hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجماعة ـ القسم الرابع)

تاريخ الاعداد: 5/6/2025 تاريخ النشر: 5/8/2025
530
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(1 ـ 5 ـ 2025م)

 

الفصل الثالث

[شروط إمام الجماعة]

يُشترط في إمام الجماعة([1])

ـ مضافاً إلى الإيمان([2])،

والعقل([3])، وطهارة المولد([4]) ـ أمور:...

________________________

([1]) هذا هو بحث شروط ما يسمّى بالإمامة الصغرى التي هي إمامة الجماعة، في مقابل الإمامة الكبرى التي هي الولاية العامّة على المسلمين.

ولا بأس هنا بالإشارة لمسألتين لم يتعرّض لهما السيد الماتن، وهما من شؤون بحث إمام الجماعة وشروطه، وهما:

 

عدم ثبوت استحباب تقديم الهاشمي على غيره لإمامة الصلاة

ذكر العديد من الفقهاء ـ السنّة والشيعة ـ استحباب تقديم الهاشمي على غيره لإمامة الجماعة، وخصّه بعضهم بحال تساويه مع غيره في سائر الصفات الموجبة للتقديم والتفضيل كالعلم والورع والتقوى والسنّ وغير ذلك.

وقد استند بعض الفقهاء في هذا الأمر تارةً لكونه من تكريم الرسول‘، وأخرى لرواية: «قدّموا قريشاً ولا تقدّموها..»، وثالثة لخبر الفقه الرضوي الوارد في تقديم الهاشمي لصلاة الجنازة، وغير ذلك من الأدلّة والوجوه. وبنى آخرون الأمر على قاعدة التسامح في أدلّة السنن.

والأقوى عدم ثبوت خصوصيّة في الانتساب للنبيّ أو لقريش في تقديم المنتسِب لهما لإمامة الجماعة ولا لصلاة الجنازة. والروايات الواردة قابلة كلّها للنقاش السندي أو المصدري أو الدلالي. وقاعدة التسامح غير ثابتة. والأمر خاضع لمناقشات عدّة في مختلف الوجوه. ومحاولة الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني (1999م) وغيره تصحيح حديث تقديم قريش ـ لأنّه في جوهره وأصله وطُرُقه حديثٌ سنّي وليس شيعيّاً ـ تبدو غير مقنعة.

 

حكم إمامة غير رجل الدين (والمعمَّم) لصلاة الجماعة مع وجوده

لا يوجد في التراث القرآني والحديثي والفقهي عند مذاهب المسلمين جميعاً أنّ من شروط إمام الجماعة أن يكون رجلَ دينٍ منتمياً للمؤسّسة الدينيّة أو أن يكون مرتدياً للعمامة، وهذا من الواضحات عند الجميع، غير أنّه في الفترة الأخيرة ظهرت فتوى مختلفة بعض الشيء، وهي لا تقول باشتراط العمامة أو نحوها في الإمام، لكنّها ترى أنّه لو وُجد شخصٌ حوزويّ (وبعض العبارات تصرّح بأنّ المراد منه المعمَّم) وآخر غير حوزوي، فلا يجوز الاقتداء بغير المعمّم مع وجود المعمّم ـ الواجد لشرائط الجماعة ـ في المكان نفسه.

ولعلّ أوّل من طرح هذه الفتوى هو السيّد الخميني (1409هـ) في أكثر من استفتاءٍ له، في ثمانينيّات القرن العشرين، وبهذا يظهر شرطٌ جديد من شروط الجماعة، بل من شروط الصلاة في حال الجماعة، وهو عدم وجود رجل دين معمّم إذا كان الاقتداء بغير المعمّم. ويظهر من الشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيّد علي الخامنئي والشيخ جواد التبريزي ترجيح هذا الرأي، بل مكارم الشيرازي يرى صريحاً وجود إشكال في الاقتداء بالحوزويّ غير المعمّم مع وجود الحوزوي المعمّم في مكان الجماعة، كما أنّ التبريزي يعتبر أنّ ترويج إمامة غير المعمّم إذا لزم منه تشجيع الحوزويّين على عدم لبس العمامة، ففيه إشكالٌ.

ويظهر من بعضهم ـ كالسيّد السيستاني ـ أنّ الاقتداء في نفسه لا إشكال فيه إلا إذا لزم منه هتك حرمة المعمّم، أما السيّد محمود الهاشمي والسيّد موسى الشبيري الزنجاني فيوافقان السيستاني تماماً غير أنّهما يعتبران أنّ الأنسبَ حتى في صورة عدم الهتك تقديمُ المعمّم، خاصّةً المتولّي لسائر الأمور في المسجد.

والأقرب بالنظر أنّ الانتماء للمؤسّسة الدينية أو ارتداء الزيّ الديني لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً في معايير صلاة الجماعة أو الصلاة نفسها. نعم إذا لزم هتك الحرمة ـ وليس وهمه ـ أشكل الأمر، لكنّ هتك الحرمة لا يختصّ بالمعمّم، بل قد يتصوّر أنّ تصدّي رجل دين شاب في مسجد للإمامة مع كون شخص آخر متديّن صالح يقيم الجماعة في هذا المسجد منذ عقود، قد يتصوّر هذا أحياناً هتكاً لحرمة ذلك الرجل، فمعيار الهتك مفتوح على الجميع وليس خاصّاً بالمعمّم، بل لعلّ تقديم المعمّم لغير المعمّم يوجب أحياناً إعطاء انطباع التواضع في المعمّم. بل لو قلنا بأفضليّة تقدّم العالم (أو الأعلم) على غيره في إمامة الجماعة، فلا وجه للقول بأنّ المعمَّم غير العالم أو الأقلّ علماً يقدَّم على الحوزويّ غير المعمّم الأكثر علماً، بل العكس هو الأفضل.

وفي تقديري، فإنّ فتوى السيد الخميني ـ وكما قد يساعدنا في هذا التحليل عباراتٌ هنا للشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني والشيخ التبريزي ـ جاءت في سياقٍ تاريخي خاصّ؛ إذ انتشرت إمامة غير المعمّمين في المساجد في الثمانينيّات وظهرت تيارات ثقافيّة متديّنة وربما بعضها له موقف من الثورة في إيران والحوزة، فصار عند هؤلاء العلماء ـ وما يزال ـ قناعة بحكم ولائي أو عنوان ثانوي في القضيّة تخوّفاً من سيطرة هذه الجماعات على المساجد وتضعيف موقع الحوزات ورجال الدين، والعلم عند الله.

هذا، وقد ذكر الشيخ المنتظري في كتابه (انتقاد از خود، عبرت و وصيت: 24) أنّه كان ـ أي المنتظري نفسه ـ قد صرّح عام 1979م في إحدى خطب الجمعة أنّ الوليّ الفقيه لا يلزم أن يكون حوزويّاً أو معمّماً، بل أيّ شخص متخصّص في الإسلام يمكنه أن يكون في منصب الوليّ الفقيه. وما أبعدَ ما بين الرأيين.

وربما يقال في مقاربةٍ اجتماعيّة: إنّ الفتوى التي تشترط كون الإمام في صلاة الجماعة معمّماً، رغم فقدان الدليل، لم تؤدِّ فقط إلى أولوية المعمّم في إيران، بل تجاوزت ذلك ـ ولو اشتباهاً من "العوام" أحياناً ـ إلى توقّف إقامة صلاة الجماعة على وجود المعمّم، وهذا يعني أنّ عدداً كبيراً من المساجد في إيران لا تُقام فيها صلاة الجماعة بسبب عدم وجود عالمٍ حوزوي معمّم، فيأتي الناس إلى المسجد فيصلّون فرادى حتی لو وجد فیهم حوزوي غیر معمّم أو من لا یکون حوزویاً، ولکن یکون عالما. ولا نقول بأنّ هذه الفتوى كانت العامل الوحيد في هذه المشكلة، بل إنّ حصر إقامة بعض الشعائر الدينيّة بالعلماء واعتبارها من اختصاصهم أو مختصّاتهم، إضافة إلى النزاعات التي تحصل بين الناس حول اختيار إمام الجماعة من بينهم.. ذلك كلّه ساهم ـ مع الأسف ـ في حصول مشكلة مضاعفة في بعض المناطق.

وخلاصة القول: إنّه لا يوجد في الإسلام كهنوت، بحيث إنّ بعض العبادات والشعائر يجب أن يتصدّرها رجل دين أو شخص ينتمي للأسرة الهاشميّة، فهذا المفهوم يعرفه اليهود في مجال الكهنوت، ولا أصل له في الإسلام.

([2]) هنا شرطان يمكن تفكيكهما:

 

الشرط الأوّل: شرط الإسلام

ولم يتعرّض السيّد الماتن لشرط الإسلام، والذي هو شرطٌ متفق عليه بين جميع فقهاء الإسلام على ما يبدو، وذلك بشكل مطلق، سواء قلنا بتكليف الكفّار بالفروع أم لا، وسواء أمكن تأتّي قصد القربة منه أم لا.

