانيد بعض الروايات من كلّ باب، ولو رواية واحدة غير معيّنة، بحيث يكون في كلّ باب رواية واحدة على الأقلّ معتبرة السند.

الرأي الثاني: ما يُنسب إلى السيد علي السيستاني من رأيه الأخير، وهو وثاقة بعض من وقعوا في الأسانيد، بطريقة غير معيّنة، فقد يكونون من المشايخ أحياناً ومن غيرهم حيناً آخر.

الموقف الثالث: عدم وجود توثيق هنا لأيّ من رواة الكتاب على الإطلاق، وهو ما نُسب للسيد الخوئي في رأيه القديم. وربما يبعد أن يراد عدم التوثيق المطلق، بل لعلّه يريد التوثيق لبعض غير معيّن، بما يساوق عدم وجود قاعدة رجاليّة هنا يمكن الاستناد إليها.

ولعلّه يلحق بهذا الرأي ما يُنسب للسيد أحمد المددي، من أنّ المراد هنا توثيق المصادر، دون النظر لتوثيق أيّ من الرواة.

والذي توصّلتُ إليه في بحوثي الرجاليّة أنّه ـ بعيداً عن صحّة نسخة كتاب كامل الزيارات التي بين أيدينا اليوم ـ فإنه لم يثبت توثيقٌ عام في هذا الكتاب للرواة، لا بشكل معيّن ولا بشكل غير معيّن، لا لجميع الرواة ولا لخصوص المشايخ ولا لغير ذلك، فالرواة الواقعة أسماؤهم في أسانيد هذا الكتاب لا يعطيهم وقوع اسمهم في هذه الأسانيد أيّ إضافة حقيقيّة توجب توثيقهم بمجرّد ذلك، وإن كانت قرينة ناقصة أوّليّة. وقد كنتُ في الدورة الرجاليّة الأولى (2009 ـ 2010م) أذهب إلى توثيق المشايخ المباشرين لابن قولويه، لكنّني عدلتُ عن ذلك في الدورة الثانية (2015 ـ 2017م) نحو بطلان هذا التوثيق العام من أساسه. ويترتّب على ذلك عدم إمكان القول بأنّ كلّ روايات هذا الكتاب معتبرة السند، والعلم عند الله([26]).

 


16 ـ عدم ثبوت التصحيح ولا التوثيق العام لروايات أو رجال تفسير القمي

اختلف علماء الرجال والجرح والتعديل من الإماميّة في توثيق الرواة الواقعين في أسانيد كتاب «تفسير القمي»، لمؤلّفه الشيخ علي بن إبراهيم بن هاشم القمي (كان حيّاً عام 307هـ)، وهو من مصادر التفسير الروائي الشيعي القديم الذي اعتمد عليه جداً أئمّةُ التفسير الروائي الجامع فيما بعد، كالحويزي والبحراني والكاشاني، إلى جانب تفسير العياشي، وتفسير أبي حمزة الثمالي، وتفسير فرات الكوفي وغيرهم، وإن كان اعتماد المتقدّمين عليه أقلّ.

وعلى غرار كتاب «كامل الزيارات» حاول بعض الإخباريّين، وعلى رأسهم الحرّ العاملي، استفادة توثيق عام من مقدّمة هذا الكتاب؛ ليُثبت من خلاله وثاقة كلّ الرجال الواقعين في أسانيد هذا الكتاب، وقد تبعه على ذلك جمعٌ من العلماء، كان آخرهم السيد أبو القاسم الخوئي. وبهذا يُعلم أنّ هذه النظريّة ـ ككثير من النظريّات المتصلة بالتوثيقات العامّة ـ لم تُطرح في أوساط علماء الرجال والجرح والتعديل قبل القرن الحادي عشر الهجري.

وإذا ثبت هذا التوثيق العام فسوف تثبت وثاقة 260 أو 267 راوياً، على اختلاف النتائج والإحصاء.

لكن قد وقعت نقاشات كثيرة حول هذا الموضوع. وربما يمكنني القول بأنّ العلماء بعد السيد الخوئي لم يعودوا ليوافقوا ـ في المشهور بينهم ـ على التوثيق العام الشامل هنا، حتى أنّ بعض كبار علماء الرجال المعاصرين اعتبر اعتقاد السيد الخوئي برواة القمي هفوة عالمٍ وكبوة جواد. وقد تمحورت النقاشات هنا تارةً حول صحّة نسبة هذا التفسير الموجود بين أيدينا اليوم لعليّ بن إبراهيم القمي، فهل هو تفسيره أو تفسير خليط من تفسيره وتفسير أبي الجارود الزيدي أو غير ذلك؟ ومن هو الذي جمع بين التفسيرين؟ وأخرى حول صحّة نسبة المقدّمة للقمي بعد الفراغ عن تصحيح نسبة الكتاب؟ وثالثة حول فهم المقدّمة على أنّها تريد تقديم توثيق عام لرواة الكتاب أو لا.

ولو صرفنا النظر عن تصحيح النسبة، فسوف نجد عدّة آراء حول استفادة التوثيق العام، وأبرزها:

الرأي الأوّل: ما ذهب إليه الحرّ العاملي والسيد الخوئي، من أنّ ظاهر هذه الجملة إفادة توثيق القمي لجميع الرواة الواقعين في كلّ أسانيد كتابه.

الرأي الثاني: ما ذهب إليه جمعٌ من العلماء مثل السيد بحر العلوم، والسيد كاظم الحائري وغيرهما، واحتمله بعضهم وإن لم يختره كالشيخ آصف محسني، من أنّ المتيقّن أنّه المستفاد من كلام القمي هو توثيق خصوص المشايخ المباشرين للقمي.

الرأي الثالث: التفصيل والتقييد في دلالة شهادة القمي، ليس على مستوى المباشرة وغيرها هذه المرّة، وإنّما على مستوى أنّ في كلامه ثلاثة تقييدات هي: 1 ـ أن يكون الراوي شيعياً غير سنّي المذهب. 2 ـ أن تكون الرواية متصلة. 3 ـ أن تنتهي الرواية إلى المعصوم، فلو انتهت إلى غيره، كبعض الروايات الموقوفة الواردة منتهيةً إلى ابن عباس، فلا يشملها التوثيق.

وقد تبنّى الشيخ مسلم الداوري هذا الطرح، فإذا أضفنا إليه نظريّته في تقسيم الكتاب، وإمكان التمييز بين تفسير القمي وتفسير أبي الجارود، فسوف ينقسم الرواة عنده إلى قسمين: أحدهما ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم، وثانيهما ما ورد في تفسير أبي الجارود، فنخضع القسم الأول للشروط الثلاثة المتقدّمة، فنخرج بالثقات في هذا الكتاب.

الرأي الرابع: ما يظهر من الشيخ جواد التبريزي، من أنّ شهادة القمي مبنيّة على التغليب لا أكثر، أو أنّه يريد تصحيح رواية واحدة من كلّ باب مثلاً، فلا يوجد تحديد فيها لوثاقة شخص بعينه.

الرأي الخامس: ما ذهب إليه المولى علي بن خليل الطهراني الخليلي الرازي النجفي (1297هـ)، من أنّ المراد من هذا النصّ هو توثيق الراوي المباشر عن الإمام خاصّة، فزرارة مثلاً إذا روى مباشرةً عن الإمام ووصلت روايته للقمي، فإنّه يكون موثقاً بنصّ المقدّمة، أمّا من روى عن زرارة وصولاً إلى القمي، فهم خارجون عن المقدّمة ولا علاقة لها بتوثيقهم.

الرأي السادس: ما مال إليه السيّد علي الفاني والشيخ آصف محسني وغيرهما، من أنّ القمي ليس بصدد التوثيق بحيث نستفيد منه توثيقاً لا للمشايخ المباشرين ولا لغيرهم.

والذي توصّلتُ إليه هو:

1 ـ إنّ هذا التفسير الذي بين أيدينا لم يثبت أنّه برمّته لعليّ بن إبراهيم القمي، بل الأرجح أنّ هناك من جمع بين تفسير علي بن إبراهيم وتفسير أبي الجارود وغيرهما في كتابٍ واحد، وأنّ الجامع بين التفسيرين أو التفاسير لا نعرف عنه شيئاً، والاحتمالات التي قيلت في تعيينه لا تزيد على الظنّ إن بلغته، ومن ثمّ لا يحصل وثوق بنسبة روايات هذا التفسير لعليّ بن إبراهيم إلا ذاك المقدار الذي تمّ تخريجه في مصادر المتقدّمين الذين وصلتهم نسخةٌ معتبرة للتفسير الأصلي كالطوسي في التهذيب والتبيان وغيره.

2 ـ إنّه لم يثبت بهذه المقدّمة ـ لو سلّمنا نسبتها للقمي ـ أي توثيق عام، بل لم يثبت بها توثيق خصوص المشايخ المباشرين، ولا توثيق خصوص الرواة المباشرين للمعصوم، ولا التفصيل في التوثيق، بل غايته الإشارة لوثاقة جملة من رواة كتابه أو مصادر كتابه، ومن ثمّ فلا يمكن الاعتماد على تفسير علي بن إبراهيم الموجود اليوم لإثبات توثيقٍ عام لأحد.

ويترتب على ذلك أنّه لا يمكن القول بصحّة جميع أو أغلب روايات هذا الكتاب، بل بعد التحقيق يتبيّن ضعف أسانيد أغلب رواياته([27]).

