hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجماعة ـ القسم السادس)

تاريخ الاعداد: 5/20/2025 تاريخ النشر: 5/22/2025
2120
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(15 ـ 5 ـ 2025م)

 

الفصل الثالث

[شروط إمام الجماعة]

 

يُشترط في إمام الجماعة... أمور:

...

الثالث: أن يكون الإمام صحيح القراءة، إذا كان الائتمام في الأوليين وكان المأموم صحيح القراءة، بل مطلقاً على الأحوط لزوماً([1]).

الرابع: أن لا يكون أعرابيّاً ـ أي من سكّان البوادي ـ ولا ممن جرى عليه الحدّ الشرعي على الأحوط([2]).

مسألة 807: لا بأس في أن يأتمّ الأفصح بالفصيح، والفصيح بغيره، إذا كان يؤدّي القدر الواجب.

مسألة 808: لا تجوز إمامة القاعد للقائم، ولا المضطجع للقاعد وتجوز إمامة القائم لهما، كما تجوز إمامة القاعد لمثله، وفي جواز إمامة القاعد أو المضطجع للمضطجع إشكال، وتجوز إمامة المتيمّم للمتوضئ وذي الجبيرة لغيره، والمسلوس والمبطون والمستحاضة لغيرهم، والمضطرّ إلى الصلاة في النجاسة لغيره([3]).

مسألة 809: إذا تبيّن للمأموم بعد الفراغ من الصلاة أنّ الإمام فاقد لبعض شرائط صحّة الصلاة أو الإمامة صحّت صلاته، إذا لم يقع فيها ما يُبطل الفرادى وإلا أعادها، وإن تبيّن في الأثناء أتمّها في الفرض الأوّل وأعادها في الثاني([4]).

مسألة 810: إذا اختلف المأموم والإمام في أجزاء الصلاة وشرائطها اجتهاداً أو تقليداً، فإن علم المأموم بطلان صلاة الإمام واقعاً ولو بطريق معتبر لم يجز له الائتمام به، وإلا جاز، وصحّت الجماعة، وكذا إذا كان الاختلاف بينهما في الأمور الخارجيّة، بأن يعتقد الامام طهارة ماء فتوضأ به والمأموم يعتقد نجاسته، أو يعتقد الإمام طهارة الثوب فيصلّي به، ويعتقد المأموم نجاسته، فإنّه لا يجوز الائتمام في الفرض الأوّل، ويجوز في الفرض الثاني. ولا فرق فيما ذكرنا بين الابتداء والاستدامة، والمدار على علم المأموم بصحّة صلاة الإمام في حقّ الإمام، هذا في غير ما يتحمّله الامام عن المأموم، وأمّا فيما يتحمّله كالقراءة ففيه تفصيل، فإنّ من يعتقد وجوب السورة ـ مثلاً ـ ليس له أن يأتمّ قبل الركوع بمن لا يأتي بها لاعتقاده عدم وجوبها، نعم إذا ركع الإمام جاز الائتمام به([5]).

_______________________

عدم ثبوت شرط صحّة القراءة في إمام الجماعة

([1]) ذهب الكثير من الفقهاء ـ من السنّة والشيعة ـ إلى اشتراط صحّة القراءة (للفاتحة وما بعدها من سورةٍ أو آية) في إمام الجماعة، فلو كان يعاني من مشاكل في النطق بحيث لا تخرج الحروف بطريقة صحيحة أو يبدل حرفاً بحرف أو يلحن في القراءة مع عدم قدرته على التأدية الصحيحة، فإنّه لا يصحّ أن يكون إماماً للجماعة، ولهم في هذا بعض التفصيلات من نوع إمامته لمن هو مثله أو إمامته لصحيح القراءة في الركعة الثالثة وما بعدها، وغير ذلك.

ومن أبرز من خالف المشهور في هذه المسألة ـ على المستوى الفتوائي ـ الشيخُ يوسف الصانعي الذي اعتبر في تعليقته الفتوائيّة على "تحرير الوسيلة" أنّه مقتضى الاحتياط الاستحبابي لا أكثر. كما أنّ السيّد محمّد الروحاني والشيخ محمّد تقي بهجت لم يفتِيا في المسألة، بل بنياها على الاحتياط الوجوبي. ويلوح من المحقّق العراقي عدم الاقتناع بالمسألة أيضاً وذلك في تعليقته الاستدلاليّة على العروة. أمّا السيّد محمّد سعيد الحكيم فله تفصيل وهو أنّه إذا كانت الصلاة إخفاتيّةً صحّ الائتمام ولزم المأموم أن يقرأ القراءة لنفسه، وأمّا لو كانت الصلاة جهريّةً فإنّ شرط صحّة القراءة في الإمام ضروريٌّ على الأحوط وجوباً عنده. وعلى مستوى البحوث العلميّة ثمّة مناقشات في القضيّة وأخذٌ وردّ.

والأقرب أنّ عدم صحّة القراءة إذا كانت ناتجةً عن تقصير الإمام لم يصحّ الائتمام به، كما لو كان عربيّاً ولا يتلفّظ الألفاظ العربيّة بشكلٍ صحيح لتهاونه في تعلّمها وتحصيل النطق الصحيح بها، فإنّه ربما يمكن إلحاقه بالمستهتر بأمر صلاته وهذا ذنب عظيم. وأمّا إذا كان غير قادر لا عن تقصير، بحيث مهما تعلّم أو حاول، فلن يقدر على النطق الصحيح التامّ، نتيجة عائق خَلقي أو غير ذلك، فإنّ الائتمام به مطلقاً صحيحٌ وتجري عليه أحكام الجماعة، بلا حاجةٍ لأن يقرأ المأموم خلفه، لا في صلاةٍ جهريّةٍ ولا إخفاتيّة.

