التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجماعة ـ القسم الثامن)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(5 ـ 6 ـ 2025م)
الفصل الرابع
في أحكام الجماعة
...
مسألة 814: يجب على المأموم الإخفات في القراءة سواء أكانت واجبة ـ كما في المسبوق بركعة أو ركعتين ـ أم غير واجبة كما في غيره حيث تشرع له القراءة، وإن جهر نسياناً أو جهلاً صحّت صلاته، وإن كان عمداً بطلت([1]).
مسألة 815: يجب على المأموم متابعة الإمام في الأفعال، بمعنى أن لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر عنه تأخّراً فاحشاً، والأحوط الأولى عدم المقارنة، وأمّا الأقوال فالظاهر عدم وجوبها فيها، فيجوز التقدّم فيها والمقارنة عدا تكبيرة الإحرام، وإن تقدّم فيها كانت الصلاة فرادى، بل الأحوط وجوباً عدم المقارنة فيها، كما أنّ الأحوط المتابعة في الأقوال خصوصاً مع السماع وفي التسليم([2]).
مسألة 816: إذا ترك المتابعة عمداً لم يقدح ذلك في صلاته، ولكن تبطل جماعته فيتمّها فرادى، نعم إذا كان ركع قبل الإمام في حال قراءة الإمام بطلت صلاته، إذا لم يكن قرأ لنفسه، بل الحكم كذلك إذا ركع بعد قراءة الإمام على الأحوط([3]).
مسألة 817: إذا ركع أو سجد قبل الإمام عمداً انفرد في صلاته، ولا يجوز له أن يتابع الإمام فيأتي بالركوع أو السجود ثانياً للمتابعة، وإذا انفرد اجتزأ بما وقع منه من الركوع والسجود وأتمّ، وإذا ركع أو سجد قبل الإمام سهواً، فالأحوط له المتابعة بالعودة إلى الإمام بعد الإتيان بالذكر، ولا يلزمه الذكر في الركوع أو السجود بعد ذلك مع الإمام، وإذا لم يتابع عمداً صحّت صلاته وبطلت جماعته([4]).
_______________________
([1]) هنا أمران:
الأمر الأوّل: لزوم الإخفات على المأموم مطلقاً في القراءة
لا إشكال في لزوم الإخفات ـ أو جوازه ـ إذا كانت الصلاة إخفاتيّة في نفسها، إنّما الكلام فيما لو كانت جهريّة كالمغرب والعشاء فقد حكموا بوجوب الإخفات عملاً بخبر زرارة: «قرأ في كلّ ركعة مما أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب وسورة»، فإنّ تعبير: «في نفسه»، يدلّ على اعتبار الإخفات؛ إذ لا معنى له غير ذلك.
إلا أنّ الخبر آحادي منفرد في بابه، ومقتضى القاعدة هو جواز الجهر، بل وجوبه بناءً على الوجوب، لهذا حيث نبني على جواز الجهر وعدم وجوبه، فإنّ الأحوط هو اختيار الإخفات هنا، لكنّه ليس بلازم. والجهر بالقراءة لا يلزم منه اختلال نظم الجماعة، بل يمكن تحقيق الجهر بأقلّ مراتبه الممكنة دون ذلك.
أمّا لو التحق من بداية الجماعة فإنّ القراءة له جائزة في الجهريّة إذا لم يسمع همهمة الإمام، وفي مثل ذلك يُسأل: هل يتعيّن عليه الإخفات أو يجوز له الجهر؟
ذكر السيد الماتن في بحوثه للزوم الإخفات وجهين:
أ ـ ما ورد في بعض الأخبار من أنّ المأموم يجوز له أن يقرأ في الركعتين الأوليين للإمام إذا كانت الصلاة جهريّة لو لم يسمع الهمهمة، مستخدمة تعبير مثل: «فلم تسمع قراءته فاقرأ أنت لنفسك»، على أساس أنّ معنى القراءة لنفسه هو القراءة إخفاتاً، وإلا لزم لغويّة ذكره، لوضوح أنّ كل إنسان حينما يقرأ فهو يقرأ لنفسه، فذكر ذلك بلا وجه لو كان ذلك هو المقصود، فيتعيّن أن يكون المقصود أنّه يقرأ في ضميره ونفسه كنايةً عن الإخفات.