 


17 ـ الموقف من توثيق مشايخ الثلاثة (الأزدي، وصفوان، والبزنطي) ومراسيلهم

تُعدّ قاعدة توثيق مشايخ الرواة الثلاثة الثقات (أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، ومحمّد بن أبي عمير الأزدي، وصفوان بن يحيى)، من أهمّ القواعد التوثيقيّة العامة في علم الرجال الإمامي، وقد أُلّفت فيها كتبٌ مستقلّة، منها ما سطرته يراع الشيخ غلام رضا عرفانيان من كتاب مستقلّ حمل عنوان «مشايخ الثقات»، أحصى فيه كلّ المشايخ الذين روى عنهم الثلاثة، وقد بلغ بعضهم في إحصائه لعدد مشايخ الثلاثة ـ بعد حذف المتكرّر من الأسماء ـ 767 شخصاً، وهذا رقم كبير جداً سيقلب معادلات كبرى في توثيق الرواة وتصحيح الروايات، وهو رقم ربما يفوق ـ عدداً ـ كلّ من وثقهم الطوسي والنجاشي والبرقي والمفيد والكشي بالتوثيقات الخاصّة، الأمر الذي يدلّنا على أهميّة هذا التوثيق.

ليس هذا فحسب، بل إنّ مقتضى القاعدة هنا عندهم أنّ مراسيل هؤلاء الثلاثة حجّة أيضاً، وحيث كثُرت مراسيل ابن أبي عمير، فهذا يعني أيضاً دخول عدد كبير من الروايات في دائرة التصحيح بعد أن كانت مرسلةً، فهذه القاعدة من أكبر قواعد علم الرجال، وكذلك قواعد علم الحديث.

وبهذا يظهر أنّ البحث في مرويّات هؤلاء الثلاثة له جانبٌ رجالي وآخر حديثي، والجانب الرجالي يكمن في توثيق كلّ مشايخ هؤلاء إلا ما خرج بالدليل، أمّا الجانب الحديثي، فهو القول بحجيّة هذه المراسيل وبخاصّة بعد فرض تعارض توثيق عموم مشايخهم بالتوثيق العام مع تضعيف بعضهم بالتضعيف الخاصّ.

والذي توصّلتُ إليه عدم ثبوت القاعدة الرجاليّة القاضيّة بوثاقة جميع مشايخ الثلاثة، وعدم ثبوت القاعدة الحديثيّة القاضية بحجيّة مراسيلهم، بلا فرق بين أنواع هذه المراسيل، وفاقاً لمثل السيد الخوئي وجمع من تلامذته، وخلافاً لآخرين([28]).

 


18 ـ عدم ثبوت نظريّة "وثاقة جميع أصحاب الإمام الصادق إلا ما خرج بالدليل"

تعدّ هذه النظريّة التوثيقيّة من أوسع النظريّات التوثيقيّة للرواة عند الشيعة الإماميّة، وقد فعّلها بعض الإخباريّين ليستفيدوا منها في توسعة مساحة تصحيح النصوص الحديثيّة.

وخلاصة هذا التوثيق العام أنّ كلّ من ثبت في كتاب رجال الشيخ الطوسي ـ وأضاف بعضهم فهرست النجاشي ـ أنّه من أصحاب الإمام جعفر بن محمد الصادق ـ عليه السلام ـ فهو ثقة، بلا حاجة إلى نصّ خاص على توثيقه، ولا يُستثنى سوى من ورد النصّ أو الدليل على تضعيفه.

والظاهر أنّ الحرّ العاملي (1104هـ)، من أوائل من طرح بوضوح هذا الرأي، ثم يظهر متابعته من بعض الإخباريّين لاحقاً كالمحدّث النوري وغيره.

وإذا تمّ هذا التوثيق العام، فإنه سوف يُثبت وثاقة قرابة ثلاثة آلاف راوٍ أو يزيد في مصادر الحديث. وهو يُشبه ـ إلى حدٍّ كبير ـ التوثيق العام لأصحاب النبي، وفقاً لنظريّة عدالة الصحابة التي يقول بها جمهور علماء أهل السنّة، ويرفضها جمهور الشيعة.

وتعتمد نظريّة التوثيق هذه على مجموعة نصوص للشيخ المفيد وابن شهر آشوب والشيخ الطبرسي والفتال النيسابوري. لكنّ هذه النظرية تعرّضت لنقد متعدّد الأوجه من قبل العلماء، ولم يوافق عليها مشهور علماء الإماميّة، فضلاً عن غيرهم.

والذي توصّلت إليه هو عدم صحّة هذا التوثيق العام إطلاقاً؛ لسلسلة من الإشكاليّات، ومن ثمّ فكون شخص من أصحاب أو الرواة عن الإمام جعفر الصادق أو عن غيره من الأئمّة، لا يوجب توثيقه ولا تعديله إطلاقاً، بل يحتاج لدليلٍ إضافي على ذلك. وهذه النظريّة إحدى النظريّات التي سعى الإخباريّون من خلالها لرفع معدّل الثقة بالروايات في المصادر الشيعيّة([29]).

 


19 ـ الموقف من التقويمات الرجاليّة لعلماء ـ كالمفيد ـ لم تثبت خبرويّتهم الرجاليّة

يعدّ الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد (413هـ) من كبار علماء الإماميّة المتقدّمين، إلا أنّ هناك حاجة لوقفة مختصرة في قيمة المعطيات الرجاليّة التي يقدّمها لنا، خاصّة في باب التوثيق والتضعيف، وذلك أنّه قد وثّق عدداً من الرواة، سواء في رسالته العدديّة أم في سائر كتبه، مثل "الإرشاد" عند حديثه عن النصّ على الإمام الكاظم تارةً، وعلى الإمام الرضا أخرى.

وقد اعتمد الرجاليّون ـ ومنهم السيد الخوئي ـ في عشرات المواضع على هذه التوثيقات الثلاثة التي أصدرها المفيد، وبعض متفرّق غيرها بحقّ بعض أولاد الأئمّة وغيرهم.

والذي توصّلتُ إليه أنّ الشيخ المفيد وأمثاله من علماء مختلف المذاهب ممّن لا يُعرفون بخبرويّتهم في مجال نقد الرواة والرجال، بل لوحظ عليهم سلسلة أخطاء أو أمور غريبة في هذا الميدان.. هؤلاء العلماء لا تعتبر توثيقاتهم أو تضعيفاتهم حجّة أو أمارة كاملة، بل غايته كونها أمارة ناقصة وضعيفة على التوثيق والتضعيف، حتى لو كانوا من العلماء الكبار في مجال الكلام والفقه والأصول والفلسفة واللغة وغير ذلك. وهذه قاعدة مهمّة جدّاً في علم الرجال ينبغي تسليط الضوء عليها أكثر. بل لو فرضنا أنّ عالماً كانت تقويماته على خلاف الواقع؛ انطلاقاً من مبرّرات ظرفيّة كالبُعد الجدلي في أعماله، كما احتمله بعضٌ في الشيخ المفيد، فهذا لا يحلّ المشكلة، بل يضاعف من صعوبة الاعتماد على مواقفه التي تكون محاطة بملابسات من هذا النوع تجعلها غير واضحة في إفادة التوصيف الواقعي للرواة.

فالأصحّ هنا هو ما ذهب إليه الشيخ آصف محسني والشيخ الأحمدي الشاهرودي ـ وهو ما يظهر أيضاً من الشيخ محمد هادي آل راضي ـ من التوقّف في أمر توثيقات المفيد وأمثاله من علماء مختلف المذاهب. غاية الأمر أنّني أعتبرها مجرّد قرينة ناقصة على التوثيق. ولعلّ من أوائل من تنبّه لمشاكل توثيقات المفيد هو الشيخ محمد العاملي (1030هـ) حفيد الشهيد الثاني.

وقد كنتُ أثرت هذه الإشكاليّة (إشكاليّة عدم خبرويّة بعض المتقدّمين) شفاهاً على أستاذنا الشيخ باقر الإيرواني عام 1995 أو 1996م، وبدا منه الإقرار بها آنذاك، وطرحتُها في دورتي الرجاليّة الأولى في العام الدراسي (2009 ـ 2010م)، ثمّ الدورة الثانية (2015 ـ 2017م).

والسبب في التحفّظ على تقويمات أمثال المفيد هو مجموعة ملاحظات ذكرناها بالتفصيل في بحوثنا، وعلى سبيل المثال فإنّ المفيد لم يترك لنا كتباً أو أعمالاً تدلّ على خبرويّته في نقد الرواة وتقويمهم على عكس الحال في النجاشي والطوسي وأمثالهما. نعم عنده بعض الأمور حول الصحابة في سياق المساجلات الكلاميّة، وأغلب كتبه في الكلام والفقه والمتفرّقات، ولهذا لما ترجمه الطوسي والنجاشي لم يذكراه بأنّه عالم بالرجال أو عارف بأحوال الرجال والرواة، وإنما غلب على توصيفهم له الجانب الفقهي والكلامي، إلى جانب الرواية والفطنة وقوّة المناظرة.

ومع هذا القدر القليل من مساهماته الرجاليّة التي أدرجها في سياقٍ عرضي، ذكر لنا بعض الرواة ممّن لا يناسب موقفه فيهم واقع حالهم في تراث الرجاليّين، أو اضطربت كلماته فيهم، فقد عدّ المفيدُ محمدَ بن سنان من خاصّة الشيعة وثقاتهم في كتاب "الإرشاد"، لكنّه عند تعرّضه لإحدى الروايات في رسالته العددية، ذكر أنّه حديث شاذ نادر غير معتمد عليه، في طريقه محمد بن سنان، وهو مطعون فيه، لا يختلف العصابة في تهمته وضعفه، وما كان هذا سبيله لم يعتمد عليه في الدين. فكيف يمكن تفسير هذين النصّين من المفيد؟! هل يحتملان العدول؟! بل بعض الأسماء التي أوردها على أنّها من خواص أهل البيت و.. لا يُعرفون بالفقه والعلم، ولم يرد لهم توثيق من أحد، ولا كلام فيهم من أحد في مثل هذه الصفات التي وصفهم بها.