والظاهر أنّه لا يوجد دليلٌ خاصّ يثبت ذلك ـ لو تركنا الإجماع والتسالم ونحو ذلك من العناوين ـ عدا:

أ ـ أصالة عدم المشروعيّة الجارية هنا؛ لكون المورد غير ابتلائي إطلاقاً، فلا يُعلم مشروعيّة الجماعة في مثل هذه الحال.

ب ـ أدلّة شرطيّة الإيمان بالمعنى الأخصّ في الإمام، فإنّها إذا تمّت أثبتت شرط الإسلام بطريقٍ أولى وأوضح.

 

الشرط الثاني: شرط الانتماء المذهبي الخاصّ أو شرط الإيمان بالمعنى الأخصّ

الظاهر أنّ هذا الشرط متداول في الفقه الإمامي أكثر من غيره ـ بعيداً عن تكفير المختلف في المذهب ـ فإنّ الفقه السنّي كان تركيزه أكثر على اختلاف المذاهب من حيث اختلاف كيفيّات الصلاة وأحكامها بين الإمام والمأموم، وهذا غير شرط الانتماء المذهبي بعنوانه هنا كما هو واضح.

 

1 ـ أدلّة شرطيّة الإيمان في إمام الجماعة

وعلى أيّة حال فإنّ مستند شرط الإيمان في إمام الجماعة ـ ويعنون به التشيّع الإمامي الاثني عشري خاصّة ـ عدّة أدلّة:

الدليل الأوّل: إنّه إذا ثبت شرط العدالة، فغير الشيعي الإمامي الاثني عشري ليس بعادل.

ويناقش بأنّنا قد بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل في محلّه من بحوثنا في علم الحديث، وقلنا بأنّ العدالة المأخوذة هي سلوك أخلاقي، والسلوك الأخلاقي لا يمكن تعميمه للاشتباهات الفكريّة التي لا تكون عن تقصير، وقلنا بأنّ دعوى الملازمة بين الخطأ العقائدي والتقصير ضعيفة، والتفصيل في محلّه.

الدليل الثاني: أصالة عدم مشروعيّة الجماعة، وعدم ترتيب آثارها، ولم يثبت بدليل الترخيص في الصلاة خلف غير الإمامي.

ويجاب بأنّ هذه المسألة كثيرة البلوى جدّاً، فلو تمّ تجاوز النصوص الخاصّة المانعة هنا، فإنّ الحالة تصبح مشمولة لقاعدة المشروعيّة الثانويّة وفق ما أسلفناه.

الدليل الثالث: ما دلّ على بطلان عمل غير الإمامي على أساس شرط صحّة الأعمال بالولاية، ومع بطلان صلاته كيف يمكن أن يكون إماماً للجماعة؟!

والجواب ما قلناه مراراً، من أنّ غاية ما تدلّ عليه نصوص شرط الأعمال بالولاية وألسنتها، هو شرط قبولها بها وترتيب الآثار الأخرويّة عليها، لا شرط صحّتها الفقهيّة بها، والتي هي أثرٌ دنيوي، والتفصيل في محلّه، بل لعلّ هذا هو رأي السيد علي السيستاني أيضاً.

يضاف إلى ذلك أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى ببعض المعاني، إذ إنّ المقصود بالطبع من " الولاية" في هذه الروايات هو الاعتقاد الحقيقي للأشخاص بالولاية، ولا يكفي مجرّد الانتساب الاسمي للتشيّع؛ ولذلك، لو ثبت هذا الدليل، فإنّه أخصّ من إثبات اشتراط "التشيّع"؛ لأنّ الإيمان والاعتقاد بالولاية أخصّ من التشيّع؛ إذ إنّ التشيّع ـ بحسب إطلاقه المعاصر ـ يتحقّق بمجرّد الولادة من أبوين شيعيّين، وقد يبقى الشخص على هذا الحدّ حتى نهاية عمره دون أن يقوم بأيّ دراسة تؤدّي به إلى إدراك الولاية والاعتقاد بها، كما لا بدّ من حمل هذه النصوص على أولئك الذين يفتقدون الولاية بسبب العناد في مواجهة الحقيقة ورفضهم للحقّ بعد إدراكهم لحقيّة الولاية، وإلّا فإنّ شمولها للمستضعفين فكريًاً أو لمن بحثوا ولم يصلوا إلى حقّانية الولاية، بحيث يُحبط عملهم حتّى في مرتبة "قبول الأعمال" فضلاً عن مرتبة "صحّة الأعمال"، مخالفٌ لحكم العقل العمليّ، ومخالفٌ لأصل العدالة؛ فإنّ ردّ أعمال من لم يكن معانداً للحقّ، بل بذل جهده في سبيل إدراكه ولم يصل إليه، يبدو من المصاديق الواضحة التي تتنافى مع قاعدة العدالة. ومع صرف ظهور هذه النصوص أو حجیّتها إلی المعاند، يكون هذا الدلیل أخصّ من هذه الناحیة.

الدليل الرابع: الاستناد إلى الإجماع، فقد تكرّر منهم دعوى الإجماع في المقام، قال المحقّق الحلي: «مخالف أهل الحقّ لا يؤتمّ به، وإن أطلق عليه اسم الإسلام، وهو اتفاق علمائنا» (المعتبر 2: 432).

والجواب وضوح مدركية الإجماع هنا، فلا نطيل.

 

النصوص الحديثية الدالّة على شرط الإيمان في إمام الجماعة

الدليل الخامس: الروايات الخاصّة وعمدتها ـ بعد استبعاد النصوص التي تتكلّم عن الصلاة خلف الناصبي أو المغالي ـ:

الرواية الأولى: صحيح زرارة، قال: سألت أبا جعفر× عن الصلاة خلف المخالفين، فقال: «ما هم عندي إلا بمنزلة الجُدُر».

والتعبير بالجدر فيها يعطي وكأنّه يعتبر صلاتهم بحكم كونها معدومة، ويكون بليغاً في نفي الصلاة خلفهم.

الرواية الثانية: خبر أبي علي بن راشد، قال: قلت لأبي جعفر×: إنّ مواليك قد اختلفوا، فأصلّي خلفهم جميعاً؟ فقال (قال): «لا تصلّ إلا خلف من تثق بدينه» وبنقل الطوسي زاد «وأمانته».

والخبر يحتمل احتمالين:

أحدهما: إنّ الوثوق بالدين راجعٌ للسلوك، فيكون المعنى هو الوثوق بتديّنه، ولعلّ قرينة ذلك ما ورد في نقل الطوسي من إضافة الأمانة، وبهذا فإنّ الإمام يريد نفي أخذ أيّ قيد اعتقادي في الموالين له، وبدل ذلك يريد التركيز على القيد السلوكي، بحيث يكون الإمام موثوقاً بدينه.

ثانيهما: إنّه بقرينة طبيعة السؤال عن الاختلاف لا عن السلوك، يكون المراد من الوثوق بالدين هو الشخص الذي يكون اعتقاده موثوقاً به، وإلا فلا تصلّ خلف من لا يكون اعتقاده موثوقاً به عندك. ويترجّح ذلك بأنّ الرواية عبّرت بالدين وليس بالتديّن.

هذا، لكنّ الرواية ضعيفة السند بسهل بن زياد.

الرواية الثالثة: صحيحة إسماعيل الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر÷: رجل يحبّ أميرالمؤمنين ولا يتبرّأ من عدوّه، ويقول: هو أحبّ إليّ ممن خالفه، فقال: «هذا مخلط، وهو عدوّ، فلا تصلِّ خلفه ولا كرامة إلا أن تتقيه».

وتقريب الاستدلال بها أنّ كلّ شخص إذا لم يتبرأ من أعداء أهل البيت، فهو عدوّ، وما دام كذلك فيكون مشمولاً للرواية، حيث دلَّت على أنّ كلّ من لا يتبرأ فلا تجوز الصلاة خلفه.

واللافت في هذه الرواية اعتبار مثل هذا الشخص عدوّاً، وليس فقط ضالاً! مع أنّ الكثير من هؤلاء كانوا من الزيدية والمعتزلة الذين يفضّلون علياً ويقدّمونه، لكنّهم لا يتبرؤون من الخلفاء الثلاثة الأوائل.

الرواية الرابعة: خبر أبي عبد الله البرقي، أنّه قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني×: أيجوز الصلاة خلف من وقف على أبيك وجدّك؟ فأجاب: «لا تصلّ وراءه».

وهي وإن كان موردها خاصّاً ببعض الشيعة ـ رغم أنّه غير متعارف تاريخياً الحديث عن الواقفة على الرضا ـ لكنّها قد يُفهم منها التعميم بالأولويّة أو بعدم الفرق، ولكنّه محلّ تأمّل، وسيأتي.