والأدلّة التي استندوا إليها لشرط صحّة القراءة في الإمام عمدتها الآتي:

الدليل الأوّل: إنّ الإمام وكيلٌ عن المأموم وضامن له من ناحية القراءة، فكأنّ المأموم يقرأ بلسان الضامن، وعليه فيلزم أن تكون قراءة الإمام صحيحة، إذ لا معنى للوكالة والضمان غير هذا. ونحن لا نملك رواية تشترط في الإمام أن يكون صحيح القراءة، إلا أنّ التعبير الوارد في النصوص بأنّ الإمام وكيل وضامن، يفيد شرط صحّة قراءة الإمام، وذلك مثل خبر سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبدالله×: أيقرأ الرجل في الأولى والعصر خلف الإمام وهو لا يعلم أنّه يقرأ؟ فقال: «لا ينبغي له أن يقرأ، يكله إلى الإمام».

ويناقش بأنّ هذه النصوص غاية ما تريده هو أنّ المأموم تسقط عنه القراءة ويتولّاها الإمام، والمفروض أنّ الإمام غير صحيح القراءة يتولّى هذه القراءة بالفعل، ولا يتخلّف عن هذه المهمّة، وبهذا يكون االضمان والوكالة قد تحقّقا، والمفروض أنّ قراءته صحيحة بالنسبة إليه ومجزية، فيكون قد حقّق المطلوب. وكأنّ الفقهاء تصوّروا أنّ التوكيل هنا أو الضمان يشابه مفهومهما في باب المعاملات، في حين غاية ما تفيد النصوص هو تولّي الإمام هذه المسؤوليّة وسقوطها عن المأموم، والمفروض تحقّق ذلك. ودعوى أنّه لا بدّ أن يأتي الإمام بالقراءة تماماً كأنّ المأموم يأتي بها هي التي تحتاج إلى دليل بعد فرض صحّة قراءة الإمام بالنسبة للإمام نفسه، وإلا لزم عدم إمكان ائتمام مصلّي الإخفاتيّة بمصلّي الجهريّة، وبالعكس.

الدليل الثاني: الاستناد إلى أصالة عدم المشروعيّة، وليس في خبر زرارة وفضيل إطلاقٌ ينفع هنا.

وقد أجبنا عن ذلك مراراً وقلنا بأنّ الجماعة مشروعة مطلقاً في كلّ ما هو مورد الابتلاء ومحلّ الحاجة ويكون متعارفاً بينهم أو متوقّعاً، وفي الوقت نفسه لا نجد منعاً ولا نهياً ولا أسئلةً ولا أجوبة، وهذا من هذه الموارد.

وقد تسأل: هل كان الابتلاء بسوء القراءة مسألةً شائعة وقائمة بالفعل في ذلك الزمان؟

والجواب: أمّا بالنسبة للفترة الزمنيّة الواقعة بعد انتشار الإسلام بين غير العرب، فإنّه يمكن إحراز أن هذه المسألة كانت محلّ ابتلاء واسع، وحيث إنها متزامنة مع عصر الأئمّة من أهل البيت، فلو كان هناك نهي عنها، لكان محلّ اهتمام وسؤال وتناقل، ولم يرد. أمّا لو أخذنا المنظور السنّي الذي ينتهي عصر النص عنده بوفاة النبيّ‘، فقد يشكل بأنّ مشكلة القراءة لم تكن محل ابتلاء بين العرب أنفسهم، لكن في الحقيقة فإنّ المسألة لا تقتصر على العرب والعجم، بل تشمل من لديه مشكلة في النطق، ولو بسبب كونه ألثغ أو نحو ذلك، بحيث لا يقدر على النطق بالحرف الصحيح خلقةً ولو كان عربيّاً، فالموضوع بطبعه يتوقّع الابتلاء به، فيقع ضمن قاعدة المشروعيّة الثانويّة.

الدليل الثالث: ما ذكره بعضهم ـ كالسيد محمّد صادق الروحاني (فقه الصادق 6: 291) ـ من الاستناد إلى روايتين هما:

الرواية الأولى: «إذا كنتَ خلف الإمام في صلاة لا يُجهر فيها بالقراءة، حتّى يفرغ، وكان الرّجل مأموناً على القرآن، فلا تقرأ خلفه في الأولتين، وقال: يُجزيك التسبيح في الأخيرتين». وذلك بتقريب «أنّه يدلّ‌ علىٰ وجوب القراءة خلف غير المأمون على القرآن، ولو من جهة الأُميّة أو اللّحن، بل الظاهر الاختصاص بهاتين الجهتين، ولا يكون ناظراً إلى ترك القراءة خلف الإمام كنايةً عن عدم جواز الاقتداء به».

ويناقش بأنّه ـ فضلاً عن كونه خبراً آحاديّاً ـ أنَه قد يُحتمل أن يكون المراد من "المأمون على القرآن" أنّ الشخص يعلم بأنّ الإمام يأتي بالقراءة، وهذا الاحتمال تؤيّده روايات أخر في هذا الباب، والروايات المتقاربة في السياق تصلح لأن تكون قرينة لفهم معنى الرواية محلّ البحث، مثل خبر سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله: يقرأ الرجل في الأولى والعصر خلف الإمام وهو لا يعلم أنّه يقرأ؟ فقال: «لا ينبغي له أن يقرأ، يَكِله إلى الإمام».