إنّ عدم ثبوت خبرويّة الشيخ المفيد في مجال الرجال وأحوالهم، كعدم ثبوت خبرويّة الشيخ الصدوق في هذا المجال على رأي بعضهم على الأقلّ، حيث يرونه مجرّد متّبعٍ لشيخه ابن الوليد في أمر الرواة، مع أنّ الصدوق كان محدّثاً بارزاً أيضاً، فهذا أشبه شيء مثلاً بالآراء الرجاليّة للسيد المرتضى حيث لم يثبت تخصّصه في هذا المجال.

وقد جمعتُ سلسلة من الشواهد والمعطيات التي تؤكّد عدم ثبوت خبرويّة المفيد في عالم النقد الرجالي، ومن ثمّ فعلى غير مسلك الحسيّة في التوثيقات الرجاليّة ـ على الأقلّ ـ والذي بنى عليه السيد الخوئي، كيف يمكن الاحتجاج بما قاله المفيد وبخاصّة بما تفرّد به في هذا المضمار؟!

من هنا، لا نجد وجهاً في تقويم مواقف العلماء طبقاً للحساب الزمني فقط، فكلّ من كان من القدماء، أي في القرون الهجريّة الخمسة الأولى، صارت أيّ كلمةٍ تصدر منه في الرجال معتمدة أو توجب الوثوق أو الاطمئنان أو التعبّد بكلامه، ليس لشيء إلا لكونه عاش في تلك الأزمنة، وهذا أمرٌ غير صحيح على إطلاقه، فليس عنصر القرب الزمني هو المهم لوحده في درجة الاعتماد والوثوق بكلام شخص، وإنّما عنصر المنهج والخبرويّة والتخصّص والدقّة وسعة الاطّلاع أيضاً في المجال الذي يُصدر فيه موقفاً.

وهذه الإشكاليّة تسري بعينها إلى العديد من الشخصيّات في المذاهب الأخرى، ممّن لا يُعرف باشتغاله على علم الرجال والفهارس والحديث، كعدد من العلماء مثل أبي حنيفة وبعض شيوخ علم الكلام عند المعتزلة والأشاعرة والماتريديّة والشيعة وغيرهم، فالكلام هو الكلام([30]).


 

 

 

الفصل الثالث

آراء ومواقف في بعض الكتب والمصادر الشيعيّة

1 ـ الموقف من التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري

يعدّ التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن بن علي العسكري (260هـ) أحد التفاسير الشيعيّة الإماميّة الأقدم، وقد انقسم موقف العلماء منه إلى عدّة آراء متباينة: فمن قائلٍ باعتباره وحجيّته، إلى قائلٍ بضعفه السندي، إلى قائل بكونه من الموضوعات المكذوبة على الإمام العسكري. وذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى ترجيح أنّ الكتاب ليس للإمام العسكري، بل هو للإمام الزيدي الحسن بن علي الناصر الأطروش (304هـ)، وأنّه حصل خلط لاحقاً نتيجة تشابه الاسمين، إلى غير ذلك من الآراء.

وممّن ذهب إلى كون الكتاب موضوعاً السيدُ الخوئي، حيث قال: «إنّ الناظر في هذا التفسير لا يشكّ في أنّه موضوع، وجلَّ مقام عالمٍ محقّق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام×»([31]).

والذي توصّلتُ إليه هو أنّ هذا الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم لم تثبت نسبته للإمام العسكري، بل في بعض زواياه قرائن تفيد الوضع ـ ولو الوضع الجزئي ـ على تقدير عدم كون الكتاب لشخصٍ آخر من الأوّل. وعليه فلا بدّ من النظر في رواياته بالتفصيل كلّ واحدة على حدة، والنظر في سائر المصادر والكتب فإن تمّ العثور هنا أو هناك على ما يصحّح رواية فيه هنا أو رواية هناك فهو، وإلا فيتعامل معه معاملة الخبر الضعيف([32]).

 


2 ـ الموقف من تفسير العياشي

محمد بن مسعود العيّاشي السلّمي السمرقندي من أبرز علماء الإمامية الكبار في القرن الثالث والرابع الهجريّين، وهو شيخ الشيخ الكشي صاحب كتاب معرفة الرجال، وكانت داره حوزةً علمية كبيرة تخرّج منها عددٌ وافر من طلبة العلوم الدينية، وهو من الرواة المعروفين ممّن يقع اسمه في سند الكثير من الروايات. ورغم توثيق العياشي وجلالته إلا أنّ الشيخ النجاشي ذكر ـ كما ذكر في حقّ تلميذه الكشي ـ أنّه يروي عن الضعفاء كثيراً.

وللعياشي تفسيرٌ متداول منذ زمن بعيد، ويُعدّ من أشهر التفاسير الروائيّة الشيعيّة القديمة، وقد طُبع أكثر من مرّة وترجم إلى غير العربيّة، كما كتب العلامة المفسّر الطباطبائي مقدّمة مختصرةً له. وقد وقع كلامٌ بين العلماء في قيمة المرويّات التفسيريّة التي يقدّمها هذا الكتاب، من جهة خلوّه عن ذكر الأسانيد بشكل تامّ ـ إلا ما لا يزيد عن أصابع اليدين ـ بحيث لا يتبيّن لنا من أين حصل على هذه المرويّات. وقد قيل بأنّ الكتاب الأصل كان حاوياً للإسناد لكنّ بعض النسّاخ حذف هذه الأسانيد للاختصار أو نحوه فضاعت النسخة الأصليّة، ومع الأسف فالكتاب الذي بين أيدينا اليوم غير مكتمل أيضاً؛ بمعنى أنّه يصل لسورة الكهف فقط.

والذي توصّلتُ إليه هو أنّ هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم مرسل، بل في بعض رواياته مواضع في المتن تستحقّ التأمّل والنقد، لكنّه بالإمكان اكتشاف أسانيد بعض رواياته من خلال مقارنات مع المصادر الحديثية والتفسيريّة الأخرى. من هنا، تبرز الضرورة لمراجعة كلّ روايات العياشي في مصادر الحديث الشيعيّة والسنّية، فلعلّه يعثر من بينها على روايات تفسيريّة تطابق ما جاء في التفسير الموجود بين أيدينا، وتكون مسندةً في المصادر الأخرى. وقد نقل الحاكم الحَسْكاني ( بعد 470هـ) في كتابه «شواهد التنزيل» عن تفسير العياشي في مواضع عديدة، تماماً كما نقل الطبرسي وابن شهرآشوب وغيرهما من بعدهما. ويعدّ تفسير الحسكاني من التفاسير التي تمّ فيها انتقال الرواية الشيعيّة التفسيريّة للمصادر التفسيريّة السنيّة، بناءً على القول بعدم تشيّع الحسكاني، خلافاً لما ذكره بعض علماء أهل السنّة، من تشيّع الحسكاني، انطلاقاً من مرويّاته ومدوّناته وغير ذلك.

وعندما نقول بإرسال روايات تفسير العياشي أو غيره أو عدم صحّتها، فهذا لا ينفي إمكان الاستفادة منها في جوانب أخَر أو ضمّها لمرويّات أخر بهدف التعاضد، ومن الجوانب الأخرى المفيدة دراسة علم التفسير وتطوّراته بين الشيعة في القرون الأولى، وتحليل المزاج التفسيري العام لديهم من خلال مرويّاتهم، هذا طبعاً إذا لم يناقش أحد في صحّة النسخة الواصلة إلينا من تفسير العياشي([33]).

 


3 ـ الموقف من روايات كتاب "عوالي اللئالي" للأحسائي ورواته

ذهب بعض علماء الرجال والحديث إلى أنّ كتاب "عوالي (غوالي) اللئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة"، للشيخ شمس الدين أبي جعفر محمّد علي بن إبراهيم بن أبي جُمهور الأحسائي (ق 10هـ) يُحكم بصحّته ووثاقة جميع رواته، انطلاقاً من بعض العبارات التي ذكرها الأحسائي في المقدّمة.

ويعدّ ابن أبي جمهور الأحسائي من علماء الإماميّة البارزين الذين صنّفوا في العلوم العقليّة والنقليّة، وقد مُدح كثيراً في الكتب والمصنّفات، ومن قبل من هم قريبون جداً من عصره، وهو من المتوفّين في أوائل القرن العاشر الهجري، وكتبه مشهودة معروفة تدلّ على مكانته وعلمه وسموّه. نعم يوجد جدل حول شخصيّته من جهة اتصاله بالتصوّف والعرفان وبعض الأمور الفلسفيّة والروحيّة، إلا أنّه لا يؤثر إطلاقاً على مكانته كواحد من العلماء المسلمين، مثله مثل سيد حيدر الآملي والفيض الكاشاني، فهي اجتهادات في فهم الدين والوجود والحياة، حتى لو اختلفنا معها هنا أو هناك. وقد سعى المحدّث النوري والسيد نعمة الله الجزائري والسيد المرعشي النجفي للدفاع عنه وكتابه من مختلف التهم التي وجهت إليه بهذا الصدد.