ويناقش بأنّها ضعيفة السند بأبي عبد الله البرقي، وهو محمد بن خالد، وقد حقّقنا أنّه لم تثبت وثاقته، وفاقاً لغير واحدٍ من العلماء.

الرواية الخامسة: خبر إسماعيل بن مسلم، أنّه سأل الصادق× عن الصلاة خلف رجلٍ يكذّب بقدر الله عز وجل، قال: «ليعد كلّ صلاة صلاها خلفه».

والحديث من حيث الإسناد ضعيف؛ فمضافاً لتوقّفنا في أمر إسماعيل بن مسلم، وهو السكوني، على ما حقّقناه في محلّه، فإنّ طريق الصدوق إلى السكوني ضعيف في مشيخة الفقيه، وكذلك فإنّ في السند هنا علي بن الحسن الكوفي، وهو مهمل جداً.

يضاف إلى ذلك أنّ الأمر بإعادة الصلوات كلّها يقع على خلاف القاعدة المقرّرة في نصوص أهل البيت أنفسهم، الأمر الذي يزيد هذه الرواية أشكلةً.

الرواية السادسة: مرسل الصدوق، قال: وقال عليّ بن محمّد ومحمد بن علي ـ عليهما السلام ـ: «من قال بالجسم فلا تعطوه شيئاً من الزكاة، ولا تصلّوا خلفه».

والرواية مرسلة وخاصّة بالقائلين بالتجسيم.

الرواية السابعة: صحيحة عليّ بن مهزيار، قال: كتبت إلى محمّد بن عليّ الرضا: أصلّي خلف من يقول بالجسم، ومن يقول بقول يونس؟ فكتب×: «لا تصلّوا خلفهم، ولا تعطوهم من الزكاة، وابرؤا منهم برأ الله منهم».

وهذه الرواية على صحّة سندها غير أنّها تعارض النصوص الكثيرة ـ ومنها الصحيح سنداً ـ التي تدلّ على نقيض هذا الموقف من يونس وأصحابه، والعجيب أنّ السيد الخوئي ردّ علم هذه الرواية إلى أهلها في علم الرجال؛ لمعارضتها لما دلّ على مدح يونس بن عبد الرحمن، لكنّه أخذ بها في بحثه الفقهي! إلا إذا قيل بالتبعيض في الحجيّة، وهو خلاف مبدأ الوثوق في حجيّة الأخبار إلا ما خرج بدليل.

الرواية الثامنة: خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا× في كتابه إلى المأمون قال: «لا يُقتدى إلا بأهل الولاية».

ودلالتها أكثر عموميةً من نظيراتها، غير أنّها تحتمل الشمول ـ ترخيصاً ـ للشيعة على اختلاف مذاهبهم، وعلى أيّة حال فالسند ضعيف، وقد حققناه في كتابنا "فقه الأطعمة والأشربة" واعتبرنا هذه الرواية غريبة.

الرواية التاسعة: خبر إبراهيم بن أبي محمود، عن الرضا، عن آبائه، قال: «من زعم أنّ الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلّفهم ما لا يطيقون ـ إلى أن قال ـ فلا تصلّوا وراءه».

والخبر ضعيف الإسناد من أكثر من جهة، فمحمّد بن أحمد السناني مجهول الحال، وسهل بن زياد لم تثبت وثاقته على التحقيق، كما أنّ الخبر نفسه ورد في احتجاج الطبرسي مرسلاً إلى عبد العظيم الحسني. هذا مضافاً إلى اختصاصه بجماعات معيّنة.

الرواية العاشرة: خبر الحسن بن عباس بن جريش (حريش) الرازي، عن بعض أصحابنا ـ في حديث ـ عن عليّ بن محمد وأبي جعفر ـ عليهما السلام ـ أنّهما قالا: «من قال بالجسم فلا تصلّوا وراءه».

والدلالة واضحة غير أنّها خاصّة بالمجسّمة، كما أنّ السند ضعيف جداً بابن الحريش المغالي المتهم بالكذب والوضع، وهو صاحب كتاب "إنا أنزلناه في ليلة القدر"، هذا مضافاً إلى الإرسال.

الرواية الحادية عشرة: خبر حسّان المدائني، قال: سألت جعفر بن محمّد× عن المسح على الخفّين، فقال: «لا تمسح ولا تصلّ خلف من يمسح».

والرواية ليست دالّة على شرط الانتماء المذهبي بعنوانه بوضوح، بل لعلّ نكتتها هو أنّ وضوءه باطل، إلا إذا قيل بأنّ النهي عن الصلاة خلف من يمسح لا يراد منه أنّه مسح على الخف وأريد الآن الصلاة خلفه، بل إنّه يقول بالمسح على الخف ويفعله أحياناً، كما أنّها لا تشمل سائر مذاهب المسلمين ممن لا يرى المسح على الخفّين، هذا مضافاً إلى ضعف سندها بعدم ثبوت وثاقة محمّد بن علي بن خلف العطار.

الرواية الثانية عشرة: موثقة عمار، عن أبي عبد الله× قال: سأل عن الأذان هل يجوز أن يكون عن غير عارف؟ قال: «لا يستقيم الأذان ولا يجوز أن يؤذّن به إلا رجل مسلم عارف، فإن علم الأذان وأذّن به ولم يكن عارفاً لم يجز أذانه ولا إقامته ولا يُقتدى به..»، فإنّ ذيل هذه الرواية ينهى عن الاقتداء بغير العارف، والمراد منه الشيعي.

وقد يناقش بأنّ بعض نسخ "الكافي" جاء فيها مكان «لا يقتدى به» جملة : «لا يعتدّ به»، كما أشار إلى ذلك محقّقو "الكافي"، وإن كان نقل الطوسي للحديث قد جاء بعبارة عدم الاقتداء لا الاعتداد، مما يقوّي الحديث عن الاقتداء به في الصلاة، ومع ذلك فإنّ عبارة الاقتداء هنا تحتمل جداً عدم اتّباعه في أذانه وإقامته، لا عدم الصلاة خلفه جماعة؛ إذ ليس مورداً للسؤال أصلاً،؛ والاقتداء لغةً يعني الاتباع، فيكون المعنى إنّه لا يتّبع غير العارف في الأذان ولا الإقامة.

الرواية الثالثة عشرة: صحيح حمران، عن أبي عبد الله ـ في حديث ـ قال: «في كتاب عليّ إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم ولا تقومنّ من مقعدك حتى تصلّي ركعتين أخريين»، قلت: فأكون قد صلّيت أربعاً لنفسي لم أقتد به، فقال: «نعم». ومثل هذه الرواية خبر عمار الساباطي وخبر حمران بن أعين.

وتقريب الاستدلال هو أنّ الصلاة أربعاً كاشفٌ عن عدم كون الصلاة جماعة في الواقع، ولهذا فهم السائل أنّ هذه الصلاة هي لنفسه وأنّه لم يحصل فيها اقتداء.

وقد يناقش بأنّ هذه الروايات مرتبطة بصلاة الجمعة، وفي العادة يكون الإمام في هذه الصلاة من أئمّة الجور أو أعوانهم أو المنصوبين من قبلهم، فلعلّ الرواية ناظرة إلى عدم الصلاة خلف المنصوبين من قبل أئمّة الجور للجُمعات، فلا يكون فيها تعميم واضح لمطلق الصلاة خلف غير الشيعي الاثني عشري.

هذه هي عمدة النصوص وقد تبيّن أنّ الدالّ منها هو إحدى عشرة رواية بصرف النظر عن أيّ ملاحظة، وأنّ الروايات الثانية عشرة والثالثة عشرة وما يلحق بهما، لا دلالة فيها على الموضوع.

وعليه، فعوداً إلى النصوص الدالّة فإنّه:

أوّلاً: لم يثبت منها سنداً إلا ثلاث روايات وهي رقم: 1، 3، 7، والباقي كلّه قابل للمناقشة السنديّة، بل إنّ الرواية السابعة الصحيحة السند معارضة بنصوص صحيحة تختلف عنها كما قلنا.

ثانياً: إنّ دلالتها تختلف بين التعميم وغيره، فالروايات العامّة لمطلق غير الإمامي هي ـ على أبعد تقدير ـ الرواية الأولى والثانية والثامنة، بينما سائر الروايات خاصّة بالمجسّمة أو القدريّة أو المجبرة أو من يمسح على الخفّين أو الواقفة وأمثال ذلك، وبضمّ المجموعات الخاصّة إلى المجموعة المطلقة يمكن استنتاج التعميم.