ب ـ السيرة، حيث إنّ سيرة المتديّنين جارية على الإخفات دون الجهر.
وكلا الوجهين قابلٌ للمناقشة:
أما الأول، فلأنّ تفسير كلمة «لنفسك» بالإخفات، خلاف الظاهر، ولا أقلّ من أنّها مجملة من هذه الناحية؛ إذ يحتمل كون المقصود التأكيد، أي اقرأ معتمداً على نفسك دون الإمام، فيكون المعنى: إقرأ أنت لنفسك ولا يقرأ الإمام عنك.
وأمّا الثاني، فلأنّ السيرة وإن كانت ثابتة اليوم لكن لا يعلم وجودها في عصر النصّ وما يقاربه، فضلاً عن أنّها لا تدلّ على الوجوب، بل هي أعمّ منه ومن الاستحباب الأكيد.
من هنا، مال بعضٌ إلى الاعتماد على نفس الروايات الدالّة على وجوب الإخفات فيمن التحق بالجماعة في الركعتين الأخيرتين، على قاعدة أنّ وجوب الإخفات فيمن التحق في الركعتين الأخيرتين لا خصوصيّة فيه بعد افتراض أنّ الصلاة في نفسها جهريّة، فيُفهم من وجوب الإخفات فيهما ـ بالرغم من كون الصلاة جهريّة ـ أنّ الإخفات هو من آداب الجماعة وخصائصها كي لا يحصل تشويش على الإمام أو بقية المأمومين أو لحفظ صورة الجماعة، ومعه يُتعدّى إلى الركعتين الأوليين. بل يمكن القول بأنّه مقتضى الأولويّة على أساس أنّ الجهر في الركعتين الأخيرتين لا يستلزم هتك الإمام وإهانته؛ حيث إنّ المأموم يقرأ الفاتحة باعتبار أنها وظيفته في مقابل وظيفة الإمام التي هي التسبيح، وإذا وجب الإخفات في مثل ذلك فبطريق أولى يلزم في الركعتين الأوليين؛ باعتبار أنّه لو جهر فيهما فسوف يصير معلناً عدمَ اعتماده على قراءة الإمام أو لا أقلّ من أنّ قراءته الجهريّة توحي بذلك، باعتبار أنّ الإمام يقرأ، فلماذا يقرأ المأموم ولا يعتمد على قراءة الإمام؟!
وأنت ترى أنّ هذا كلّه قابل للنقاش؛ وذلك أنّ دليل الإخفات لمن التحق بالركعتين الأخيرتين قد تبيّن لك أنّه آحادي منفرد في بابه، كما تقدّم التعليق على فكرة التشويش على إمام الجماعة، وبه يتبيّن عدم تمامية الاعتماد على الأولوية هنا.
فالصحيح هو أنّه بناء على قولنا بعدم وجوب الجهر والإخفات عموماً، فإنّ مقتضى الاحتياط هو اختيار الإخفات، ولعلّ الأفضل هو اختيار الجهر غير المخلّ بالجماعة.
الأمر الثاني: حكم الجهر موضع الإخفات اللازم عمداً أو سهواً أو جهلاً
إذا قلنا بلزوم الإخفات فجهر المأموم، فإن كان سهواً أو جهلاً فالقاعدة تقتضي الصحّة، وبخاصّة مع وجود قاعدة "لا تعاد"، وأمّا لو كان عمداً فقد قالوا بأنّه تبطل الصلاة باعتبار أنّه لم يؤدّ الواجب. وإجزاءُ غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل، وهو مفقود، بل لا تصلح صلاته للمقرّبيّة حينئذٍ.
([2]) هنا مجموعة نقاط:
النقطة الأولى: وجوب متابعة المأموم للإمام في الأفعال
ومعنى ذلك أن لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر فاحشاً، أمّا التأخّر عنه قليلاً وعدم المقارنة فليس بواجب، فهنا ثلاثة أمور:
1 ـ عدم جواز التقدّم.
2 ـ عدم جواز التأخّر الفاحش.
3 ـ عدم لزوم التأخّر قليلاً، بل تكفي المقارنة.