نعم يمكن القول بأنّه لم يكن في حياته شخصاً مشهوراً للغاية، بحيث يحيط به الطلاب؛ لأنّ عدد طلابه والمجازين منه قليلٌ جداً، وكثير منهم غير معروفين بالعلم والشهرة، ولعلّ لميوله الفكريّة والعرفانيّة والفلسفيّة دوراً كبيراً في عزلته النسبيّة هذه.

وقد جمع الأحسائيُّ في كتابه هذا 5058 حديثاً، وتميّز فيه بأحاديث لم ترد ـ شيعيّاً ـ إلا فيه، وقيل بأنّ بعض النسخ الخطيّة تشير إلى أنّه ألّفه في مدّة وجيزة تقارب الأربعة أشهر فقط. ويتميّز الكتاب بأنّه نقل الكثير من الروايات من المصادر السنيّة المعروفة، وكذلك نقل العديد من الروايات الصوفيّة، وأدّى نقله ـ ثمّ اعتماد الحرّ العاملي والعلامة المجلسي على كتابه ـ لانتشار عدد كبير من الروايات السنيّة والصوفية في الكتب الحديثيّة الشيعيّة المتأخّرة، وراج تداولها أكبر بين الشيعة، وبخاصّة الروايات الصوفية. ويظهر أيضاً أنّه أخذ قسماً من رواياته مما وجده متناثراً في كتب الشيعة المتأخّرين الفقهيّة وغيرها من مرويّات، لم تُعرف في مصادر الحديث الأولى، لا سيما في كتب المحقّق الحلي والشهيد الأوّل والعلامة الحلّي وابن فهد الحلي والمقداد السيوري وفخر المحقّقين الحلّي وغيرهم، الأمر الذي يوحي وكأنّه اعتمد على الإجازات لكي ينسب هذه الروايات التي هي في الأصل مراسيل.

والذي توصّلتُ إليه هو عدم وجود تصحيحٍ عام لروايات هذا الكتاب، وعدم وجود توثيق عام لرواته، بل ينبغي تخريج رواياته على قواعد الصناعة الحديثيّة للنظر في صحّة هذه أو تلك، وذلك أنّ قضيّة الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي في هذا الكتاب غامضة جداً، ومن جهات متعدّدة، الأمر الذي يوجب التشكيك للغاية في مراده من المقدّمة. وعليه فلا نأخذ بهذا التوثيق العام ولا بهذا التصحيح، بل ولا بهذا الإسناد أيضاً؛ لعدم وثوقنا بدقّته، وإن كنّا لا نتّهم الأحسائي في صدقه في نفسه، خلافاً لما فعله بعض المعاصرين من بلوغه تهمة التشكيك في شخصه وأخلاقه ودينه من هذه الناحية! والاحتياطُ في الدين يستدعي التريّث في اتهام الأحسائي.

ولعلّه لمجمل ما تقدّم أو لغيره، ذهب أكثر العلماء إلى عدم الاعتداد بمرويّات عوالي اللئالي التي ينفرد بها، حتى قال فيه المحدّث الإخباري الشيخ يوسف البحراني (1186هـ) ـ وهو بصدد الحديث عن مرفوعة زرارة المشهورة في باب التعارض ـ: «بخلاف الرواية الأخرى، فإنّا لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللئالي، مع ما هي عليه من الرفع والإرسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال، وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور».

وأودّ ـ في الختام ـ أن أتوجّه بالشكر الجزيل لنخبة من العلماء والسادة الأفاضل الذين شرعوا في تحقيق مجموعة مؤلّفات الشيخ الأحسائي وأصدروا منها حتى الآن عدداً غير قليل، كما أصدروا مجموعة من الدراسات النافعة حوله، بالتعاون مع باحثين غربيّين وشرقيّين، فجزاهم الله خير الجزاء في إحياء هذا التراث، وكلّنا أمل أن يُعقد لابن أبي جمهور الأحسائي مؤتمر دولي جادّ يدرسه وتاريخه من زوايا متعدّدة.

 


4 ـ الموقف من روايات كتاب "بشارة المصطفى" للطبري ورواته

كتاب «بشارة المصطفى لشيعة المرتضى» أحد الكتب التي ألّفها أبو جعفر عماد الدين محمد بن أبي القاسم بن محمد بن علي الطبري الآملي الكجي (ق 6هـ)، الثقة الجليل. وهو كتاب ثابت النسبة له. وتوجد في مقدّمة هذا الكتاب جملةٌ استفيد منها صحّة روايات هذا الكتاب ووثاقة رواته، وبهذا يُلحق بالكتب الصحاح إلا ما خرج بالدليل.

والذي توصّلتُ إليه بعد دراسة الشواهد والمعطيات أنّ هذا الكتاب ـ كأيّ كتابٍ حديثيٍّ آخر ـ لم تثبت وثاقة جميع رواته، ولا صحّة جميع رواياته، بل لابدّ من النظر في كلّ روايةٍ فيه بشكلٍ منفرد لمراجعة مصادرها وأسانيدها ومتونها؛ للتثبّت من صحّتها([34]).


5 ـ الموقف من تفسير فرات الكوفي ومرويّاته

مؤلّف تفسير فرات الكوفي هو الشيخ أبو القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، والذي يظهر أنه كان يعيش في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وقيل: توفي عام 352هـ.

والأمر المؤسف أنّنا لا نملك من خلال كتب الحديث والرجال والتراجم والتاريخ أيّ معلومات عنه، بل يعدّ من المهملين جداً في كتب الرجال عند المسلمين، في حدود ما توفّر لنا من كتب ومصادر، إلى حدّ أنّ بعضهم ذكر أنه لو لم نجد اسمه مكرّراً في الأسانيد وفي كتب الشيخ الصدوق لحصل لنا شك أساساً في وجود شخص بهذا الاسم.

أثر عن فرات الكوفي تفسيرٌ كامل للقرآن مطبوع اليوم في مجلّد واحد كبير يبلغ 622 صفحة، وحوى هذا التفسير مجموعة كبيرة من الروايات التفسيرية عن النبي| وأهل بيته^ وكذلك عن الصحابة والتابعين وبعض الشخصيّات الأخرى. ويظهر من كتاب التفسير أنّ أكثر مروياته أخذها من الحسين بن سعيد الأهوازي، وجعفر بن محمد بن مالك الفزاري، وعبيد بن كثير العامري، أو من كتبهم ومما روي عنهم، كما أنّ هذا التفسير يرويه عن فرات الكوفي الصدوقُ الأوّل.

وإذا تجاوزنا إشكاليّة المؤلّف نفسه، نجد أنّ هذا التفسير لم ينقل عنه أحد من العلماء ـ مع أنّ أقدم نسخة له وصلتنا تعود إلى القرن العاشر الهجري ـ إلى زمن العلامة المجلسي (1111هـ)، باستثناء الحاكم الحسكاني، حيث أكثر من النقل عنه في كتابه "شواهد التنزيل". ويحتمل بعضهم أنّ هذا الهجران للكتاب قد يعود لأنّه يحوي روايات تنفي العصمة عن سائر الأئمّة بعد الإمام الحسين من جهة، كما وأنّ فيه روايات تثبت عصمة أصحاب الكساء، لهذا بدا غير معتنى به من طرف الإمامية والسنّة معاً.

ويبلغ عدد روايات الكتاب 775 أو 776 أو 777 رواية تفسيرية، يرويها عن عشرات من المشايخ، وثمّة احتمال أنّ مؤلّف الكتاب هو شخص زيدي أو لا أقلّ كان يعيش مع الزيدية ويميل إليهم ويتعاطف معهم، حيث نجد في الكتاب روايات عن الإمام زيد بن علي تنفي العصمة عن غير الخمسة من أهل البيت، ومع ذلك نجده يروي عن الباقر والصادق بما يؤكّد إمامتهما وعصمتهما، إلى جانب شواهد أخرى تدعم كونه إماميّاً، مما يثير الغموض حوله. ولحلّ هذا المشكل في الانتماء الفكري والمذهبي، يمكن بذل جهود مضاعفة في التراث الزيدي في اليمن وغيرها، علّنا نحصل على معلومات مفيدة لتحديد هويّته وحاله.

والذي توصّلتُ إليه، أنّ تفسير فرات الكوفي لم يثبت تصحيحه، بل أغلب رواياته مرسلة، فهو كسائر مصادر التفسير الأثري عند المسلمين يحتاج لدراسة كلّ رواية على حدة، وإلا ففرات الكوفي نفسه لم تثبت وثاقته فيما وصلنا من معلومات ضئيلة عنه.

كما ويلاحظ من خلال تتبّع ما جاء عن فرات الكوفي في المصادر الأخرى، لا سيما شواهد التنزيل للحسكاني، أنّ أصل الكتاب كان مسنداً، إلا أنه مع الأسف الشديد يظهر من النسخة الواصلة إلينا أنّ أسانيده قد حذفت، إلا بعض الأسانيد من أوّل الكتاب إلى الحديث رقم: 40، حيث يبدأ الإرسال إلى نهاية الحديث رقم 487، فيعود للإسناد إلى الحديث رقم: 564، ثم يعود للإرسال الذي ينتهي عند بداية سورة الكافرون، فيعود مسنداً إلى آخر القرآن الكريم، وبهذا تكون الروايات المسندة منه هي 115 رواية فقط، والباقي مراسيل ضعيفة. والمؤسف أكثر أنّ النسخة التي وصلت إلى العلامة المجلسي ونقل عنها في البحار وصلت إلينا وهي مختصرة اختصاراً مخلاً وفيها الكثير من المشاكل أيضاً([35]).