ثالثاً: إنّ الروايات الثلاث المعتبرة الإسناد مختلفة فيما بينها من حيث الدائرة؛ فصحيحة زرارة (الرواية الأولى) مطلقة، بينما صحيحة إسماعيل الجعفي (الرواية الثالثة) خاصّة بمن لا يتبرّأ من أعداء عليّ، فلا تشمل المذاهب الشيعيّة التي تتبرأ من أعداء عليّ أو مخالفيه مثل الجاروديّة من الزيديّة، وأمّا صحيحة عليّ بن مهزيار (الرواية السابعة)، فهي خاصّة بالمجسّمة ومن يقول بقول يونس، ولا تشمل أغلب المسلمين، وعليه فلدينا رواية واحدة عامّة صحيحة السند.

رابعاً: إنّ النصوص الدالّة ـ ولو في الجملة ـ هنا، يمكن تقسيمها إلى قسمين:

القسم الأوّل: ما دلّ على النهي عن الصلاة خلف غير الإمامي مطلقاً أو في الجملة.

القسم الثاني: ما دلّ على عدم انعقاد الجماعة في هذه الحال وعدم الاقتداء.

أمّا القسم الأوّل، فهو الروايات رقم: 2 ـ 3 ـ 4 ـ 6 ـ 7 ـ 9 ـ 10 ـ 11.

وأمّا القسم الثاني، فهو الروايات رقم: 1 ـ 5 ـ 8.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو أنّ روايات القسم الثاني لا شكّ في أنّها بصدد بيان حكم وضعي شرطي، وهو أنّ صلاة الجماعة لا تنعقد مع كون الإمام غير شيعي، لكن هل روايات القسم الأوّل الذي يشمل غالبية النصوص هنا، تدلّ على ذلك أو أنّها تدلّ على مجرّد النهي عن الائتمام بهم، فلو ائتمّ بهم فقد ارتكب حراماً في الائتمام، لكنّ صلاته وجماعته تصحّ، فليس نظر الروايات لترتيب آثار الجماعة وعدمه، بل لأصل الالتحاق بجماعتهم تكليفاً؟

قد يقال بأنّ الدلالة المباشرة لهذه النصوص هو بيان الحكم التكليفي وليس الشرطي، لكن قد يقال في المقابل بأنّ تحريم الالتحاق بجماعتهم تكليفاً يجعل الائتمام مبغوضاً للمولى، فكيف يمكن ترتيب الآثار وبراءة الذمّة في أمرٍ مبغوض له تعالى؟!

 

النصوص المعارضة لشرط الإيمان في الإمام

وفي مقابل هذه الروايات، قد يقال بوجود روايات معارضة وعمدتها:

الرواية الأولى: خبر علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر، قال: «صلّى حسنٌ وحسين خلف مروان، ونحن نصلّي معهم».

الرواية الثانية: خبر سماعة، قال : سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم، فقال: «هذا أمر شديد لن (إن) تستطيعوا ذلك، قد أنكح رسول الله‘، وصلّى عليّ× وراءهم».

يضاف إلى ذلك مجموعة النصوص الكثيرة التي تحثّ على الصلاة معهم وخلفهم، فإنّ الفهم الأوّلي لهذه النصوص هو الائتمام بهم، ونصوص «لا تصلّ خلفه»، تصبح معارضة لنصوص «صلّ خلفهم» و «صلّ معهم» و «صلّى معهم في الصفّ الأوّل»، فإنّ هذه التعابير ـ قبل جمعها مع أيّ دليلٍ آخر ـ تفيد الائتمام بهم إن لم تكن قرينة على الخلاف، فلو سأل شخصٌ: هل أصلّي مع المصلّين في هذا المسجد؟ فأجبناه: صلّ معهم في الصف الأوّل تؤجر، فإنّ الذي يفهم هو الدخول معهم في الجماعة لا مجرّد المعيّة البدنيّة. والذي ألجأنا لتفسير المعيّة البدنيّة هو الجمع بين هذه النصوص والنصوص السابقة من جهة، وكذلك بعض الروايات الخاصّة في مورد نصوص الصلاة معهم، ويعزّز ما نقول أنّ الفقهاء فهموا من التعبير بـ "الصلاة خلفه" معنى الائتمام. والدليل على ذلك أنّ جميع الروايات المتقدّمة المانعة عبّرت بالصلاة خلفه أو وراءه، إلا رواية واحدة، هي الرواية الثامنة ضعيفة الإسناد، حيث عبّرت بالاقتداء، وهذا يعني أنّ النصوص الآمرة بالصلاة معهم وخلفهم في مساجدهم سوف تصبح معارضةً لجميع هذه النصوص هنا إذا أخذ الاثنان بالعنوان الأوّلي، ولعلّه يصار حينها لتساقط جميع النصوص، بل لو كان المراد مطلق الصلاة خلفهم ولو بلا اقتداء لكانت النصوص المانعة هنا معارضةً مباشرةً لنصوص الصلاة معهم في مساجدهم، على غير تأويلٍ سيأتي منّا، فما أفاده غير واحد ـ ومنهم السيد الخوئي في بحوثه ـ من أنّ هذه النصوص ـ أي نصوص الصلاة معهم وخلفهم في مساجدهم ـ لا علاقة لها بالاقتداء، غيرُ صحيح لو خلّيت هذه النصوص ونفسها.

هذا كلّه إلى جانب النصوص التي تستخدم تعبير الصلاة مع «جماعة المسلمين»، فلتُراجع.

 

2 ـ وقفة حول التقية المداراتيّة

من هنا يأتي طرح المتأخّرين لفكرة التقية المداراتية أو ما عبّر عنه السيد الخوئي بالتقية بالمعنى الأعمّ، والتي قد يقال بأنّها مفهوم مغاير للتقية المعروفة، فإنّ التقية الخوفية المعروفة هي تلك التقية التي تأتي من الخوف على النفس ونحو ذلك من الآخرين، وأمرها واضح، وهي مورد إجماع المسلمين تقريباً، ما لم يلزم منها فساد الدين كما ورد في بعض النصوص، أو يلزم منها سفك الدم كما ورد في نصوص أخرى، على تفصيلٍ لسنا بصدده الآن. لكنّ بعض الفقهاء المتأخّرين فهم من نصوص الصلاة خلف أهل السنّة وفي مساجدهم ونحو ذلك أنّها تريد أن تتحدّث عن نوعٍ آخر من التقية، وعبّروا عنه بالتقية المداراتيّة.

ومن الواضح أنّ عنوان المداراة وحُسن العشرة لا يمكن القبول به إذا كان يستلزم تحليل الحرام أو ارتكابه أو كان يستلزم الترخيص في ترك الواجب أو تركه فعلاً، فما معنى المداراة التي تفرض أو تسمح أو ترغّب استحباباً بالاقتداء بهم رغم أنّ صلاة الجماعة لا تصحّ بالعنوان الأوّلي عبر هذا الطرق، وترك القراءة غير مقبول في الصلاة؟!

هنا قالوا بأنّه يوجد عنوان ثانوي حاكم على العنوان الأوّلي، وهو عنوان المداراة مع المخالفين في المذهب، وخصّص كثير منهم ذلك بالصلاة؛ لأنّ النصوص وردت فيها.

ومستند هذا العنوان الثانوي المرخّص في الاقتداء بهم، بل المرغّب بذلك، هو مجموعة الروايات التي دلّت على الصلاة معهم في مساجدهم، فإنّ هذه النصوص مطلقة من حيث وجود تقية خوف وعدمه، فلم تقل أغلب هذه النصوص بأنّ السبب في ذلك هو التقية الخوفية، وعليه فنأخذ بإطلاق هذه النصوص لتشمل التقية الخوفيّة والتقية المداراتية، ويصبح معنى التقية المداراتية هو الصلاة خلفهم والائتمام بهم في مساجدهم بهدف تحبيبهم بالشيعة وحفظ وحدة الأمّة وتماسكها.

يقول السيد الخوئي: «نعم ، لا بأس بذلك في خصوص الصلاة، فإنّ له أن يحضر مساجدهم ويصلّي معهم للمداراة والمجاملة من دون أن يترتّب ضرر على تركه بالنسبة إلى نفسه أو بالإضافة إلى الغير؛ وذلك لإطلاقات الأخبار الآمرة بذلك؛ لأنّ ما دلّ على أنّ الصلاة معهم في الصف الأوّل كالصلاة خلف رسول الله‘ غير مقيّد بصورة ترتّب الضرر على تركها، بل قد عرفت أنّ حملها على تلك الصورة حملٌ لها على موردٍ نادر؛ لبُعد أن يكون ترك الحضور في مساجدهم أو ترك الصلاة معهم مرّة أو مرتين أو أكثر مستلزماً لاشتهاره بالتشيّع ومعروفيّته به، أو لأمر آخر موجب لتضرّره. نعم، إذا ترك ذلك بالكليّة أمكن أن يستلزم الضرر، بل قد قدّمنا أنّ ظاهر هذه الروايات هو الحث والترغيب إلى إظهار الموافقة معهم في الصلاة أو في غيرها من الأعمال بالقدرة والاختيار، لا من جهة الخوف والالتجاء والتقيّة. وقد ورد أنّ الصلاة معهم من حيث الأثر والثواب كالصلاة خلف من يقتدى به.. وهو أيضاً غير مقيد بصورة خوف الضرر عند ترك الصلاة معهم، فجواز الحضور عندهم أو الصلاة معهم وعيادة مرضاهم وغير ذلك من الأُمور الواردة في الروايات غير مقيّد بصورة ترتب الضرر على تركها، وإنما ذلك من باب المجاملة والمداراة معهم. ولقد صرّح بحكمة تشريع التقيّة في هذه الموارد وعدم ابتنائها على خوف الضرر في صحيحة هشام الكندي قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «إيّاكم أن تعملوا عملاً نعيّر به، فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً، صلَّوا في عشائرهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم، والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخباء، قلت: وما الخباء؟ قال: التقيّة»؛ لدلالتها على أنّ حكمة المداراة معهم في الصلاة أو غيرها إنّما هي ملاحظة المصلحة النوعيّة واتحاد كلمة المسلمين من دون أن يترتّب ضرر على تركها..» (التنقيح، كتاب الطهارة 4: 315).