الرواية الثانية: خبر أبي البختري الوارد في إمامة العبد في صلاة الجماعة قال: «لاَ بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ اَلْمَمْلُوكُ إِذَا كَانَ قَارِئاً». وقد قرّبه الروحانيُّ بالقول: «إنّه بمفهومه يدلّ‌ علىٰ عدم جواز إمامته إذا كان أميًاً. وبملاحظة انصراف القراءة في المنطوق، يظهر وجه دلالة المفهوم على عدم جواز الاقتداء مع اللّحن أيضاً».

ويشكل على هذه الرواية بأبي البختريّ نفسه، حيث صرّحوا بتضعيفه، بل إنّ الرواية مجملة بعض الشيء من حيث الدلالة.

 

مستثنيات شرط صحّة القراءة

هذا، وقد ذكروا هنا ثلاثة استثناءات لشرط صحّة القراءة، وهي:

الاستثناء الأوّل: ما إذا كان المأموم فاسد القراءة كالإمام واتحد موضع الفساد، فيمكن أن يقال بصحّة الاقتداء باعتبار أنّ الوكالة في مثل هذه الحال معقولة، كما هو واضح.

الاستثناء الثاني: ما إذا كان اقتداء المأموم بعد إنهاء الإمام قراءته في الركعة الثانية قبل الركوع أو حالته، فإنّ القراءة في مثل ذلك تسقط عن المأموم ولا يكون الإمام وكيلاً وضامناً حتى يقال بقبح وكالة فاسد القراءة عن مُجيدها.

لكنّ هذا الاستثناء غير مفهومٍ لي؛ فإنّ سقوط القراءة عن المأموم في هذه الحال إنّما كان لكون الإمام قد تولاها حسب الفرض، بمعنى دخوله الصلاة والمفروض أنّ قراءته قد تحقّقت اعتباراً وتعبّداً بفعل الإمام لها، وإلا فإذا لم يكن الإمام ضامناً هنا، فهذا يعني أنّ المأموم أتى بالصلاة بلا قراءة، وهذا على قواعدهم غير صحيح؛ بل لعلّه مؤشّر لبطلان مبناهم في أصل المسألة هنا، فانتبه.

الاستثناء الثالث: ما إذا كان الإمام لا يجيد بعض الأذكار غير القراءة في الفاتحة والسورة، فإنّه يمكن الحكم بصحّة الاقتداء باعتبار أنّ الإمام ليس وكيلاً في غير قراءة الفاتحة والسورة، بل يتصدّى المأموم بنفسه لذلك، فلا مانع من انعقاد الجماعة.

وهذا الاستثناء خروجٌ تخصّصي؛ لأنّ مفروض أنّ الحديث عن شرط صحّة قراءة الإمام، لا شرط صحّة مطلق تكلّم الإمام، وهذا واضح.

([2]) هنا ثلاث نقاط:

 

النقطة الأولى: حكم الائتمام بالأعرابي

ذهب الكثير من الفقهاء إلى عدم جواز الائتمام بالأعرابي. وفصّل بعضهم ـ مثل السيد الخوئي في بحوثه الاستدلاليّة ـ بين إمامة الأعرابي لغيره فلا يجوز وإمامته للأعرابي فيجوز، وبنى أصل المسألة على الاحتياط الاستحبابي السيد محمد محمّد صادق الصدر.

وعمدة المستند في فتواهم هذه هو معتبرة أبي بصير، عن أبي عبدالله×: «خمسة لا يؤمّون الناس على كلّ حال: المجذوم والأبرص والمجنون وولد الزنا والأعرابي»، إلى جانب خبر زرارة عنه× قال: «لا يصلينّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا، والأعرابي لا يؤمّ المهاجرين».

وتُناقش هاتان الروايتان العمدة هنا بما تقدّم، من أنّ بعض الروايات دلّت على الترخيص في إمامة الأبرص والمجذوم، مثل خبر الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبدالله×، سألته عن المجذوم والأبرص أيؤمّنا؟ قال: «نعم»، ومعه فيلزم حمل خبري زرارة وأبي بصير على الأعمّ من الحرمة والكراهة وما يناسبهما وضعاً، وبخاصّة أنّهما بيانٌ لحكم إرشادي شرطي لا لحكم تكليفي، فلا معنى لإجراء مبنى السيد الخوئي في الأصول في استنتاج الوجوب أو التحريم من صيغتهما، ولا أقلّ ـ بعد هذا كلّه ـ من عدم حصول الوثوق بدلالة هذه النصوص على الشرطيّة.

وينتج عن هذا كلّه أنّه بعد عدم وضوح دلالة خبري أبي بصير وزرارة، فإنّ ما يبقى ليس إلا حوالي ثلاث روايات كلّها ضعيفة السند، فالأقوى أنّه لم يثبت شرط عدم الأعرابيّة أو مانعية الأعرابيّة ـ من حيث عنوان "الأعرابي" ـ من إمامة الجماعة ما لم ترجع إلى عنوانٍ آخر أُخذَ شرطاً أو مانعاً، بلا فرق بين أن يؤمّ الأعرابي مثله أو غيره.

 

النقطة الثانية: في بيان من هو الأعرابي

المعروف في تفسير الأعرابي أنّه من سَكَن البادية، والأعراب سكّان البوادي والصحاري، وفي عبارات بعض اللغويين يفهم أنّ الأعراب هم خصوص العرب من أهل البادية، وفي بعضها الآخر يفهم أنّهم أهل البادية، سواء كانوا من العَرب أم من سائر الملل والأقوام، فقد نجد فارسياً هو أعرابي، وقد نجد أمازيغيّاً هو أعرابي، وهكذا.