 


6 ـ الموقف من روايات كتاب "تحف العقول" ورواته

كتاب "تحف العقول"، من تأليف الشيخ أبي محمّد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني (ق 4هـ)، وقد قيل بصحّة هذا الكتاب رغم كون مرويّاته فيه مرسلة، وقد يقال بإمكان توثيق رواته بالمطابقة مع سائر الكتب التي خرّجت رواياته مسندةً.

وقد فُهم من مقدّمة هذا الكتاب أنّ رواياته بأجمعها مأخوذة من الثقات عن الأئمّة، وبهذا يصحّ كتابه على مناهج المتأخّرين، ويوثق رواته أيضاً بالطريقة التي اعتمدت في مثل كتب كامل الزيارات وتفسير القمي وغيرهما. حتى قال السيد محمد صادق الروحاني: «وأمّا تحف العقول، فأقول: لا ينبغي التوقّف في أنّ الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة صاحب كتاب تحف العقول جليل القدر عظيم المنزلة، وكتابه هذا جليل، وأنّه معتمد عليه عند الأصحاب، كما صرّح بذلك كلّه أئمّة الفن». كما أنّ الحرّ العاملي والشيخ المجلسي جعلا هذا الكتاب من مصادر كتابيهما الكبيرين: تفصيل وسائل الشيعة وبحار الأنوار.

والذي توصّلتُ إليه هو عدم وجود تصحيح عام لروايات هذا الكتاب، وعدم وجود توثيق عام لرواته، بل إنّ ابن شعبة الحرّاني نفسه لم يُذكر في كتب المتقدّمين الشيعة ولا السنّة، فلم يترجمه أصحاب الفهارس والتراجم والرجال، ولم يرد في الطرق والأسانيد والإجازات ولا غيرها. وأقدم النصوص المتعرّضة له جاءت عند المتأخّرين، وأقدمها في القرن العاشر الهجريّ، وهذا أمرٌ يدعو للتساؤل والريب الكبيرين. بل حتى أصحاب الفهارس وكتب الرجال اللاحقة كابن شهر آشوب والشيخ منتجب الدين والعلامة الحلي وغيرهم، لم يشيروا له إطلاقاً، ولم نجد نقلاً عنه حتى القرن العاشر الهجري! حيث يبدأ الاسم والكتاب بالظهور مع الشيخ حسين البحراني ومن بعده.

يشار إلى أنّ غير واحدٍ من الباحثين كالسيد حسين مدرّسي طباطبائي يحتمل كون الكتاب من كتب المذهب النصيري، وتُعرف كتب ابن شعبة وتتداول اليوم بين العلويّين في بلاد سوريا وغيرها، وقد حُقّق له كتاب طُبع في السنوات الأخيرة تحت عنوان (جامع أسرار الدين) يشي بعدم كونه إماميّاً غير نصيري، كما ونسبت له رسالة للحسين بن حمدان الخصيبي، وقيل بأنّ له أخاً اسمه محمد بن شعبة. وهناك من يرى أنّه غير نصيري، وإنّما إمامي لكنّه عاش بين العلويّين والنصيريّين في بلاد حران والشام لدعوتهم إلى المذهب الإمامي، وأنّه لهذا تراجعت معروفيّته بين الإماميّة وأمثالهم.

كما أنّ نسخة الكتاب التي بين أيدينا اليوم ليس في أيّ موضع منها أنّ هذا الكتاب هو لابن شعبة الحراني، لا في المقدّمة ولا في الخاتمة ولا غيرهما، ونسخه المخطوطة حالياً ترجع إلى القرن العاشر الهجري، كنسخة مركز إحياء التراث برقم 2/3398، والتي قد تكون أقدم أو من أقدم نسخه المخطوطة، وتعود لعام 983هـ.

وعليه، فروايات هذا الكتاب من المراسيل غير الحجّة ما لم تعتضد بعاضد، وفاقاً للعديد من العلماء المتأخّرين الذين يرون الرأيَ نفسه([36]).

 


7 ـ الموقف من كتاب "مصباح الشريعة" ورواياته

كتاب «مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة» من الكتب المنسوبة للإمام جعفر الصادق، وقد طبع بشكل منفصل، كما وضعه المحدّث النوري (1320هـ) في قائمة مصادر كتابه «مستدرك الوسائل». ويبدو أنّ من أقدم من تحدّث عن هذا الكتاب كان ابن طاووس (664هـ) الذي وصفه بالكتاب اللطيف الشريف، وكذلك الشهيد الثاني (965هـ) الذي أَكْثَرَ من النقل عنه في بعض كتبه الأخلاقيّة، كما جعله أحد مصادره ابنُ أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي..

لكنّ بعض العلماء تحفّظوا على هذا الكتاب، فلم يدرجه الشيخ الحرّ العاملي في مصادر كتابه "تفصيل وسائل الشيعة"، كما ارتاب فيه العلامة المجلسي (1111هـ)، واعتبر أنّ أسلوبه لا يشبه سائر كلمات أهل البيت، واعتبر الشيخ مسلم الداوري المعاصر أنّ نسبته إلى الإمام غير محرزة، بل قال الآغا بزرك الطهراني (1389هـ): «ورأيت نسخة كتب في حاشيتها نقلاً عن خطّ الشيخ سليمان الماحوزي، ما سمعه الشيخ سليمان عن العلامة المجلسي، أنه كان يقول المجلسي أن مؤلّف (مصباح الشريعة) هو شقيق البلخي». وقد ألّف السيد حسن الصدر (1351هـ) رسالةً في أنّ مؤلّف هذا الكتاب هو سليمان الصهرشتي تلميذ السيد المرتضى اختصره من كتاب شقيق البلخي. كما اعتبر السيد الخميني أنّه لا يُعلم كون هذا الكتاب رواية أصلاً، وأنّه لا يبعد أن يكون من أعمال بعض أهل العلم والحال والتصوّف الروحي.

والذي توصّلتُ إليه هو عدم ثبوت نسبة هذا الكتاب للإمام جعفر الصادق، فلا توجد معلومات حول هذا الأمر، كما لا يوجد أيّ سند أو طريق، ولم تتمّ الإشارة لهذا الأمر في أيّ من الكتب القديمة، كما أنّ متن ونمط تعابيره لا ينسجم في أحيان كثيرة مع نصوص الإمام الصادق في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجري. وعليه فلا يمكن التعامل معه على أنّه روايات معتبرة ما لم يعتضد نصٌّ منه هنا أو هناك بعاضدٍ([37]).

 


8 ـ الموقف من روايات كتاب "المقنع" للشيخ الصدوق ورواته

ممّا يُذكر في التوثيقات العامّة رواة كتاب "المقنع" للشيخ الصدوق (381هـ)، ويُستند في ذلك إلى نصّ كلامه في مقدّمة هذا الكتاب، حيث فهم بعضهم منه أنّ كتاب المقنع هو كتاب فتوى بنصّ الروايات، لهذا أدرجوه في "الفقه المنقول أو المأثور"، حيث كانت الفتوى عبارة عن نصوص الروايات بعينها، ومن ثمّ فيكون الشيخ الصدوق قد ذكر نصوص الروايات هنا مع حذف الأسانيد، وإن تدخّل أحياناً في بعض الشرح والتوضيح. وقد أخذ رواياته من كتب الأصول الحديثيّة، وحيث إنّه شهد بوثاقة مأخذه ـ حسب مقدّمته ـ وهم العلماء المشايخ الفقهاء الثقات، كشف ذلك ـ من جهة ـ عن صحّة هذه الروايات على ما صرّح به المحدّث النوري أيضاً (القاعدة الحديثيّة)، وكذلك كشف ـ من جهة أخرى ـ أنّ الرواة ثقات، لكن حيث لم يذكر الرواة في الكتاب فنرجع إلى سائر كتب الصدوق، فما وجدناه مطابقاً في المتن للنصّ الموجود في المقنع، نظرنا في إسناده، وقلنا بأنّه يحتوي الرجال الثقات، وبهذا نثبت وثاقة الكثير من الرواة عبر هذه السبيل (القاعدة الرجاليّة).

وقد اختار بعض المعاصرين هذا الرأي أيضاً على الصعيدين: الحديثي والرجالي معاً.

والذي توصّلتُ إليه أنّه لم يثبت توثيق عام لرجال روايات كتاب "المقنع"، بل تصحيح الكتاب برمّته مشكل أيضاً، نعم تحظى رواياته بقرينة وثوقيّة نوعيّة تحتاج لضمّ قرائن أخرى، فلا القاعدة الرجاليّة ثابتة هنا ولا الحديثيّة، وفاقاً لما لعلّه المشهور، والعلم عند الله([38]).

 


9 ـ الموقف من روايات كتاب "فلاح السائل" للسيّد ابن طاوس ورواته

حاول بعضٌ وضعَ كتاب "فلاح السائل ونجاح المسائل" للسيّد عليّ بن موسى بن طاوس (664هـ)، ضمن الكتب التي يُحكم بصحّة رواياتها ووثاقة رواتها؛ اعتماداً على نصّ المؤلّف في المقدّمة.

لكنّ الذي توصّلتُ إليه هو عدم ثبوت قاعدة حديثيّة بصحّة روايات هذا الكتاب، ولا قاعدة رجاليّة بوثاقة الرواة، بل هو كأيّ كتاب آخر يجب البحث في رواياته بشكل منفرد؛ للنظر في صحّة هذه الرواية أو تلك على معايير التصحيح المعتمدة عند الباحث. بل إنّ هذه المقدّمة نفسها التي وضعها في كتابه، تكشف لنا بشكل جليّ جدّاً كم كان السيد ابن طاوس متسامحاً للغاية في أمر الروايات وتصحيحها ونقلها والعمل عليها، الأمر الذي يبيّن أنّ منهجه في التعامل مع الروايات بلغ في التسامح مبلغاً كبيراً.