ويقول السيد الخميني: «وأمّا التقيّة المداراتية المرغَّب فيها ممّا تكون العبادة معها أحبّ العبادات وأفضلها، فالظاهر اختصاصها بالتقيّة من العامّة، كما هو مصبّ الروايات على كثرتها. ولعلّ السرّ فيها صلاحُ حال المسلمين بوحدة كلمتهم وعدم تفرّق جماعتهم لكي لا يصيروا أذلَّاء بين سائر الملل وتحت سلطة الكفّار وسيطرة الأجانب. أو صلاحُ حال الشيعة؛ لضعفهم خصوصاً في تلك الأزمنة وقلَّة عددهم، فلو خالفوا التقيّة لصاروا في معرض الزوال والانقراض، ففي رواية عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله× قال: «اتّقوا على دينكم، واحجبوه بالتقيّة؛ فإنّه لا إيمان لمن لا تقيّة له، إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، ولو أنّ الطير يعلم ما في أجواف النحل، ما بقي منها شيء إلَّا أكلته، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم ـ أنّكم تحبّونا أهل البيت ـ لأكلوكم بألسنتهم، ولنحلوكم في السرّ والعلانية. رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا». ثمّ إنّه لا يتوقّف جواز هذه التقيّة بل وجوبها على الخوف على نفسه أو غيره، بل الظاهر أنّ المصالح النوعيّة صارت سبباً لإيجاب التقيّة من المخالفين، فتجب التقيّة وكتمان السرّ ولو كان مأموناً وغير خائف على نفسه وغيره» (الرسائل العشرة: 70 ـ 71).

لكنّ مهمّ البحث في مسألة التقية المداراتيّة يقع ضمن جهتين:

 

2 ـ 1 ـ هل مورد التقية المداراتية هو الخوف أو لا (وحدة تقية الخوف والمداراة أو تعدّدهما)؟

بمعنى أنّ ما أطلق عليه أنصار التقية المداراتية هذا الاسم ليس هو شيئاً آخر غير تقية الخوف، ففي الحقيقة الصلاة معهم ترجع للخوف على الشيعة، والإمام أمر الشيعة بذلك لحمايتهم، فمرجع المداراة إلى الخوف على الوجود والسلامة، وأنّه بهذه الطريقة يمكن من خلال نسج العلاقات وتحسين الروابط بين الشيعة والسنّة مثلاً حماية الشيعة أنفسهم، ولا يوجد حديث عن موضوع اتحاد كلمة المسلمين أو غير ذلك هنا، بل الهدف هو اندماج الشيعة في الأكثريّة بهدف حماية الأقليّة نفسها. ويشهد لذلك رواية هشام الكندي التي نقلها السيد الخوئي آنفاً فإنّها عبّرت في نهايتها بالخباء والتقية وهو عنوان منصرف إلى تقية الخوف، فما هو مداراة هو تقية خوف لا غير.

ويمكن هنا طرح فرضيّتين في فهم مجموع هذه النصوص، هما:

الفرضيّة الأولى: إنّ هذه النصوص تريد تحقيق مجموعة مقاصد، فهي تريد تحقيق اندماج الشيعة في المجتمع الأكثري الإسلامي، ونسج روابط اجتماعيّة وثيقة بين الطرفين ـ الأقليّة والأكثريّة ـ لأنّ اضطراب العلاقة بين الطرفين مرجعه لتضرّر الأقليّة عادةً وفي الغالب، فهي تريد في الحقيقة إعادة تكوين العلاقة بين الأقليّة والأكثرية لتكون علاقة سليمة وصحيّة ووديّة حتى لو لزم من ذلك التخلّي عن بعض التفاصيل الفقهية في باب الصلاة، فنوع تقية الخوف فيها مختلف عن نوع تقية الخوف في مجال الفقه الفردي؛ لأنّ تقية الخوف على المستوى الفردي تنبع من كونها لحظة قلق على النفس أو المال أو نحو ذلك، بينما في الفقه المجتمعي تقية الخوف تأتي من رسم استراتيجيّات واستشراف مستقبليات، فقد يكون متعلّق الخوف أمراً يحصل بعد عقود من الزمن أو أجيال، فالإمام هنا طبّق تقية الخوف في ظرف مجتمعي وعلى مستوى فقه الأمّة، وليس على مستوى فقه الأفراد، ومن ثمّ فحتى لو كان هذا الفرد أو ذاك لا خوف عليهم الآن من ترك الصلاة في مساجدهم أو الائتمام بهم، فإنّ الإمام يدعو ـ وعلى مبنى مثل السيد الخميني قد يوجب ـ ممارسة التقية معهم لمصالح نوعيّة غير لحَظْية ولا آنية.

وفي ضوء ذلك، فهذه النصوص ـ التي ستكون نصوصاً سياسيّة واجتماعيّة بنيويّة ـ تحقّق عدّة نتائج في وقتٍ واحد:

1 ـ حماية الأقليات بنزع فتيل الاضطراب بينها وبين الأكثريّة.

2 ـ وقف الصراع بين الأقليّة والأكثريّة.

3 ـ إنّ تعرّض الأقليّة للخطر لا يقف هنا عند خطر الموت، بل يشمل خطر الاغتيال الاجتماعي، كما يُفهم من بعض هذه النصوص، عبر تعرّض الأقليّة للتشويه والتسقيط والحجر والإقصاء التامّ، الأمر الذي قد يؤدّي أيضاً لسلبها بعض حقوقها المالية والاجتماعيّة، فهذا ضرر وخطر يتهدّد الكيانات الاجتماعيّة ويحمل معه خوفاً.

4 ـ اندماج الأقليّة في الأكثريّة دون ذوبان هويّتها، ونسج روابط وثيقة على المستوى الديني والاجتماعي.

5 ـ دوام هذا الحكم من خلال دوام ثنائيّة الأقلية والأكثرية أو الفئات المتصارعة المتعدّدة المهدّدة بخطر الصراع. ولهذا قد يرتفع هذا الحكم في العصر المهدوي؛ لانعدام موضوعه بعد قيام دولة الحقّ.

والنتيجة: إنّ هذه النصوص هي نصوص تقيّة خوف مجتمعي، ينشأ عنها تكوين جديد للعلاقات الاجتماعيّة بين الأكثريّة والأقليّة أو بين الفئات الاجتماعيّة المتنوّعة، وهي تغلّب ثقافة المداراة على ثقافة المواجهة والمجافاة وتحريك الاضطرابات بين المسلمين عبر مثل السبّ أو اللعن العلني لمقدّساتهم، وغير ذلك مما يثير الانقسام والتحريض، فلدينا هنا عنوان ثانوي مجتمعي.

الفرضيّة الثانية: إنّ هذه النصوص لا علاقة لها بالتقيّة، إذ لم يرد التعبير بالتقية فيها عدا في رواية الكندي فقط، بل جاءت هذه النصوص ـ وبخاصّة مع قرينة الترغيب فيها بأنّ الصلاة خلفهم كالصلاة مع رسول الله ـ جاءت في سياق مواجهة الرفض الشيعي والتطرّف الشيعي إزاء العلاقة بين الشيعة وغيرهم، فأراد الإمام مواجهة هذه الظاهرة القائمة على القطيعة والتصادم، كما كانت الحال مع الزيديّة وكذا مع بعض الشيعة كما جاء في قصّة حريز بن عبد الله السجستاني وغيره، ولهذا ورد في العديد من هذه الروايات أنّكم بهذا تكونون زيناً لنا، وتحبّبون الناس بنا، وأنّه يُذكر جعفر الصادق بالخير بسبب ما تفعلونه من تواصل مع الآخرين، فكأنّ المزاج الشيعي العام كان مزاجاً انطوائياً وسلبيّاً، فأراد الأئمّة أن يحوّلوا هذا المزاج إلى مزاج أخلاقي تواصلي إيجابي مع المحيط، وأن يعيد الشيعة تشكيل حضورهم الاجتماعي في الأمّة بشكل يصبحون شخصيات مرموقة وفاعلة وإيجابية وتواصليّة وممدوحة في أخلاقها وسلوكها.