لكن لعلّ التدقيق أكثر يفرض علينا تحليل معنى سكّان البوادي، فليس المراد منه من سكن في البادية مطلقاً، فلو فرضنا قريةً تقع وسط البادية، ويعيش أهلها فيها مستقرّين جيلاً بعد جيل، فهؤلاء ليسوا أعراباً، بل الأعراب الذين هم من سكّان البادية يقصد منهم الرحّل الذين لا يستقرّون في مكان، فليس لهم مصر ولا قرية ولا ضيعة ولا غير ذلك، وهم الذين يعرف عنهم في التاريخ أنّهم جفاة.

هذا كلّه يفرض تساؤلاً وهو أنّه لو كان شخصٌ يعيش في المدينة لأربعين سنة، ثم ذهب واستقرّ لخمسة أشهر في البادية، ولو لغرض سياحي أو اكتشافي أو أكاديمي، فيفترض ترتيب الحكم عليه هنا، حتى لو كان عالماً في العلوم المختلفة، وهذا بدا غريباً لدى بعض الفقهاء، لهذا قالوا بأنّ فلسفة شرط عدم كونه أعرابيّاً ليس عنوانيّة الأعرابي بذاتها، بل لكون الأعراب في العادة بعيدين عن تعاليم الدين والإسلام، فسكنى البادية في نفسها ليست مداراً للحكم، بل غربة هذا الإنسان أو هذه الجماعة عن الدين وتعاليمه، بحيث يتوقّع منهم عدم معرفة الصلاة وعدم الانتظام بالشريعة. ويؤيَّد ذلك بخبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه× قال: «كره أن يؤمّ الأعرابي؛ لجفائه عن الوضوء والغسل».

وهذا يعني أنّ المسألة تصبح أضيق من جهة، لكنّها تغدو أوسع من جهة ثانية؛ إذ تشمل كلّ شخص ـ ولو كان حضريّاً ومن سكان الأمصار والمدن ـ يعيش في مكانٍ بعيد جداً، بحيث لا يملك فيه معرفةً بتعاليم الإسلام ولا ينتظم لها لكونه جاهلاً بها، كبعض من يعيش منذ طفولته في الدول غير المسلمة التي يندر وجود أقليّات مسلمة فيها.

والذي يؤيد هذا الفهم لعنوان الأعرابي ـ غير ما جاء في النصوص القرآنيّة ـ ما ورد في النصوص الحديثيّة من أنّ من لم يتفقّه في الدين فهو أعرابي، فهذه الروايات يفهم منها أنّ الأعرابي في العقل الجمعي يمثل الشخص البعيد عن فهم تعاليم الإسلام الأوّليّة، ففي خبر علي بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا عبدالله×، يقول: «تفقّهوا في الدين، فإنّ من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي»، وفي خبر المفضّل: «عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً».

وربما يمكن أن نضيف أمراً مهماً في سياق الاجتماع الإسلامي، وهو أنّ الأعراب يمثلون الفئة التي لم تهاجر، وهم في العادة غير منضمّين إلى التوافق الاجتماعي السياسي، ولا تعنيهم قضايا الأمّة؛ لأنّهم يعيشون خارج هذه السياقات والتحدّيات عموماً، من هنا يحتمل في سبب عدم جعل الأعرابي إماماً هو أنّه يقع خارج الاجتماع السياسي، فمن لم يهاجر فهو لا ينتمي للاجتماع السياسي الإسلامي الذي من ميزاته أنّ المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كما بحثناه في محلّه في فقه الحرب والسلم، ومن ثمّ فهذا الحكم يكون مرتبطاً بالأعراب من حيث إنّ هذه الفئة الاجتماعيّة هي ـ نوعاً ـ غير منتميّة للأمّة بالمعنى السياسي والاجتماعي، فلا يحقّ لها أن تؤمّ صلواتهم وجماعاتهم، ولعلّ ما يؤيّد ذلك هو خبر زرارة، عن أبي جعفر، قال: «.. وقال أميرالمؤمنين×: لا يصلّي أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا. والأعرابيُّ لا يؤمّ المهاجرين»، فإنّ الجملة الأخيرة كأنّها تريد أن تشير إلى سلب الأعرابيّ حقّاً اجتماعيّاً وسياسياً تجاه المهاجرين الذين انتموا بهجرتهم للكيان الإسلامي المسمّى بالأمّة، فإذا أراد الأعرابي أن يحصل على هذا الحقّ فعليه أن يتحمّل مسؤولياته تجاه الأمّة بالانتماء إليها حقيقةً بدل حياة الجاهليّة التي يعيشها. ومثله خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: «خمسة لا يؤمّون الناس:.. وولد الزنا، والأعرابي حتى يهاجر»، فإنّ تعبير "حتى يهاجر" يؤيّد هذه الفكرة.

ولعلّنا ندمج الفكرتين ببعضهما بالقول بأنّ عدم هجرة الأعرابي وانتمائه للأمّة يستبطن في العادة بُعده عن الإسلام وأعرافه وشريعته، فيكون هذا هو السبب في سلبه حقّ الإمامة، لا مجرّد التعنون بعنوان الأعرابي، ومن هنا نستنتج أنّ الأعراب لو انتموا اليوم للأمّة وصاروا على معرفة بدين الله وشريعته وأعراف الإسلام والمسلمين بحيث تغيّرت الأوضاع، فإنّ هذا الحكم لن يعود له ظهور في حقهم حتى لو ظلّ عنوان الأعرابي لغةً وعرفاً صادقاً عليهم.