أمّا الأمر الأول والثاني، فالظاهر أنّهما من الواضحات التي لا تحتاج إلى دليل مستقلّ، باعتبار أنّ عنوان الجماعة والمأموميّة والائتمام والاقتداء والمتابعة يستبطن عدم التقدّم كما يستبطن عدم التأخّر الفاحش، مضافاً إلى استفادة ذلك من بعض الروايات الخاصّة.
نعم، استثنوا هنا التأخّر الفاحش الذي يكون عن عذر، كما إذا فرض أنّ الإمام ركع والمأموم لم يركع، ثمّ التحق بالإمام في السجود أو بعده لعذرٍ طرأ عليه، كازدحام المصلّين أو لعروض ألمٍ في جسمه مَنَعَه من المواصلة مع الإمام، فمع ارتفاع العذر يجوز له الالتحاق في بقيّة الأفعال مع الإمام، عملاً بخبر عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن×، في رجل صلّى في جماعة يوم الجمعة فلما ركع الإمام ألجأهُ الناس إلى جدار أو أسطوانة، فلم يقدر على أن يركع، ثم يقوم في الصفّ ولا يسجد حتى رفع القوم رؤوسهم. أيركع ثم يسجد ويلحق بالصفّ، وقد قام القوم أم كيف يصنع؟ قال: «يركع ويسجد لا بأس بذلك»، فهذه الرواية وإن وردت في صلاة الجمعة إلا أنّه لا خصوصية لها، ويؤيّده رواية أخرى للراوي نفسه غير خاصّة بصلاة الجمعة.
إلا أنّ دليله آحادي، فلا يلتزم به.
وأمّا الأمر الثالث، فقد وقع محلاً للكلام بين الفقهاء وأنّه هل يجب أن يتأخّر المأموم قليلاً عن الإمام أو يجوز له المقارنة؟
اختار السيّد الماتن جواز المقارنة، مستدلاً بإطلاقات الجماعة؛ وذلك أنّ عنوان الائتمام لا يتوقّف على تأخّر المأموم في أفعاله عن الإمام، بل يكفي في تحقّقه مقارنته فيها، والعرف شاهد على ذلك، بينما مال آخرون إلى اعتبار التأخّر قليلاً في صدق الائتمام عرفاً.
ولعلّه يمكن تأييد كلام السيد الخوئي هنا بأنّ المقارنة قضيّة ابتلائية عامة، فلو كان التأخّر لازماً للزمت الإشارة إلى ذلك في النصوص، والحال أنّ النصوص ـ بل وكلمات الفقهاء ـ خالية من ذلك.
تحديد مفهوم المتابعة العرفيّة
ولا بدّ لنا من تحقيق أمرٍ هنا مهم جداً، وهو أنّ الفقهاء تعاملوا مع شرط المتابعة والائتمام على أنّه لو تقدّم المأموم مرّةً واحدة على الإمام في الصلاة بطلت جماعته، وكذا لو تأخّر عنه تأخّراً فاحشاً، إلا ما خرج بالدليل، لكنّ غاية ما تفيده فكرة المتابعة والائتمام هو صدق أنّه يتابع هذا الإمام في الصلاة، فلو فرضنا تقدّم عليه سهواً أو حتى عمداً في موردٍ واحد في مجموع صلاته، فلا يقال بأنّه لم يتابعه في الصلاة، وكذا لو تأخّر عنه لكن ظلّ العنوان صادقاً في حقّه. وبعبارة أخرى: العرف ينظر هنا لا لآناتِ الصلاة كلّ آنٍ على حدة بطريقة دقيّة، بل ينظر لمجموع هذه الصلاة التي صلاها المأموم مع هذا الإمام، فهل يصدق عليه أنّه تابعه فيها ولم يتقدّمه، وهل يصدق عليه أنّه تأخر عنه فيها ولم يكن وراءه في الأفعال وهكذا؟ وذلك أنّ هذا الشرط مستفاد من تحلیل «الإقتداء والجماعة»، وما ورد فیه من الروایات أیضاً لا یحمل علی التعبّد کي ننظر إلی حرفیّة النصوص، بل الروایات تعبّر عن بیان إرشادي لما یراه العرف شرطاً في صدق الائتمام، ولیس إلا التبعیّة في أکثر الأفعال. والاقتداءُ والجماعة مفهومان عرفيّان، لا يحدَّدان بدقّة رياضيّة، والعرف لا يُبطل عنوان الائتمام لمجرّد وقوع تقدُّم بسيط أو نادر، بل ينظر إلى المجموع والسياق العام. وعلى أيّة حال، فهذا الفهم الذي نقدّمه هنا لمفهوم المتابعة يترك أثراً على بعض البحوث الآتية والمتقدّمة، فانتبه.