ولا مانع من الجمع بين الفرضيّتين، وإن كانت الفرضية الأولى تبدو لي أقلّ احتمالاً من الثانية على مستوى طبيعة ألسنة النصوص هنا.

قد تقول: إنّ الفرضیة الأولى فرضیة ثانویّة، بینما الفرضیة الثانیة الظاهر أنّها فرضیة أوّلیة من حيث الحکم؛ إذ النصوص علیها حملت علی إرادة القضاء علی ثقافة خاطئة، وهي ثقافة القطيعة والتطرّف، فکیف یمکن الجمع بین الفرضیّتین؟

والجواب: إنّ المقصود من الجمع هو أن يكون الإمام بصدد دعوتهم لتحقيق التواصل واندماج الشيعة ليكونوا زيناً وليس شيناً، وفي الوقت نفسه يكون من نتاج هذا الأمر تحقيق تقية الخوف المجتمعي، فالقصد هو أنّ هذه التوجيهات يمكنها أن تنبع من مبرّرين، ولا مانع من كون أحدهما أوّلياً والثاني ثانوياً مع تحقق موضوعهما، فمثلاً قد تقول: إنّ زيارة الحسين في يوم الأربعين مستحبّة بعنوانها الأوّلي، وفي الوقت عينه يعرضها استحبابٌ ثانوي إضافي اليوم بملاك أنّها مظهر قوّة الشيعة، وهكذا.

 

2 ـ 2 ـ في إجزاء المأتي به في التقية المداراتيّة

ويقصد بذلك أنّ الصلاة خلفهم في مساجدهم بنحو التقية المداراتيّة هل تكون مجزيةً أو لا بدّ للشيعي بعد قيامه بهذا الأمر المستحبّ أو ربما الواجب ـ الصلاة معهم في مساجدهم ـ أن يعيد صلاته صحيحةً كاملة في البيت مثلاً؟

من الواضح أنّ الإمامي لو صلّى خلفهم دون أن يرتب أي أثر من آثار صلاة الجماعة على صلاته هذه، كأن يقرأ الفاتحة وما بعدها، ولا يزيد أيّ ركن في الصلاة، بحيث تكون صلاته في الحقيقة صلاة فرادى كاملة لكنّها تتّسم بالمتابعة الظاهريّة للإمام، من الواضح هنا أنّه لا داعي لإعادة هذه الصلاة، بل تكون مجزيةً، إنّما الكلام فيما لو رتّب آثار الجماعة كترك القراءة ونحو ذلك فهل تكون مجزيةً أو لا؟

ظاهر المشهور أنّ هذه الصلاة لا يُجتزأ بها، وقد قال السيد الخوئي: «ومما ينبغي أن ينبّه عليه في المقام هو أنّ الصلاة معهم ليست كالصلاة خلف الإمام العادل، وإنّما هي على ما يستفاد من الروايات صورة صلاة يحسبها العامّة صلاة وائتماماً بهم، ومن هنا لم يرد في الروايات عنوان الاقتداء بهم، بل ورد عنوان الصلاة معهم، فهو يدخل الصلاة معهم ويؤذّن ويقيم ويقرء لنفسه على نحو لا يسمع همسه فضلاً عن صوته. ولا دلالة في شيء من الروايات على أنّها صلاة حقيقة، وقد ورد في بعضها: ما هم عنده× إلا بمنزلة الجدر؛ إذاً لا تكون الصلاة معهم كالصلاة خلاف الإمام العادل، بل إنّما هي صورة الائتمام لتحسبوها كذلك من دون أن يسقط القراءة والإقامة ولا غيرهما؛ لأنّهم ليسوا إلا كالجدر. نعم قد استفدنا من الأخبار الواردة في التقيّة بحسب الدلالة الالتزاميّة أنّ عدم المندوحة غير معتبر في الصلاة معهم، لا حال العمل والامتثال ولا فيما بعده. فما ورد في عدّة من الروايات من النهي عن الصلاة خلف فاسدي المذهب أو الفاسق أو شارب الخمر أو غير ذلك مما ورد في الأخبار لا ينافي شيءٌ منه ما ذكرناه في المقام من صحّة الصلاة معهم على النحو الذي بيّناه؛ لأنّه إنّما دلّت على عدم جواز الصلاة خلف الجماعة المذكورين على نحو الائتمام الصحيح كالائتمام بالإمام العادل، وقد عرفت أنّ الصلاة معهم ليست إلا صورة الائتمام» (التنقيح، كتاب الطهارة 4: 313 ـ 314).

فالخوئي يفهم من التقية المداراتية ليس الائتمام بهم بالمعنى الحقيقي، بل الدخول معهم صوريّاً في الجماعة، وإلا ففي الواقع يكون المكلّف قد صلّى صلاة تامّةً، غاية الأمر خفض صوته إلى أدنى مستوى، ربما لا يكون مقبولاً هذا الخفض لو كان في صلاة الفرادى، فهذا هو الفارق الأساس بين صلاة المداراة وصلاة الفرادى الخالصة عنده.

وخالف المشهورَ في ذلك جماعةٌ، من أبرزهم السيد الخميني الذي رأى الاجتزاء بالجماعة مع المخالفين، فقد قال خاتماً بحثه هذا: «..وأمّا ما ورد من عدم جواز الصلاة خلفهم وأنّهم «بمنزلة الجُدر»، وأنّه: « لا تصلّ إلَّا خلف من تثق بدينه» فهي بحسب الحكم الأوّلي، فلا منافاة بينهما. وكيف كان، فلا ينبغي الشبهة في صحّة الصلاة وسائر العبادات المأتيّ بها على وجه التقيّة» (الرسائل العشرة: 63 ـ 70).

وعمدة ما يستدلّ به لصالح عدم الإجزاء:

أ ـ ما أفاده الخوئي ـ ونقلناه آنفاً ـ من أنّ الوارد هو الصلاة معهم لا الصلاة مقتدياً بهم.

ويجاب بأنّ بعض هذه الروايات ورد فيه تعبير الصلاة خلفهم، وأنّها كالصلاة خلف رسول الله، بل ورد التعبير بالصفّ الأوّل، بل حتى تعبير «معهم» لا يفيد ما فهمه الخوئي، كما أشرنا سابقاً، فالفهم العرفي للصلاة معهم في جماعاتهم هو الاقتداء، نعم قد نذهب لتفسير الخوئي نتيجة جمع هذه النصوص مع النصوص المانعة، وإلا فهذه النصوص في حدّ نفسها دالّة على الاقتداء عرفاً.

ب ـ الاستناد إلى مجموعة من الروايات (ما قد يقارب أو يزيد عن ستّ روايات) ذكرت أنّ الصلاة معهم مشروعة لكنّها غير مجزيّة، وعلى سبيل المثال خبر عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله، أنّه قال: «ما منكم أحد يصلّي صلاة فريضة في وقتها ثمّ يصلّي معهم صلاة تقية، وهو متوضئ، إلا كتب الله له بها خمساً وعشرين درجة، فارغبوا في ذلك». فإنّ هذه الرواية تشير إلى أنّ المصلّي يصلّي في بيته ثم يصلّي معهم، مما يعني الترغيب في الصلاة معهم وفي الوقت عينه عدم كونها مجزيةً.

ويجاب بأنّ جميع هذه الروايات لا يفهم منها أنّ الإمام× يريد أن يقول بأنّ الصلاة معهم غير مجزية، بل مفروض الحالة هو الصلاة معهم بعد صلاتك في بيتك، وكأنّ الإمام يريد أن يقول لهم في هذه المجموعة من النصوص: إنّه حتى لو صلّيت في بيتك فإنّ صلاتك معهم ثانيةً لك فيها الأجر والثواب، وليس في أيٍّ من هذه الروايات ما يفيد أنّك لو صلّيت معهم ولم تصلّ في بيتك لزمتك الإعادة أو أنّ عليك جعل المتابعة ظاهريّةً، فراجعها. ولا ننكر وجود إشعار في هذه المجموعة لكنّها لا تحتوي على ظهور.