والقرآن الكريم في الوقت الذي ذمّ فيه الأعراب ذماً نوعيّاً، لكنّه في آية تُلفت الانتباه لها يقول شيئاً آخر، ولنقرأ تسلسل الآيات، حيث قال تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 97 ـ 99)، فالقرآن رغم أنّه أطلق في الآية الأولى كلامه في ذمّ الأعراب، لكنّه في الآيتين اللاحقتين فصّل بين أعرابيٍّ وأعرابيٍّ آخر، مما يعطي انطباعاً بوجود الصالحين في الأعراب حتى في الزمن النبويّ.

هذا، وقد ذكر السيد فضل الله في رسالته العمليّة هنا فقال: «الخامس: أن لا يكون أعرابيّاً، والمراد به من يسكن في البادية ونحوها في وضعٍ لا يساعد على الاطمئنان بالتزامه بالأحكام الشرعيّة المطلوبة». وقريب منه ما ذكره السيد محمد سعيد الحكيم في منهاجه.

والنتيجة: إنّ القدر المتيقّن من الفهم الاجتماعي لكلمة الأعرابي، في سياق النصوص الواردة مستخدمةً هذا التعبير ـ هنا وفي أبوابٍ أخر ـ هو أهل البادية غير المستقرّين الذي لا ينتمون نوعاً للاجتماع الإسلامي ولا يملكون وعياً وانضباطاً بالإسلام وأعرافه وتقاليده وآدابه، فمن كان على هذه الشاكلة يكون هو موضوع الحكم هنا، لكن حيث قلنا بأنّ أصل ثبوت شرط الأعرابيّة هنا محلّ ترديد، لهذا يمكن الصلاة خلف كلّ أعرابي ـ عربي أو غير عربي ـ على تقدير وجود سائر الشروط المأخوذة في إمام الجماعة فيه.

 

النقطة الثالثة: إمامة المحدود

ذهب الكثير من الفقهاء إلى عدم جواز الائتمام بمن سبق أن أُقيم عليه حدٌّ من الحدود الشرعيّة مع فرض توبته بعد ذلك، والا فهو فاسق، والمفروض عدم جواز الصلاة خلفه من حيث هو فاسق لا من حيث موضوع الحدّ، بناءً على شرط العدالة. وقد احتاط كثيرون هنا وجوباً دون افتاء، منهم السيد الماتن هنا، وبناه على الاحتياط الاستحبابي جماعة مثل السيد محمّد محمد صادق الصدر. والمراد به من أقيم عليه حدّ شرعي على وجه الحقّ ثم تاب، لا من وقع عليه ظلمٌ فأقيم عليه الحدّ بغير حقّ.

والمستند العمدة هنا أخبار قليلة، منها خبر أبي جميلة الضعيف سنداً به، إلى جانب روايات: محمّد بن مسلم، وزرارة، وأبي بصير، التي لاحظنا على مثلها أنّها غير قابلة للأخذ بها؛ نتيجة اشتمالها على من ورد في النصوص جواز الصلاة خلفه كما تقدّم آنفاً، فلا نعيد.

والنتيجة: جواز الصلاة خلف المحدود من حيث هو محدود.

 

حكم إمامة "الناقص للكامل"

([3]) المعروف بين الكثير من الفقهاء أنّه لا تجوز إمامة «الناقص للكامل» حسب تعبير بعضهم، فمن هو مصاب بالفالج لا يمكنه أن يكون إماماً في الجماعة لمن هم أصحّاء، فالقاعد أو المقعَد لا يمكنه أن يكون إماماً للقائمين غير المصابين، والمضطجع لا يؤمّ القائمين ولا القاعدين، إلى غير ذلك من الأمثلة. بل بحثوا في جواز إمامة «الناقص» لمثله، فهل يمكن للمقعد أن يؤمّ المقعدين أو لا؟ ذهب بعضهم للمنع، وقبل الآخرون إمامَته. وبعض الفقهاء خصّص الحكم بخصوص القاعد والقائم وأمثال ذلك.

ويظهر من الحرّ العاملي المخالفة في ذلك؛ حيث عَنْوَنَ البابَ في كتابه «تفصيل وسائل الشيعة» بعنوان الكراهة لا أكثر.

أمّا الفقه السنّي، فكان لديه انقسامٌ آخر، أوسع وأشدّ وأكثر تعقيداً، حيث اختلفوا في أنّه هل يجب على المأمومين الجلوس إذا كان الإمام يصلّي من جلوس أو لا؟ وهل يشمل الحكم حالة طروّ العذر على الإمام أثناء الصلاة أو مطلقاً؟ واعتمدوا في ذلك على رواية نبويّة نقلها بعض أصحاب الصحاح والكتب الحديثيّة تفيد الصلاة من جلوس، وأنّ النبيَّ أمرهم بذلك حتى لا يتشبّهوا بالفرس وغير ذلك. وذهب بعض الأحناف إلى صحّة إمامة القاعد للقائم إذا أمكنه الركوع والسجود وإلا فلا، ومال الكثير من الشافعيّة للجواز مطلقاً، وتوجد تفصيلات أخرى أيضاً لدى بعضهم بين الإمام الراتب وغيره، يمكن مراجعتها في الكتب الفقهيّة السنيّة المطوّلة.

والأقرب بالنظر هو عدم ثبوت هذا الشرط أساساً، فلا فرق في الإمام بين حالاته التي يُعذَر فيها، سواء كانت في الشرائط كإمامة المتيمّم للمتوضئ، أم في الأفعال والهيئات كإمامة القاعد للقائم والمضطجع لهما، وغير ذلك، ففي جميع هذه الحالات يمكنه أن يؤمّ الناس مطلقاً ما دام معذوراً وتُعتبر صلاتُه ـ حتى من وجهة نظر المأمومين ـ صحيحةً، سواء كان المأمومون لديهم نفس الحالة التي لديه أو أقلّ أو أزيد أو غيرها أو ليس لديهم شيءٌ منها.