وقناعتي الشخصيّة أنّ السيد ابن طاوس لعب دوراً كبيراً في ضخّ نمط مختلف في التعامل مع التراث بين الإماميّة في زمانه وبعد ذلك، بحيث تستحق شخصيّته دراسات جادّة ومطوّلة لرصد دوره وتأثيراته على بعض من مناهج التفكير الدينيّة لاحقاً وعلى التراث الحديثي أيضاً، وبالتحديد في مجال الأمور الأخلاقيّة ومجال الآداب والعادات الدينيّة والسنن والسلوكيّات، لا سيما في ضوء التأثير المعنوي لشخصيّته الزهديّة والتقويّة، بعيداً عن لغة المجاملات والمديح من جهة ولغة التشويه والتسقيط من جهة أخرى، وبخاصّة أنّ عصره يعتبر من العصور الحسّاسة جداً في التاريخ الإسلامي العام، وتاريخ الفكر الإسلامي أيضاً([39]).

 


10 ـ الموقف من كتاب "نهج البلاغة" ورواياته

يعتبر كتاب "نهج البلاغة"، الذي جمعه من روايات الإمامِ عليّ بن أبي طالب، الشريفُ الرضيّ (406هـ)، من الكتب التي يصنّفها بعضٌ على أنّها تالية لكتاب الله سبحانه، وقد كُتبت عشرات الشروح والتعليقات حول هذا الكتاب بين الشيعة والسنّة، ويحتوي الكتاب على حكم وخطب وكلمات رائعة في اللغة والمضمون.

وفي الوقت الذي حاول بعضُ النقّاد التشكيكَ في أصالة روايات هذا الكتاب، بحيث اعتبره من مختلَقات الشريف الرضي أو غير ذلك، رأى آخرون أنّ الكتاب برمّته وبجميع رواياته معتبرٌ يمكن الاعتماد عليه، وأنّ علائم النورانيّة بادية في سطوره.

والذي توصّلتُ إليه أنّ هذا الكتاب ـ الذي وردت رواياته فيه مرسلةً ـ حاله كحال أيّ كتاب حديثيّ آخر مبتلى بالإرسال برمّته، تحتاج كلّ رواية فيه لدراسة مصادرها وأسانيدها ومتونها في الكتب والموروث الإسلامي للتأكّد من نسبتها للإمام علي بن أبي طالب، فكون الرواية في نهج البلاغة لا يعطيها قوّة إضافيّة توجب التثبّت منها. والشريفُ الرضي نفسه ليس من علماء الطبقة الأولى في مجال الحديث والتاريخ، وأعماله تدلّ على طبيعة اهتماماته واختصاصه العلمي المرموق في مجال اللغة وما يُحيط به.

لكنّ دعوى أنّ الكتاب من المختلَقات واضحةُ الضعف؛ فقد حقّق الباحثون بما لعلّه لا مزيد عليه روايات هذا الكتاب واكتشفوا الكثير منها في مصادر سابقة على حياة الشريف الرضي، بما يدحض دعوى الاختلاق.

وعليه، فلا دعوى ضعف روايات هذا الكتاب ضعفاً نهائيّاً صحيحة، ولا دعوى صحّتها صحّةً نهائيّة تامّة أيضاً. وقد ذهب الكثير من العلماء لمثل هذا الرأي، مع تغليب جانب الوثوق الإجمالي تارة وبدونه أخرى، وليس آخرهم السيد روح الله الخميني، والسيّد محمد رضا السيستاني، وغيرهما.

هذا، وقد أشرتُ لهذا الموضوع في مواضع متعدّدة من كتبي، فراجع.

 


11 ـ الموقف من روايات كتاب "الاختصاص" ونسبته للشيخ المفيد

ثمّة كتاب مطبوع اليوم ومعروف ومتداول، يسمّى بكتاب الاختصاص، وهو منسوب إلى الشيخ المفيد (413هـ)، وهو كتاب يتضمّن الكثير من الروايات في موضوعات متنوّعة، ويتضمّن معلومات تاريخيّة ترتبط بالتاريخ العام وبالسيرة، ومنها روايات ارتداد الناس بعد النبيّ إلا عدد قليل، وروايات الهجوم على بيت فاطمة الزهراء÷، وغير ذلك من موضوعات متفرّقة ومهمّة.

وقد انقسم العلماء والباحثون في أمر مؤلِّف هذا الكتاب إلى آراء:

الرأي الأوّل: وهم الذين يرون أنّ المؤلّف هو الشيخ المفيد، ومن أبرز هؤلاء العلامة المجلسي، الذي صرّح في مقدّمات البحار بالقول: «وأمّا كتاب الاختصاص، فهو كتابٌ لطيف مشتمل على أحوال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله، والأئمّة عليهم السلام، وفيه أخبار غريبة، ونقلته من نسخة عتيقة، وكان مكتوباً على عنوانه: كتابٌ مستخرج من كتاب الاختصاص تصنيف أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران رحمه الله. لكن كان بعد الخطبة هكذا: قال محمد بن محمد بن النعمان: حدّثني أبو غالب أحمد بن محمد الزراري وجعفر بن محمد بن قولويه إلى آخر السند، وكذا إلى آخر الكتاب يبتدئ من مشائخ الشيخ المفيد، فالظاهر أنّه من مؤلّفات المفيد رحمه الله». ومن هؤلاء أيضاً الحرّ العاملي كما يظهر من بعض كتبه، والسيد هاشم البحراني، والشيخ يوسف البحراني، والسيد محسن الحكيم. وقد دافع السيّد جعفر مرتضى العاملي وآخرون عن هذا الرأي.

لكنّ بعض العلماء خالفوا هذا الرأي بوضوح ومنهم: السيّد الخوئي والسيد موسى الزنجاني وغيرهما. وممّن رفض هذه النسبة أيضاً الدكتور محمّد باقر البهبودي في تعليقاته على البحار.

الرأي الثاني: إنّ الكتاب من تأليف أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران، المعاصر للشيخ الصدوق. وقد ذهب إلى هذا الرأي غيرُ واحد، مثل ضامن بن شدقم الحسيني المدني (1082هـ). لكنّ الآغا بزرك الطهراني والسيد محسن الأمين العاملي ذهبا إلى أنّ هذا الكتاب الموجود بين أيدينا هو عين كتاب العيون والمحاسن للمفيد، وخطبة الكتابين واحدة، وأنّ الأصل هو لابن عمران، لكنّ الموجود هو المختصر للمفيد.

الرأي الثالث: إنّ الكتاب لجعفر بن الحسين المؤمن، ولم يتمّ التحقّق من قائل هذا الرأي، لكن ذكره السيد إعجاز حسين الكنتوري.

الرأي الرابع: ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين، وهو الدكتور حسن الأنصاري، من أنّ الكتاب يرجّح أن يكون دفتراً لأحد المشتغلين بالحديث، جمع فيه متفرّقات حديثيّة من كتب كانت عنده ليستعين بها لاحقاً في تصنيفاته، وهذا ما يبرّر كلّ هذا الإرباك الموجود في الكتاب. ثم حاول هذا الباحث تقطيع الكتاب ليجعله متفرّقات بهذا النحو.

والذي توصّلتُ إليه ـ بعد دراسة الشواهد التي قدّمها كلّ فريق ـ أنّه لا يوجد دليل مقنع يُثبت انتساب هذا الكتاب للشيخ المفيد، ولا لشيخٍ آخر ثابت الوثاقة والعلم. بل لو ثبت أنّه للمفيد فإحراز صحّة النسخة التي بين أيدينا وتطابقها مع نسخة الكتاب الأصل ليس بالأمر السهل أيضاً، ومن ثمّ فلا يمكن الاستناد لمرويّات هذا الكتاب، ما لم تعتضد بعاضد([40]).

 


12 ـ الموقف من كتاب الضعفاء لابن الغضائري

يعدّ "كتاب الضعفاء" للشيخ أبي الحسين، أحمد بن الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري البغدادي، المشهور بـ(ابن الغضائري) (ق 5هـ)، من المصادر الرجاليّة الأولى عند الشيعة الإماميّة، وقد كان ابن الغضائري معاصراً للشيخين: النجاشي والطوسي؛ بل كان زميلاً للنجاشي عند أبيه الحسين بن عبيد الله.

وقد ذكرت مجموعة من المصنّفات لابن الغضائري، وهي: 1 ـ فهرست المصنّفات. 2 ـ فهرست الأصول. 3 ـ كتاب الممدوحين. 4 ـ كتاب التاريخ. 5 ـ الرسالة. 6 ـ كتاب الضعفاء، وهو الذي نتحدّث عنه الآن. والراجح أنّ ما ثبتت نسبته لابن الغضائري هو فهرستَاه مع كتاب الضعفاء، وأمّا الباقي فهو محتملٌ، ويختلف احتماله قوّة وضعفاً.

يختصّ هذا الكتاب بذكر مجموعةٍ من الضعفاء، وقد بلغ عددهم في التصحيح الأخير للكتاب 159 رجلاً، واستدرك محقّق الكتاب السيد محمّد رضا الجلالي ما نُقل عن ابن الغضائري من كتب أخرى، مما ليس موجوداً في هذا الكتاب، فزاد 66 اسماً، لكنّ بينها ـ كأسماء لا معلومات حول الأسماء ـ وبين ما في الكتاب تداخلاً، ولعلّ الجديد في الأسماء نفسها يقارب 25 اسماً.