بل قد يقال بأنّ هناك روایتين صحیحتين ـ على أكثر من مبنى رجالي ـ یوجد فیهما قید کون المکلّف علی وضوء، إحداهما صحیحة عمر بن یزید: «ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُمْ صَلاَةً تَقِيَّةً وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ..»، والثانیة خبر عبد الله بن سنان :«وَيُصَلِّي مَعَهُمْ وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ»، فهذا الشرط ـ أعني لزوم کون المکلّف علی وضوء ـ هو لترتّب الثواب على جماعته معهم، رغم أنّ المفروض أنّه قد صلّی في بیته وحده، وهذا ينافي احتمال أنّ الصلاة لا تکون صلاةً حقیقيّة، بل هی صورة صلاة فقط؛ لأنّ صورة الصلاة لا تحتاج إلی وضوء أو طهارة، لهذا قد يدّعى ـ ولو تأييداً ـ أنّ الروایتين ظاهرتان في کون الصلاة معهم صلاةً حقیقيّة، ولها الثواب حتّی مع فراغ ذمّته بصلاته وحده في بیته، تماماً كما هو الحكم كذلك في صلاته الثانية جماعةً مع الشیعة.

نعم هناك رواية فيها دلالة أقوى على ذلك، وهي خبر عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله، قال: قلت: إنّي أدخل المسجد وقد صلّيت فأصلّي معهم، فلا أحتسب بتلك الصلاة؟ قال: «لا بأس، فأمّا أنا فأصلّي معهم وأريهم أنّي أسجد وما أسجد». لكنّ هذه الرواية ضعيفة الإسناد بالقاسم بن عروة الذي لم تثبت وثاقته على التحقيق.

ج ـ التمسّك بالنصوص الدالّة على لزوم القراءة خلف من لا يُقتدى به، بجمعها مع النصوص المانعة هنا، فإنّه إذا كان غير الشيعي ممن لا يقتدى به ببركة النصوص المانعة أمكن ضمّ المجموعتين إلى بعضهما لإثبات كون المتابعة ظاهريّةً حال المداراة.

ومن هذه الروايات خبر الحلبي، عن أبي عبد الله، قال: «إذا صلّيت خلف إمامٍ لا يُقتدى به فاقرأ خلفه، سمعتَ قراءته أو لم تسمع»، وكذلك خبر محمد بن إسحاق ومحمد بن أبي حمزة، عمن ذكره، عن أبي عبد الله×، قال: «يجزيك (إذا كنت معهم من القراءة) مثل حديث النفس»، وكذا خبر أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن×، قال: قلت له: إنّي أدخل مع هؤلاء في صلاة المغرب فيعجّلوني إلى ما أن أؤذن وأقيم، ولا أقرأ إلا الحمد حتى يركع، أيجزيني ذلك؟ قال: «نعم يجزيك الحمد وحدها»، وكذا خبر صفوان الجمال قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّ عندنا مصلّى لا نصلّي فيه، وأهله نصّاب وإمامهم مخالف، فأتمّ به؟ قال: «لا»، فقلت: إن قرأ أقرأ خلفه؟ قال: «نعم»، قلت: فإن نفدت السورة قبل أن يفرغ، قال: «سبّح وكبّر، إنّما هو بمنزلة القنوت وكبّر وهلّل»، إلى غير ذلك من النصوص التي يفهم منها ومن غيرها أنّ المرتكز ـ أيضاً ـ في أذهان أصحاب الأئمّة أنّ الصلاةَ خلفهم صوريّةٌ.

ويجاب بأنّ نسبة روايات المداراة إلى هذه المجموعة هي نسبة الأخصّ إلى الأعمّ، لأنّ عنوان «لا يُقتدى به» أعمّ من عنوان المخالف، فإذا دلّت روايات المداراة على كونه يُقتدى به مداراةً ـ كما قلنا ـ لم تعد تشمل هذه النصوص هنا حالَ المخالف، وأمّا الرواية الأخيرة فالظاهر فيها أنّ المسجد مسجدٌ ناصبي وأنّه ليس من مساجد عموم المسلمين، وسيأتي الحديث عن تفصيلٍ في هذه القضيّة.

د ـ إنّ مقتضى الجمع بين نصوص الطائفتين، هو حمل روايات التقية المداراتية على مجرّد المتابعة الظاهريّة، وإلا يلزم صيرورة نصوص المجموعة المانعة بلا معنى أصلاً.

وقد يجاب عنه:

أوّلاً: بما أفاده السيد الخميني، ونقلناه قبل قليل، من أنّ النصوص المانعة هي بحسب العنوان الأوّلي، بينما النصوص المداراتيّة هي بحسب العنوان الثانوي.

ولكنّ هذا الجواب غير كافٍ، فإنّ السائلين في النصوص المانعة يسألون عن الصلاة الآن خلف فلان وفلان، والإمام يمنع عن ذلك، فلو كان هناك عنوان ثانوي حاكم فلماذا لم يشر إليه الإمام، مع أنّ نتيجة جوابه هو أنّ السائل سوف يترك الصلاة خلف المخالفين، وهذا يقف على النقيض من الغاية التي يريدها الإمام من وراء التقية المداراتيّة التي كان يحثّ عليها.

ثانياً: إنّ تفسير التقية المداراتية بأنّها نوع من تقية الخوف المجتمعي يسمح بإسقاط أحكام تقية الخوف على المقام، فالشواهد التي تدلّ على أنّ المداراة هنا هي نوعٌ من التقية كما في خبر الكندي المتقدّم، تسمح بالتعميم، ويشهد لذلك أنّ ظاهرة الصلاة معهم والحجّ معهم وغير ذلك كانت واسعة جداً، ولم نجد في أيّ رواية على الإطلاق بما فيها روايات التقيّة المداراتيّة نفسها أنّ المطلوب هو الإعادة في البيت، فلو كانت التقية المداراتية تتضمّن مثل هذا النوع من الأحكام، فلماذا لا نجد توضيحاً مناسباً من قبل الأئمّة في مثل هذا الموضوع الحساس والشديد الابتلاء؟! ولماذا لم نجد صورة واضحة للتمييز بين التقية المداراتيّة فيتعامل فيها صورياً وتقية الخوف فيتعامل فيها بنحو الحقيقة وتكون مجزئةً بناءً على التمييز بينهما في الحكم هنا؟! وعندما يقول الإمام بأنّ بعض الأئمّة صلّوا خلف فلان وفلان لماذا لا يصار لتبيين الأمر لرفع الالتباس وأنّ الأئمة كانوا يعيدون الصلاة مثلاً؟! وعندما يقول بأنّ الصلاة معهم كالصلاة خلف رسول الله، لماذا لا يصار إلى رفع الالتباس؛ إذ من المتوقّع جداً أن يفهم السامع أنها مجزئة تماماً كالصلاة خلف رسول الله؟!

ورغم أنّ هذا الجواب لا بأس به في الجملة، غير أنّه يبقى التعارض قائماً بين النصوص المانعة ونصوص التقية المداراتيّة، ولحلّ الموقف يمكن طرح الآتي:

الحلّ الأوّل: طرح فرضيّة أنّ النصوص المانعة تمثل حكماً تدبيريّاً من الأئمّة، وله علاقة بتنظيم الموقف من الجماعات المختلفة في تلك الفترة، وحماية الجماعة الشيعيّة الصغيرة، وأغلب الروايات ترتبط بهذا الموضوع، وهذا ليس أمراً غريباً، بل هو على مقتضى القاعدة التي نلتزم بها، وقرّرناها في كتابنا "حجية السنّة" عند البحث عن تاريخيّة السنّة..

وتفصيل ذلك أنّه لا عين ولا أثر في القرآن الكريم ولا في السنّة النبويّة لمفهوم اشتراط إمامة الجماعة بولاية عليّ والأحد عشر إماماً من بعده، بينما يبدأ يظهر هذا المفهوم في عصر الباقر×، ولو كان له ظهور قبل ذلك لظهر وبان ووصل إلينا؛ لأنّه يحمل احتكاكاً وتساؤلات، فكيف أثاره النبيّ ولم يظهر حوله نقاش؟! وهنا نقول: إمّا أنّ هذه الفئات جميعها كفار، أو أنّ هذا الحكم تدبيري، وقد رأينا في عصرنا كيف أنّ بعض الفقهاء أفتى أو حكم بمنع الصلاة خلف أنصار العالم الفلاني وبمنع الذهاب معهم في حملاتهم إلى الحجّ، وفي تلك الفترة ـ أعني منذ عصر الباقر وحتى الرضا ـ شهد العالم الإسلامي ظهور التيّارات الجديدة الكثيرة التي انحرفت عن جادّة الصواب في فهم الدين عقيدةً وشريعة وسلوكاً، ومن الممكن أنّ أهل البيت أرادوا ـ من جهة أولى ـ إحداث قطيعة مع هذه الفئات أو على الأقلّ لم يكونوا ليريدوا تعظيمهم، والصلاةُ خلفهم نوعُ تعظيم، كما قصدوا ـ من جهة ثانية ـ حماية المكوّن الشيعي الصغير من الانصهار بحيث يبقى يشعر بأنّه مختلف عن المحيط.