ومستند فقهاء الإماميّة هنا ـ مضافاً لدعوى الشهرة والإجماع محتملَي المدركيّة ـ بعضُ الروايات القليلة جدّاً، وجميعُها على التحقيق ضعيف الإسناد، وقد حاول غير واحدٍ جبر سندها بعمل الأصحاب بها، فيما صحّح بعضهم سند روايةٍ هنا، وهي خبر السكوني المرويّ بطريق النوفلي، والتحقيق ضعف السند بالنوفلي، كما بحثنا عنه مراراً، وفاقاً لغير واحد من علماء الجرح والتعديل. فليس في المقام سوى أخبار آحاديّة لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، وكلّها ضعيفة الإسناد. كما أنّ روايات أهل السنّة في جلوس المأمومين حال جلوس الإمام، رغم قدرتهم على القيام، غير قابلة للقبول؛ لأنّها روايات آحاديّة، ومن الصعب الخروج بها ـ وهي قليلة العدد جداً، بل قد يُدّعى بينها نوع تعارض كما أقرّ بعضهم بذلك ـ بما يخالف مقتضى القواعد في أحكام الصلاة، وبخاصّة على القول بأنّ القيام من الأركان، لا من مطلق الأفعال.

وأمّا دعوى أصالة عدم المشروعيّة، فهي لم تثبت، ويتأيّد ذلك بأنّ العرف الذين اطّلعوا على روايات وسلوكيّات صلاة الجماعة لا يرون أيّ مائز بين هذه الأمور، بل يُلغون الخصوصيّات، تماماً كما ألغوا خصوصيّاتٍ كثيرة، ولولا وجود روايات خاصّة في المقام لربما ما انقدح في ذهنهم ذلك، والعلم عند الله.

وأمّا القول بأنّ مفهوم التبعيّة يقتضي المسانخة بين فعل الإمام والمأموم، وهي غير متحقّقة في مثل إمامة المضطجع للقائم.. فهو الآخر لا دليل عليه، فإنّ ركوع كلّ مكلّف بحسبه، وسجوده كذلك، فيصدق عرفاً أنّه تابَعَ الإمامَ في الركوع والسجود، فمن غير المفهوم دعوى بعض أعلام العصر عدم الصدق العرفي، فإنّ المتابعة تختلف عن مفهوم المطابقة والمماثلة هنا. واللافت للنظر أنّهم عندما أشكلوا على أنفسهم بإمامة الكامل للناقص، كإمامة القائم للقاعد، حيث لا توجد متابعة بالمعنى الذي فهموه.. اعتبروا أنّ الدليلَ هو الإجماع والروايات التي أخرجتنا عن ذلك، في حين أنّ هذا الإجماع وهذه الروايات تكفي منبّهاً على كون المورد يصدق عليه المتابعة عرفاً، فلا حاجة لجعلها تخصيصاً في الحكم، بل هي تبيينٌ للقاعدة نفسها في صدق عنوان المتابعة في هذه الحال. والكلام فيه مزيد تفصيل لا يسعه هذا المختصر.

 

في أنّ شروط إمامة الجماعة واقعيّة أو علميّة؟

([4]) ما ذكره الماتن هو الصحيح، فعدم صحّة الصلاة ـ لو وقع إخلال بها مثل الزيادة الركنيّة ـ ناتج عن عدم صحّة الجماعة، وهو ناتج بدوره عن كون الشروط شروطاً واقعيّة.

وهذا الكلام يجري في مختلف الشروط عدا العدالة، فقد وقع بحث في أنّ العدالة شرط علمي أو شرط واقعي؟ فمن جهة تفيد بعض النصوص كون الشرط واقعياً، فيما نصوص عدم الصلاة إلا خلف من تثق به، تعطي دلالة على مداريّة الوثوق بتدينه لا مداريّة واقع دينه وتديّنه، مما يجعل شرط العدالة علميّاً.

لكن قد يُناقش في دعوى علميّة شرط العدالة، بأنّ الوثوق المأخوذ في النصّ طريقيٌّ لواقع العدالة، لا أنّه موضوعيٌّ، فمثل تعابير الوثوق والرؤية والعلم وغيرها هي بطبعها طريقيّة، ما لم يقم دليل خاص أو قرينة على الخلاف، والأمر هنا على الوتيرة عينها.

وعليه، فلو ظهر أنّ الإمام على غير طهور أو أنّه فاسق فاجر متهتّك أو أنّه كافر أو نحو ذلك، وكذا لو تبيّن عدم تحقّق بعض شروط الجماعة من وجود الحائل ونحوه، لا تبطل صلاة المأموم بذلك، ما لم يقع فيها خلل ركني لا يغتفر في غير صلاة الجماعة مثل زيادة الركوع، بل قد وردت روايات مؤيّدة لهذا، تفيد أنّ الإمام لو ظهر كونه يهودياً أو نصرانيّاً، أو أنّه على جُنب أو على غير وضوء، أو أنّه صلّى إلى غير القبلة، فإنّه لا تجب الإعادة، فراجع الأبواب: 36، 37، 38، من أبواب صلاة الجماعة من "الوسائل".

وبهذا أيضاً يظهر الموقف من انكشاف الاختلال أثناء الصلاة، فما ذهب إليه الماتن هو الصحيح، خلافاً لمن صحّح الصلاة هنا حتى مع الخلل الركني، مثل السيد علي السيستاني والسيد محمد سعيد الحكيم.