النقطة الثانية: عدم وجوب المتابعة في الأقوال
بمعنى أنّه يجوز التقدّم فيها والتأخّر والمقارنة؛ لأنّ الائتمام يلاحظ بالنسبة إلى أفعال الصلاة، أمّا الأذكار التي تقرأ في أفعال الصلاة فليست جزءاً من الصلاة بحيث تجب المتابعة بملاحظتها، ومع صدق عنوان المتابعة عرفاً نقول: لو كان يعتبر أكثر من ذلك لوردت نصوص تدلّ على اعتبار ذلك؛ لأنّ المسألة عامّة البلوى، فعموم البلوى مع عدم تعرّض النصوص يورثان الجزم بعدم لزوم المتابعة وكون ذلك مشمولاً لأصالة المشروعيّة.
قد يقال: إذا لاحظنا اشتراط التبعيّة في صلاة الجماعة باعتبارها مستفادة من المفهوم العرفي لكلمة "الائتمام" و"الاقتداء"، لا باعتبارها تعبّداً خاصّاً من الشارع، لظهر لنا أنّ هذا الاشتراط لا يقتصر على الأفعال الظاهريّة كالركوع والسجود، بل يشمل الأذكار أيضاً؛ فإنّ الإنسان إذا عُرض عليه مفهوم "الاقتداء بالإمام" وهو خالي الذهن عن الاصطلاحات الفقهيّة، سيفهم من ذلك أنّ المأموم يتابع الإمام في جميع ما هو داخل في مفهوم الصلاة، لفظاً ومعنىً، فعلاً وقولاً، توقيتاً ونوعاً، ما لم يُبيَّن له وجودُ استثناءٍ تعبّديٍّ يخرجه عن هذا الأصل، وعليه، فاستثناء التبعيّة في الأذكار من لوازم الاقتداء، يحتاج إلى دليلٍ تعبّديٍّ خاصّ، ولا يكفي عدمُ ورود النصّ في هذا الباب للقول بعدم الاشتراط؛ إذ يُحتمل أن عدم التصريح به إنّما نشأ من وضوح كونه من لوازم الاقتداء في نظر العرف، لا من جهة كونه غير مشمولٍ للمفهوم عرفاً، فالقول بأنّه «لو كانت التبعيّة في الذكر شرطاً، لكان مبيّناً في الروايات» لا يتمّ، إذ يمكن دفعه بأنّ هذا الشرط داخل في ذات المفهوم، فلا يحتاج إلى بيان.
والجواب: إنّ هذا الكلام مقبولٌ في الجملة، لكن عندما نقول بأنّه يلزم أن يبيَّن في الروايات فإنّنا لا نقصد تبيين أصله، بل نقصد أن ينعكس في الرواية؛ لأنّه سوف يكون أمراً ابتلائيّاً، حيث قد يسبق الإنسانُ الإمامَ سهواً أو يفوته شيء من المتابعة، وهذا كثير الحصول، ومع ذلك وجدنا رفع الرأس من الركوع أو الركوع قبل الإمام وأمثال ذلك في أسئلة السائلين، رغم أنّ هذا أقلّ وقوعاً في العادة من المتابعة في الذكر، فيما لم نجد للمتابعة في الذكر حضوراً أصلاً، الأمر الذي يعطينا ريباً في أنّ المتابعة المقصودة للشارع تقع ضمن سياق الحركات البدنيّة، بحيث يرى الناظر للجماعة أنّ من خلف الإمام يتحرّكون بحركته.