وقد وقعت نقاشات بين العلماء هنا:

1 ـ وقع خلاف بين العلماء في: من هو مؤلّف كتاب الضعفاء؟ فقيل بأنّه للأب، أعني الحسين بن عبيد الله الغضائري، وقيل بأنّه الابن، وهو أحمد بن الحسين، والرأي الثاني هو الأشهر.

2 ـ اختلفوا في وثاقة المؤلّف على تقدير كونه الابن، بعد الاتفاق على وثاقة الأب.

3 ـ اختلف الموقف من هذا الكتاب من حيث صحّة نسبة النسخة التي بين أيدينا اليوم هل هي مطابقة لنسخة كتاب الضعفاء لابن الغضائري أو لا؟ فقد ناقش قوم في ذلك مثل السيد الخوئي، فيما انتصر له آخرون مثل السيد السيستاني.

4 ـ وقع الخلاف بينهم من حيث قيمة محتويات الكتاب، حيث رفضه بعضهم نتيجة كثرة التضعيفات فيه، وقد اتُّهم بالتسرّع في الجرح وكثرة النقد لكبار الرواة، وأنّه كان يؤمن بفهم خاصّ لقضيّة الغلوّ ونقد الغلاة وغير ذلك، حتى أنّ بعض العلماء احتمل أنّ الكتاب من وضع النواصب على ابن الغضائري لتشويه التشيّع.

والذي توصّلتُ إليه:

أ ـ إنّ الراجح هو أنّ الكتاب للابن لا للأب.

ب ـ إنّ الراجح من خلال مجموعة شواهد أنّ الابن ـ كالأب ـ عالمٌ ثقة.

ج ـ إنّ الظنّ يغلب على أنّ نسخة الكتاب التي بين أيدينا اليوم مطابقة لكتاب ابن الغضائري، لكنّ النفس لا تقرّ ولا تحصل على طمأنينة بذلك، لنقص الشواهد، فنتعامل معه معاملة مظنون النسبة؛ لتتكوّن من ذلك درجة احتماليّة في إخباراته، طبقاً لمسلك الوثوق في علم الرجال.

د ـ إنّ التهم التي وجّهت للكتاب أو لصاحبه من حيث كثرة تضعيفاته، كلّها قابلة للنقاش وبالأرقام، وقد فصّلنا الحديث عن ذلك في محلّه([41]).

 


13 ـ عدم ثبوت رسالة الراوندي في اختلاف الأخبار

تُنسب لسعيد بن هبة الله الراوندي (المتوفّى ظاهراً في القرن السادس الهجري) رسالةٌ، ذكرت لها تسميات عديدة في كتب التراث الإسلامي، ومنها (رسالة في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها) وقد يعبّر عنها برسالة الأخبار، أو برسالة اختلاف الأخبار، وقد وردت في الكتب التراثية بعض الروايات المنقولة عن هذه الرسالة. وتتضمّن هذه الرسالة مجموعة من الروايات من بينها رواياتٌ في عرض الحديث على القرآن الكريم.

وقد اهتمّ بتحقيق حال هذه الرسالة غير واحدٍ من العلماء المتأخّرين، منهم السيد محمّد باقر الصدر والشيخ الوحيد الخراساني، حيث عقد السيّد الصدر حولها بحثاً مطوّلاً تعرّض فيه لمدى إمكانيّة التثبّت من صحّة نسبتها للراوندي، وقد توصّل الصدر والخراساني إلى صحّتها السنديّة، رغم أنّ الراوندي الذي يقع في طبقة مشايخ ابن شهر آشوب المازندراني ومنتجب الدين الرازي، قد تُرجم من قبلهما في كتابيهما، دون أن يذكرا له هذه الرسالة.

والذي توصّلتُ إليه ، هو صحّة ما ذهب إليه غير واحدٍ من العلماء، من أنّ رسالة الراوندي لم تثبت عنه ثبوتاً شائعاً أو موثوقاً، ولا يُعلم وجود طريق إليها أساساً، بل لا يُعلم وصولها بعينها إلى أصحاب المجاميع الحديثية المتأخّرة([42]).

 


14 ـ عدم ثبوت تصحيح أو توثيق عام لروايات أو رواة كتاب المزار للمشهدي

كُتب الأدعية والزيارات عديدة، ومن بينها كتاب المزار، لمؤلّفه الشيخ محمّد بن جعفر بن عليّ بن جعفر المشهدي، وهذا الكتاب فيه العديد من الروايات المسندة التي ذكر رواتها. وقد ورد في مقدّمة هذا الكتاب فقرة استفيد منها توثيق جميع الرواة الواقعين في أسانيد هذا الكتاب، وقد أحصاهم بعض المعاصرين وبلغ بهم إلى 380 شخصاً، فإذا ثبت هذا التوثيق فسوف تثبت وثاقتهم جميعاً.

غير أنّ السيد الخوئي ناقش هنا بأنّ صاحب كتاب المزار نفسه مجهول لنا على مستوى هويّته تارةً، وعلى مستوى حاله من الوثاقة والضعف تارةً أخرى، ومعه لا معنى للاعتماد على شهادته بعد مجهوليّته هذه. وقد تنبّه المحدّث النوري من قبلُ إلى جانب مجهوليّة شخص المشهدي، فعقد بحثاً في هذا المجال، وتبعه فيه بعض المعاصرين. وذكروا من يحتمل أن يقصد بهذا الرجل المعروف بابن المشهدي. والظاهر أنّه يرجع للنصف الثاني من القرن السادس الهجري، وصولاً لبدايات القرن السابع، وفقاً لمتابعة روايات الكتاب وطبقاته.

كما ظهرت مشكلة ثانية هنا وهو تصحيح نسبة نسخة الكتاب الذي بين أيدينا، فكيف يمكننا التثبّت من صحّة هذه النسخة؟

والذي توصّلتُ إليه أنّه لم يثبت توثيقٌ عام لرواة هذا الكتاب، ولا تصحيحٌ عام لروايات هذا الكتاب، إمّا لعدم ثبوت وثاقة المؤلّف، أو لعدم ثبوت نسخة كتابه، أو لكونه من المتأخّرين الذين لا نعرف خبرويّتهم أصلاً في مجال الحديث والرجال، أو غير ذلك، من هنا نلاحظ أنّ أغلب روايات هذا الكتاب، ضعيف الإسناد، ويحتاج التثبّت منها إلى محاولة اكتشاف نفس الرواية في مصادر أخرى أقوى وأوثق([43]).

 


15 ـ الموقف من روايات ورواة مصباح الكفعمي ودعائم المغربي واحتجاج الطبرسي

يميل بعضٌ إلى توثيق رواة وتصحيح روايات كتاب "المصباح" للشيخ تقي الدين إبراهيم بن علي بن الحسن بن محمّد بن صالح العاملي الكفعمي المتوفّى في القرن العاشر الهجري، اعتماداً على مقدّمة الكتاب، وهو من كتب الأدعية والأذكار والزيارات والمندوبات وأمثالها.

كما يذهب بعضٌ إلى الأمر نفسه في حقّ كتاب "الاحتجاج"، للشيخ أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي.

ويرى جماعةٌ أيضاً الأمر عينه في كتاب "دعائم الإسلام"، للقاضي أبي حنيفة النعمان بن أبي عبد الله محمّد بن منصور التميمي المغربي، الذي عاش في القرنين الثالث والرابع الهجرييّن، وعُرف عنه أنّه كان قاضياً في الدولة الفاطميّة، ووقع نقاشٌ في كونه إماميّاً أو إسماعيليّاً.

وهذه الكتب الثلاثة أغلب رواياتها وردت فيها مرسلةً تفتقر إلى بيان الأسانيد والمصادر.

وبناءً على هذه الآراء الثلاثة فإنّ جميع روايات هذه الكتب الثلاثة صحيحة ـ رغم الإرسال ـ إلا ما خرج بالدليل، وجميع الرواة بعد العثور على الطرق موثقون إلا ما خرج بالدليل.

والذي توصّلتُ إليه ـ وفاقاً لجمهور العلماء في هذه القضيّة ـ هو عدم ثبوت وثاقة رواة هذه الكتب الثلاثة ولا تصحيح رواياتها، بل هي كأيّ كتابٍ آخر مليء بالروايات المرسلة، تحتاج إلى رصد المتون والمصادر والأسانيد والمخارج والشواهد والمتابعات؛ للنظر في كلّ رواية على حدة.

بل اللافت أنّ بعض مؤلّفي هذه الكتب لا تُعلم خبرويّتهم في مجال النقد الحديثي وعلم المصادر والرجال والنُّسَخ حتى تصنّف كتبهم من كتب الدرجة الأولى بهذه الطريقة. بل بعض عبارات الطبرسي في مقدّمة الاحتجاج واضحة في أنّ معياره النظر في المتن ومعقوليّته، لا في المصادر ولا في الأسانيد ولا غير ذلك، فهو لا يقصد التصحيح السندي والمصدري كما يفعل الخبير في مجال الحديث والتراث والتاريخ، بل التصحيح القائم على الموافقة المتنيّة عنده. بل قد ألمح الشيخ حسين علي المنتظري إلى مشكلة عامّة في كتاب الدعائم ـ إضافة لعدم ذكر صاحبه في كتب الرجال القديمة ـ أنّه لم نجد أحداً من علماء الإماميّة المتقدّمين ـ خاصّة الشيخ الطوسي ـ قد اعتمد على هذا الكتاب أو خرّج منه رواية أو ذكره في هذا السياق، ولعلّ هذا يوجب شيئاً من هجرانهم له وفقاً لرأي المنتظري([44]).