 

حكم الاختلاف بين الإمام والمأموم في الصلاة

([5]) هنا ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يختلف الإمام والمأموم في بعض الأجزاء والشرائط التي لا يتحمّلها الإمام، مثل ما إذا كان الإمام لا يرى وجوب جلسة الاستراحة فتركها بالفعل، بينما المأموم يرى وجوبها، وكذا إذا الإمام يرى المورد هو الصلاة مع التيمّم وتيمّم بالفعل، بينما المأموم يرى أنّه مورد للوضوء.

هنا توجد أكثر من محاولة:

المحاولة الأولى: ما ذهب إليه السيد اليزدي في العروة وتبعه جماعة، من أنّ الاختلاف بين الإمام والمأموم تارةً يفترض استناده إلى العلم، بمعنى أنّ المأموم يجزم بأنّ الشرط كذا، والإمام لا يرى ذلك، وأخرى يفترض أنّ الاختلاف ليس على مستوى العلم، بل على مستوى الحجّة الشرعية، بمعنى أنّ المأموم يستند إلى خبرٍ يدلّ على أنّ جلسة الاستراحة واجبة من دون أن يحصل له علم بوجوبها، والإمام يستند أيضاً إلى حجّة شرعية أخرى تدلّ على عدم وجوب جلسة الاستراحة.

فإن كان الاختلاف بينهما على مستوى العلم والجزم، فلا يجوز للمأموم الاقتداء؛ لأنّه ما دام يعلم ويجزم بوجوب جلسة الاستراحة أو بكون المورد مورداً للوضوء، فذلك يستلزم علمه ببطلان صلاة الإمام وأنّها غير صحيحة، ومع علمه ببطلانها كيف يقتدي به؟!

وإن كان الاختلاف على مستوى الحجّة الشرعية، فيجوز الائتمام؛ لأنّ المأموم ما دام مستنداً إلى الحجّة، فهو لا يجزم ببطلان صلاة الإمام، بل يحتمل صحتها، غايته أنّ الحجة الشرعية اعتبرت أنّ المورد مورد للوضوء، ولم يحصل له علم بذلك، ومع عدم حصول العلم بكون المورد من موارد الوضوء فلا يجزم ببطلان صلاة الإمام الفاقد للوضوء ومع عدم جزمه ببطلانها يصحّ له الاقتداء به.

ونوقشت هذه المحاولة بأنّ التفرقة بين العلم والحجة الشرعية لا وجه لها بعد أن كان حساب الشارع مع الحجّة الشرعية حسابَ العلم، فبعد جعل الحجيّة للخبر الظنّي ـ من قبل الشارع ـ يكون مريداً لترتيب آثار العلم على الحجّة الشرعية، من دون فرقٍ بين مسلك جعل العلميّة والطريقية في باب تفسير جعل الحجية وغيره، فإنّه على جميع التقادير يلزم في مقام العمل ترتيب آثار العلم على الحجّة. إلا إذا قيل بأنّه یمکن التفرقة بینهما بأنّ الشارع قد طلب من كل مكلّف أن يعمل وفق حجّته الخاصّة، أي ما هو حجّة عنده، وبعبارة أخرى: قد اعترف الشارع بتعدّد الفهم وتعدّد الحجّية في ظلّ صعوبة أو استحالة الوصول إلى الواقع، وهذا من هذه الجهة يشبه الشروط العلميّة، لكن فيما يتعلّق بالواقع، لا يمكن القول بأن الشارع قد طلب من كلّ شخص أن يعمل وفق واقعه الخاصّ؛ لأنّ الواقع واحد لا أكثر، ولا مجال للاعتراف بتعدّده.

المحاولة الثانية: ما ذكره جماعة ـ منهم السيد الماتن ـ من أنّ صلاة الإمام تارة يمكن للمأموم أن يحكم بصحّتها في حقّ الإمام نفسه، بحيث يراها صحيحة في حقّ الإمام، وفي مثل ذلك يجوز له الاقتداء بالإمام؛ وأخرى يعتقد ببطلانها في حقّ الإمام نفسه، بحيث لا يمكن تصحيحها في حقّ الإمام، وفي مثل ذلك لا يجوز له الاقتداء به؛ لاعتقاده ببطلانها في حقّ الإمام أيضاً.

والسؤال هنا هو: متى تكون الصلاة صحيحة في حقّ الإمام أو باطلة؟

إنّ المعيار هو دليل التصحيح، فمثلاً لو فرض أنّ الإمام لم يرَ وجوب جلسة الاستراحة، بينما المأموم كان يرى ذلك، فلا يمكن للمأموم الحكم ببطلان صلاة الإمام حتى ولو كان قاطعاً بوجوب جلسة الاستراحة؛ لأنّ جلسة الاستراحة ليست مما تبطل به الصلاة على كل حال كما جاء في حديث "لا تعاد"، فصلاة الإمام صحيحة واقعاً بنظر المأموم، ومعه يجوز له الاقتداء به؛ لأنّه اقتداء بصلاة صحيحة. وأمّا إذا لم يمكن التصحيح بأدلّة التصحيح، مثل ما لو كان الإمام يرى المورد من موارد التيمّم، بينما المأموم يراه من موارد الوضوء، فلو تيمّم الإمام وصلّى، فلا يجوز للمأموم الاقتداء به؛ لأنّ صلاته في نظره باطلة ولا يمكن تصحيحها بمثل قاعدة "لا تعاد"؛ لأنّ الطهارة من الحدث هي من أحد الخمسة المستثناة التي تبطل الصلاة بالإخلال بها ولو عن جهل.