النقطة الثالثة: استثناء تكبيرة الإحرام من عدم المتابعة في الأقوال
وهذا يعني أنّ المتابعة في تكبيرة الإحرام لازمة، لأنّها فعلٌ كالركوع والسجود، فيجري عليه حكم الأفعال. لكن هنا ناقشوا في أنّه بعد ثبوت وجوب المتابعة في التكبيرة هل يلزم التأخّر أو تكفي المقارنة؟
مقتضى ما قلناه سابقاً هو كفاية المقارنة، وبخاصّة أنّ هذه المسألة عامة البلوى، دون إشارة لها في النصوص، عدا في النبويّ: «فإذا كبَّر فكبّر/كبّر فكبروا»، وهو ضعيف سنداً على الأقلّ.
لكن قد يقال فيما يتعلّق بمسألة التقدّم في خصوص تكبيرة الإحرام بأنّ هناك ذهنيّةً ارتكازيّةً مفادها أنّ صلاة المأموم فرعُ صلاة الإمام، فكما أنّ وجود كلّ فرعٍ يتوقّف على وجود الأصل، فإنّ مقتضى ذلك أن تكون صلاة الإمام ـ وهي الأصل ـ قد انعقدت بالفعل، لكي يُتَصوَّر اتصال صلاة المأموم ـ وهي الفرع ـ بها أو بالجماعة بل يقال: إنّ هذا الارتكاز يقوّم صدق عنوان الجماعة، على أساس أنّ صلاة الإمام ينبغي أن تكون متقدّمةً على اقتداء المأمومين، ولو بمقدارٍ يُعدّ معه عرفاً أنّها وُجِدت قبل اقتداء المأموم.
وقد يعلّق عليه بأنّه يكفي في صدق المتابعة السير مع الإمام، وعدم التقدّم عليه، فلو شرع في التكبير، فشرع المأموم معه، صَدَقَ أنّه يتابعه، وكذا الحال في الركوع، بل في تكبيرة الإحرام قد يشرع في قول "الله أكبر" ويبدأ المأموم بها بعد أن يصل الإمام إلى كلمة "أكبر" فيصدق عنوان المتابعة. ويكفي في المتابعة صدق أنّ فلاناً تابع فلاناً في الصلاة، وهذا حاصل في هذه الصورة أيضاً، بلا حاجة لفرض صلاة متحقّقة، ثم تحقّق المتابعة، فهذا تدقيقٌ ذهني.
هذا، والمقصود بجميع العناوين هنا من التقدّم والتأخّر والمقارنة والفاحش وغير الفاحش هو المعنى العرفي دون الدقّي، نعم إذا لم يحرز عدم التقدّم على الإمام إلا من خلال التأخّر عنه، لزم ذلك عقلاً من باب المقدّمة العلميّة.
هذا، وسائر ما ذكره السيد الماتن لا يحتاج لتعليق، غايته أنّ الاحتياطات التي في مسألته ينبغي أن تكون كلّها استحبابيّة.
([3]) هنا مجموعة نقاط:
النقطة الأولى: مخالفة المأموم المتابعة من غير عذر
توجد هنا ثلاثة أقوال أساسيّة:
أ ـ بطلان الصلاة بحيث لا تصحّ جماعة ولا فرادى.
ب ـ صحّتها فرادى وبطلانها جماعة.
ج ـ ترتب الإثم دون البطلان جماعة، فيأثم من جهة تركه واجباً من واجبات الجماعة وهو المتابعة، وكأنّ المتابعة واجب تكليفي استقلالي نفسي. وقريب منه ما ذهب إليه المحقّق الهمداني.
وفي تحقيق حال الأقوال المذكورة نقول:
أمّا القول الأول (بطلان الصلاة رأساً)، فقد يُبرّر بأنّ صحّة الصلاة فرادى غير ممكنة؛ لعدم قصد صلاة الفرادى، بل المفروض قصد الجماعة، فكيف تقع الصلاة فرادى من دون قصدها؟! وأمّا عدم صحتها جماعة فلفرض اختلال المتابعة المعتبرة في الجماعة.
ويناقش بأنّ صحة الصلاة فرادى لا تتوقّف شرعاً على قصد الفرادى، والأصل يقتضي البراءة عن شرطيّة أو جزئيّة هذا القصد، بعد تحقّق مبدأ قصد الصلاة.