_____________________________

([1]) وقد بحثتُ هذا الموضوع بالتفصيل في كتابي المتواضع (فقه المصلحة مدخلاً لنظرية المقاصد واجتهاد المبادئ والغايات: 27 ـ 158، الطبعة الأولى، 2019م)، فراجع.

([2]) ولمزيد مراجعة، يمكن الاطّلاع على البحث المفصّل حول هذه القاعدة والمناقشات، في كتابي: قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني: 119 ـ 170، الطبعة الأولى، 2020م.

([3]) لمزيد توسّع، انظر بحث قاعدة التسامح في كتابي المتواضع: الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 2: 355 ـ 498، الطبعة الأولى، 2017م.

([4]) ولمزيد توسّع، انظر بحث «سنّة الصحابي» في كتابي المتواضع: حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 349 ـ 368، الطبعة الأولى، 2011م.

([5]) وقد بحثتُ هذا الموضوع كلّه في كتابي: حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 637 ـ 659، فراجع.

([6]) هذا، وقد تعرّضتُ لجوانب من هذا البحث وخلفيّاته وما له صلة به في مناسبات عدّة، ويمكن ـ بالخصوص ـ مراجعة كتبي الآتية: نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 713 ـ 747، الطبعة الأولى، 2006م؛ وحجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 661 ـ 740؛ والاجتهاد المقاصدي والمناطي 2: 163 ـ 188، الطبعة الأولى، 2020م، وغيرها.

([7]) وقد بحثتُ موضوع السنّة المستقلّة أو الولاية التشريعيّة للنبيّ وأهل بيته بشيء من التفصيل، وذلك في كتابي:حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 503 ـ 569، فراجع.

([8]) وقد بحثتُ حول قاعدة عرض الحديث على الكتاب، وكذلك عن أنواع تقدّم القرآن على السنّة ونوّعتُها إلى خمسة أنواع، ويمكن مراجعة ما يرتبط بذلك كلّه في بعض كتبي، مثل: حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي: 571 ـ 597؛ وحجيّة الحديث:213 ـ 279، الطبعة الأولى، 2016م؛ ونظريّة السنّة في الفكر الإمامي: 490 ـ 492، الطبعة الأولى، 2006م. كما تحدّثتُ بالتفصيل عن شبكة العلاقة بين الكتاب والسنّة، وذلك في دروسي في البحث الخارج التي دارت حول حجيّة القرآن، وألقيتُها على مدار ثلاث سنوات، وذلك قبل أكثر من عشر سنوات، لكنّها لم تُنشر بعدُ، عسى الله يوفّق لمراجعتها ونشرها.

([9]) وقد بحثتُ فيما يرتبط بموضوع (أصالة الموضوعيّة وأصالة نفي التاريخيّة) في مواضع عديدة من كتبي، وناقشتُ مجمل الأدلّة التي يعتمدها المشهور لتكريس منهجه في التعامل مع النصوص، وفقاً لأصالتَي: الموضوعيّة ونفي التاريخيّة، كما ناقشتُ أدلّة القائلين بأصالة التاريخيّة، وأشير هنا إلى بعض المواضع من كتبي، وفي كلّ موضع بحثت زاويةً من زوايا هذا الموضوع، وهي: نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 713 ـ 747؛ وحجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 661 ـ 740؛ والاجتهاد المقاصدي والمناطي 2: 147 ـ 188.

([10]) وقد توسّعتُ في دراسة هذا الموضوع في كتابي: الاجتهاد المقاصدي والمناطي، المسارات والأصول والعوائق والتأثيرات 2: 201 ـ 419، فراجع.

([11]) وقد بحثتُ حول التعليل النصّي بالتفصيل في كتابي المتواضع: الاجتهاد المقاصدي والمناطي 1: 417 ـ 598.

([12]) وقد بحثتُ هذه القاعدة وأدلّتها والمناقشات حولها في كتابي: فقه المصلحة مدخلاً لنظريّة المقاصد واجتهاد المبادئ والغايات: 489 ـ 509، الطبعة الأولى، 2019م، فراجع.

([13]) وقد بحثتُ بشيءٍ من التفصيل نظريّةَ المصلحة المرسلة، وذلك في كتابي: فقه المصلحة: 165 ـ 240، فراجع.

([14]) الكليني، الكافي 5: 449.

([15]) ولمزيد توسّع في دراسة هذا الموضوع، ورصد أدلّة الاتجاهات المختلفة عند السنّة والشيعة هنا، يمكن مراجعة كُتبي الآتية: نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 238 ـ 274؛ والمدخل إلى موسوعة الحديث النبوي: 311 ـ 383، الطبعة الأولى، 2013م. وراجع أيضاً: حجيّة الحديث: 129 ـ 152.

([16]) ولمزيد توسّع، راجع كتابي: الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 317 ـ 334.

([17]) ولمزيد اطّلاع حول هذا الموضوع، راجع مواضع عدّة من كتبي، أهمّها: الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 109 ـ 210؛ والمدخل إلى موسوعة الحديث النبوي: 385 ـ 648؛ ومسألة المنهج في الفكر الديني، وقفات وملاحظات: 17 ـ 90، 261 ـ 290، الطبعة الأولى، 2006م.

([18]) وقد تعرّضتُ لمراسيل الصحابة والتابعين في كتابي: الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 404 ـ 406، فراجع.

([19]) وقد بحثتُ هذا الموضوع وأدلّته ومناقشاته، في كتابي: الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 381 ـ 396، فراجع.

([20]) وقد بحثتُ بالتفصيل حول توثيق مشايخ النجاشي، وذلك في كتابي: منطق النقد السندي 1: 334 ـ 348، الطبعة الأولى، 2017م.

([21]) وقد بحثتُ حول توثيق مشايخ الطوسي، وذلك في كتابي: منطق النقد السندي 1: 348 ـ 350.

([22]) وقد بحثتُ حول هذه التوثيقات العامّة في كتابي: منطق النقد السندي 1: 602 ـ 612، فراجع.

([23]) ولمزيد اطّلاع، راجع كتابي: منطق النقد السندي 1: 644 ـ 647.

([24]) وللاطّلاع على البحث المفصّل نسبيّاً في موضوع شيخوخة الإجازة، راجع كتابي: منطق النقد السندي 2: 273 ـ 299.

([25]) وقد بحثتُ هذا الموضوع في كتابي: منطق النقد السندي 1: 433 ـ 473، فراجع.

([26]) ولمزيد توسّع، راجع: منطق النقد السندي 1: 480 ـ 513.

([27]) ولمزيد توسّع راجع: منطق النقد السندي 1: 513 ـ 564.

([28]) وقد توسّعتُ في بحث الجانبين الرجالي والحديثي من هذا الموضوع في: منطق النقد السندي 1: 372 ـ 433؛ والحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 355 ـ 381، فراجع.

([29]) وقد بحثتُ حول هذه المسألة في: منطق النقد السندي 1: 318 ـ 333، فراجع.

([30]) ولمزيد تفصيل حول هذا الموضوع وتقويمات الشيخ المفيد الرجاليّة، راجع: منطق النقد السندي 1: 249 ـ 254، 329 ـ 330، و 2: 249 ـ 255.

([31]) معجم رجال الحديث 13: 157.

([32]) وقد تعرّضنا في أكثر من موقع لحال هذا التفسير الذي يدافع عن تصحيحه برمّته اليوم بعض العلماء المعاصرين، ومن هذه المواضع كتابي: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 471 ـ 473، الطبعة الأولى، 2011م.

([33]) هذا، وقد تعرّضتُ لهذا التفسير في مناسبات متعدّدة، ومنها كتابي: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 464 ـ 467، فراجع.

([34]) وقد بحثتُ حول هذا الكتاب في: منطق النقد السندي 1: 569 ـ 574، فراجع.

([35]) وقد تعرّضتُ لهذا التفسير باختصار في: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 468 ـ 471، فراجع.

([36]) وقد بحثتُ حول هذا الكتاب ومؤلِّفه في: منطق النقد السندي 1: 624 ـ 632، فراجع.

([37]) وقد تحدّثتُ باختصار عن هذا الكتاب في أكثر من موضع، فراجع: إضاءات 1: 283 ـ 285، الطبعة الأولى، 2013م؛ وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 92 ـ 94، الطبعة الأولى، 2014م.

([38]) وقد بحثت حول هذا الموضوع في: منطق النقد السندي 1: 612 ـ 616، فراجع.

([39]) وقد بحثت حول هذا الموضوع في: منطق النقد السندي 1: 616 ـ 620، فراجع.

([40]) ولمزيد توسّع، راجع: منطق النقد السندي 2: 184 ـ 192.

([41]) ولمزيد توسّع، راجع: منطق النقد السندي 3: 380 ـ 427؛ ودروس تمهيديّة في تاريخ علم الرجال عند الإماميّة: 132 ـ 142، الطبعة الأولى، 2013م.

([42]) وقد بحثتُ حول هذه الرسالة في: حجيّة الحديث: 253 ـ 261، فراجع.

([43]) ولمزيد توسّع، راجع: منطق النقد السندي 1: 575 ـ 585.

([44]) وقد بحثتُ حول هذه الكتب الثلاثة في: منطق النقد السندي 1: 620 ـ 623، فراجع.