ويشهد لما قلناه ما ذكرناه في بحث تفصيلي عقدناه حول شرط الإيمان في مستحقّ الخمس والزكاة (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 337 ـ 391)، حيث عرضنا النصوص التي تشير إلى هذا الأمر واستخلصنا بشواهد أنّ هذا الحكم تدبيري زمني، واللافت أنّ بعض نصوص منع الزكاة عن غير الإمامي هي بعينها بعض النصوص الواردة هنا مثل كتاب الرضا إلى المأمون العباسي (رواية الفضل بن شاذان)، ورواية ابن الحريش، وغيرهما.

وبهذا يمكننا الجمع بين نصوص الصلاة خلفهم وفي مساجدهم وبين النصوص التدبيرية الناهية هنا، فإنّ هذه النصوص التدبيريّة تشير في الغالب إلى جماعاتٍ بعينها (القدريّة ـ الواقفة ـ بعض الزيديّة والمعتزلة الذين يوالون عليّاً ولا يتبرؤون من خصومه ـ الغلاة ـ المجسّمة ـ النواصب)، فيما نصوص الصلاة خلفهم تشير لجمهور المسلمين من أهل السنّة، الأمر الذي يرجّح أنّ هذه الفتاوى أو الأحكام التدبيريّة جاءت لمواجهة تيارات بعينها ظهرت في الساحة، تماماً كما نجد بعض النصوص التي ركّزت على حماية الأولاد من المرجئة وتضليلهم لهم. ولا يبقى في البين سوى عدد قليل جداً من الروايات مثل صحيح زرارة (الرواية الأولى)، فتكون آحاديّةً.

وينتج عن هذا الحلّ أنّ النصوص المانعة تدبيريّة، فتصبح النصوص المداراتيّة على مقتضى القاعدة، وتكون النتيجة عدم اشتراط الإيمان في إمام الجماعة بالعنوان الأوّلي، واستحباب الصلاة في جماعات أهل السنّة بالعنوان الثانوي. هذا كلّه في غير من حُكم بكفره ممن ينتسبون للإسلام.

الحلّ الثاني: أن يتمّ حمل الروايات المانعة على بيان الحكم الأوّلي العام، فيما الروايات المداراتية لا تتكلّم عن مطلق الائتمام بغير الشيعي، بل عن خصوص الحضور في مساجدهم وجماعاتهم، والنسبة بين المجموعتين هي نسبة الأعم والأخصّ، فتكون النتيجة: إنّ الائتمام بغير الشيعي غير مجزئ إلا إذا التحق المأموم بجماعات مساجد عامّة المسلمين فوجد إمامهم قائماً فيجوز الصلاة خلفه ويعتدّ بصلاته، فكل جماعة لعامّة المسلمين قائمة يمكن ترتيب آثار الجماعة عليها، لا أنّه يكفي مطلق الصلاة خلف غير الشيعي.

والحلّ الأول أقرب للقواعد التي اخترناها في موضوع حجية السنّة.

 

نتيجة البحث في شرط الإيمان بالمعنى الأخصّ في إمام الجماعة

والنتيجة المستخلصة مما تقدّم كلّه: أنّه لم يثبت بدليلٍ يوجب الوثوق وجود حكم أوّلي في الشريعة بكون إمام الجماعة يلزم أن يكون شيعيّاً إماميّاً، بل يكفي أن يكون مسلماً غير محكومٍ بكفره، ما لم يكن ثمّة عنوان ثانوي يتطلّب هجر هذه الجماعة أو تلك وعدم الصلاة خلفها، أو يصدر إمام المسلمين حكماً تدبيرياً زمنيّاً بذلك.

 

حول شرط العقل في إمام الجماعة

([3]) الجنون تارة يكون إطباقياً وأخرى أدوارياً:

أ ـ فإن كان إطباقياً، فتبرير عدم جواز كون المجنون إماماً هو عدم تحقّق قصد القربة منه كي يصحّ الاقتداء به، إلا إذا كان مستوى جنونه بحيث يتأتّى منه ذلك، ويكون قادراً على الصلاة الصحيحة تماماً، فلا دليل هنا على شرط العقل فيه، ومع ذلك فشرط العقل مطلقاً هنا مقتضى الاحتياط؛ انطلاقاً من عدم معهوديّة الصلاة خلف المجنون، وعدم وجود أسئلة في ذلك، فأصالة عدم المشروعيّة معقولة، مضافاً لشرافة إمامة الجماعة والارتكازات الفعلية.

بل قد يستدلّ بخبر أبي بصير عن أبي عبدالله×، قال: «خمسة لا يؤمّون الناس على كلّ حال، وعدَّ منهم المجنون»، وإن كان الاستدلال بالرواية محلّ نظر، لما دلّ على جواز إمامة الأجذم والأبرص، وهما من الخمسة في رواية أبي بصير، الأمر الذي يفرض حملها على الأعمّ من الشروط اللزومية وغيرها، كما ذكره بعضٌ أيضاً.

ب ـ وأمّا إذا كان أدوارياً، ففي فترة جنونه يكون الحكم كالإطباقي، أمّا في فترة وعيه فلا يفترض النقاش في المشروعيّة وعدم شرطيّة شيء، كما لا داعي للشكّ أصلاً كي نُجري أصالة عدم المشروعيّة بناءً على القول بها؛ إذ لا فرق بينه وبين غيره في هذه الحال.

قد تقول: إنّ الحديث عن «شرافة إمامة الجماعة والارتكازات الفعليّة»، معناه أنّنا نُحرِز أنّ إمامة الجماعة منصبٌ شريف، وأنّ تفویضه إلى المجنون وفاقد العقل يُعَدّ وهناً للصلاة وصلاة الجماعة، ومن ثمّ فإن الارتكاز العقلائي مستقرٌّ على أنّه لا يمكن تفویض مثل هذه المناصب لمن هو فاقدٌ للعقل، كما أنّ سكوت الشارع يمكن أن يُعَدّ تأييداً لهذا الارتكاز العقلائي، لكنّ هذا الاستدلال قابلٌ للنقاش من حيث إحراز إمضاء الشارع؛ وذلك أنّ الشارع ليس مكلَّفاً بأن يتخذ موقفاً تجاه الارتكازات العقلائيّة في الأمور التي لا تكتسب أهميّةً كبيرة، بحيث يمكن استكشاف رضاه من سكوته.

والجواب: إنّ إضافة «شرافة إمامة الجماعة والارتكازات الفعليّة» لم نقصد بها الارتكازات العقلائيّة، كما أنّنا لم نسقه إلا للتأييد، والأصل في الاحتياط عندي هو الشكّ في جريان أصالة المشروعيّة هنا، وقد قلنا سابقاً بأنّ الأصل الأوّلي في الجماعة عدم المشروعيّة إلا ما خرج بالدليل، وقلنا بأنّ الدليل هو كون الأمر مما يتوقّع وقوعه مع عدم وجود نهي فيه، وهذا ليس منه، كما هو واضح.

 

عدم ثبوت شرط "طهارة المولد" في إمام الجماعة

([4]) ذهب الكثير من فقهاء الإماميّة لمنع ولد الزنا من تولّي إمامة الجماعة وما تؤخذ الجماعة فيه مثل صلاة الجمعة وغيرها، وعدم ترتيبهم آثار الجماعة عليها. وفي جملة من تعبيراتهم اشتراطُ طهارة المولد في إمامة الصلاة.

أمّا فقهاء أهل السنّة فانقسموا بين قائلٍ بالكراهة، لكنّه لو تقدّم ابنُ الزنا للإمامة جازت الصلاة خلفه، وقائلٍ بكراهة كونه إماماً راتباً فقط، وقائلٍ بجواز الصلاة خلفه دون منعٍ أو كراهة مطلقاً، وهو ـ أي الرأي الأخير ـ ما ذهب إليه العديد من فقهاء الحنابلة، ونُسب لبعض كبار فقهاء التابعين وتابعيهم.

وقد استند فقهاء أهل السنّة لإثبات ذلك (الكراهة..) إلى بعض الوجوه الاعتباريّة، فيما استند فقهاء الشيعة ـ إلى جانب بعض الوجوه الاعتباريّة ـ إلى رواياتٍ وردت عن أهل البيت النبويّ، مضافاً إلى ما اعتبروه أصالة عدم المشروعيّة نتيجة اعتقادهم بعدم وجود إطلاق في أدلّة الجماعة، وإن ناقش المحقّق الإصفهاني (1361هـ) في الاستدلال بالروايات، وبدا غير مقتنعٍ بالحكم الذي ذهب إليه مشهور الإماميّة؛ لكنّه مع ذلك احتاط في المسألة.

والأقرب بالنظر هو عدم ثبوت شرط طهارة المولد في إمام الجماعة مطلقاً، فيمكن له التصدّي للإمامة، كما يمكن للمصلّين الائتمام به إذا كان حائزاً على سائر الشروط المطلوبة. وقد بحثنا هذا الموضوع وغيره ـ مما يتصل بابن الزنا ـ بالتفصيل في كتابنا: (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 5: 315 ـ 388)، فراجع، حتى لا نكرّر ولا نطيل.