المحاولة الثالثة: ما يمكننا طرحه في المقام ولو بوصفه فرضيّة تستحقّ التأمّل، وهو جعل المعيار أعمّ من التصحيح بنظر المأموم أو الإمام، فإنّ العبرة في كون هذه الصلاة التي صلاها الإمام مجزيةً عند الله ما دام الإمام لا يعلم ببطلانها، فما صدر من الإمام مجزياً في لحظة صدوره ولو بنظر الإمام، يكون كافياً لتبرير الاقتداء به، وما صدر من الإمام مجزياً في لحظة صدوره بنظر المأموم يكون كافياً أيضاً، وما صدر مجزياً كذلك بنظرهما معاً يكون كذلك، أمّا ما صدر غير مجزٍ في لحظة صدوره لا بنظر الإمام ولا بنظر المأموم، فهذا لا تصحّ فيه الجماعة. هذا كلّه مع صدق عنوان الاقتداء والمتابعة.

والوجه فيما نقول هو أنّ النصوص خالية تماماً عن هذا الموضوع الذي يعدّ إشكاليّاً بطبعه كثير الوقوع شديد البلوى وعامّها، ولا يتصوّر أنّ الاختلاف الفقهي موجب لبطلان جماعة المأموم أو تنحّيه عن الاقتداء، فمثلاً المقلِّد الذي يرجع للفقيه الذي يوجب الترتيب بين اليمين واليسار في غُسل الجنابة لا يمكنه الاقتداء بمن لا يوجبه، فكلّ مقلّدي السيد الخميني مثلاً لا يمكنهم ـ نظريّاً وأوّليّاً ـ الاقتداء بمقلّدي السيد الخوئي! والمتشرّعة لا يوجد عينٌ ولا أثر لاهتمامهم بمثل هذه الموضوعات أو توجيه أسئلة للنبي والإمام مرتبطة بها، رغم أنّهم سألوا كثيراً عن حالات فقدان الإمام بعض الشروط كما تقدّم آنفاً.

والذي يبدو لي أنّه هذه المحاولة التي نطرحها من أنّ المطلوب أن تكون صلاة الإمام مجزيةً ظاهراً بالنسبة للإمام، ولو كانت باطلةً واقعاً بالنسبة للمأموم ـ علماً أو ظنّاً معتبراً ـ قريبة، لكن مع ذلك فإنّ مقتضى الاحتياط الاستحبابي هو الأخذ بما ذهب إليه الماتن هنا، والله العالم.

الحالة الثانية: أن يختلف في الأمور الخارجيّة التي ليست جزءاً ولا شرطاً للصلاة، كما إذا كان أحدهما يعتقد طهارة شيء وصلّى فيه، بينما الثاني يعتقد بنجاسته.

وهنا يمكن أن تأتي التفصيلات والمحاولات المتقدّمة أيضاً، بأن يقال مثلاً: إذا أمكن تصحيح الصلاة بمثل قاعدة "لا تعاد"، كما فيما إذا كان يعتقد الإمام بطهارة ثوب، فيجوز الاقتداء؛ لأنّ الصلاة صحيحة بنظر المأموم في حقّ الإمام، وبين ما لا يمكن تصحيحها، كما في الوضوء بالماء النجس فلا يجوز للمأموم الاقتداء؛ لأنّه يعتقد بطلان وضوء الإمام، ومن ثمّ يعتقد ببطلان صلاته، فكيف يقتدي به فيها؟!

وما ذكرناه في الحالة الأولى يأتي هنا أيضاً، فلا نعيد.

الحالة الثالثة: ما إذا اختلفا في الأجزاء والشرائط التي يتحمّلها الإمام، كما إذا فرض أنّ الإمام لم يرَ وجوب السورة وتركها بالفعل، بينما المأموم يعتقد وجوبها.

وهنا ذكروا أنّ الأقرب هو عدم جواز الاقتداء؛ لأنّ السورة واجبة في حقّ المأموم، فيجب عليه الاتيان بها إمّا بنفسه أو بوكيله، فلو تركها ولم يأت بها ـ لا بنفسه ولا بوكيله ـ فصلاته حسب نظره باطلة، فكيف يقصد الإتيان بصلاة يعتقد ببطلانها؟! نعم، لو فرض أنّ الإمام كان في الركوع، فبالإمكان الحكم بصحّة الاقتداء، حتى لو فرض عدم إتيان الإمام بالسورة؛ إذ الإمام ما دام في الركوع فالسورة ساقطة في حقّ المأموم ولا تكون واجبة عليه حتى يقال بأنّه لم يأت بها لا بنفسه ولا بوكيله، فتكون صلاته باطلة.

وهنا تعليقان:

التعليق الأوّل: إنّ حكم هذه المسألة يفترض ـ وفق تحليلاتنا المتقدّمة ـ أن يكون هو صحّة الائتمام، غير أنّنا نحتاط استحباباً بما ذهب إليه الماتن.

التعليق الثاني: إنّ التفصيل بين ما قبل الركوع وما بعده غير واضح؛ فإنّ الالتحاق بالإمام ما بعد الركوع إنّما يفهم ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ من خلال كون الإمام قد قال القراءة من قبل، لذا يمكن للمأموم أن يشرع بالصلاة بلا قراءة، لا أنّ صلاة الجماعة من قبل المأموم هنا عنوانٌ مستقلّ لسقوط القراءة عنه، بصرف النظر عن علاقة سقوط القراءة عنه بإتيان الإمام بها، وعليه فلا فرق بين الالتحاق قبل الركوع أو بعد تحقّقه.

هذا، وهذه الحالات الثلاث لا يُفرَّق في الموقف فيها بين بداية الصلاة واستدامتها.