وأما القول الثالث (صحّتها جماعة غايته يكون آثماً)، فهو مركّب من شقين: أحدهما: إنّ المتابعة للإمام واجبة كسائر الواجبات التي يأثم المكلّف بتركها. وثانيهما: أنّ ترك المتابعة تعمّداً لا يبطل الجماعة، بل من حقّ المكلّف مواصلتها.
أمّا الشق الأول، فقد يستدل له بما ذكره السيد محسن الحكيم من أنّ المأموم حينما نوى الجماعة فقد جعل على نفسه وألزمها بالمتابعة، والشارع أمضى هذا الجعل والالتزام، ولازم الإمضاء وجوب المتابعة؛ لأنّه جعل ذلك على نفسه.
ويناقش بأنّ المكلف لم يجعل على نفسه وجوب المتابعة وإنّما جعل حقّ المتابعة لنفسه، وعلى تقدير جعل الوجوب دون الحقّ، فإنّه لا دليل على إمضاء كلا جزئي ما جُعل والتزم به، فلم يثبت بأدلّة صحّة الجماعة إمضاء الوجوب، بل أقصى ما ثبت هو إمضاء الجزء الثاني (أصل المتابعة) دون وجوبها. وعليه فلا دليل على وجوب المتابعة وجوباً نفسياً استقلالياً كسائر الواجبات، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك، فيكون مجرى البراءة، بل كيف تكون المتابعة واجباً نفسياً والسيّد الحكيم نفسه يقول بجواز الانفراد أثناء الصلاة، مع أنّ الانفراد تركٌ للمتابعة، فلو كانت واجبة لما جاز الانفراد؟!
وأمّا الشق الثاني، فيمكن الاستدلال له بوجهين:
أ ـ التمسّك بإطلاق أدلة الجماعة؛ فإنّ مقتضاها جواز متابعة المأموم في جميع حالات الصلاة بما في ذلك حالة ترك المتابعة عمداً في فترةٍ، ولعلّ هذا ما يظهر من الشيخ الهمداني.
ويناقش بما تقدّم من أنّ أدلة الجماعة لا إطلاق فيها يشمل هذه الحال أو ناظر إليها حتى يتمسّك به، وأكثرها وارد في بيان فضيلة الجماعة أو صحّة الجماعة لو كان الإمام امرأة أو ما إذا تبيّن كونه فاسقاً أو غير ذلك، ومثل ذلك لا يدلّ على الإطلاق هنا.
ب ـ التمسّك بالاستصحاب، بدعوى أنّ المكلف كان له حقّ المتابعة سابقاً ونشكّ في ارتفاعه فيستصحب بقاؤه، كما يفهم من كلمات السيد الحكيم.
ويرد عليه أنّ المتابعة قد زالت قهراً وتكويناً بترك المكلف لها فترةً، ومعه فلا يجري استصحابها بعد اليقين بارتفاعها التكويني القهري، هذا لو أردنا استصحاب نفس المتابعة كما هو ظاهر "المستمسك"، وأمّا إذا أريد استصحاب جواز المتابعة فيردّه أنّ ذلك فرع بقاء الموضوع، فلا بدّ أن نفترض وجوب المتابعة طيلة الفترة حتى يقال كانت المتابعة جائزة والآن كذلك، فإنّ استصحاب الحكم فرع بقاء موضوعه، والمفروض زوال الموضوع تكويناً وقهراً.
وعليه، فالأرجح ـ بعد بطلان القول الأوّل والثالث ـ صحّة القول الثاني(صحّة الصلاة فرادى)، على أن يؤخذ بعين الاعتبار أنّ ذلك في صورة يكون فيها ترك التبعيّة العمدي موجباً لانتفاء صدق المتابعة في مجموع الصلاة عرفاً، وإلا لو ترك المأموم التبعيّة عن عمدٍ، ولكن كانت المتابعة ـ في الجملة وعلى مستوى مجموع الصلاة ـ صادقة عرفاً، فإنّ الصلاة لا تخرج بذلك عن كونها جماعة، ويجوز له الاستمرار في الاقتداء بالإمام، وتكون صلاته الجماعيّة صحيحة أيضاً، كما تقدّم بيانه.
النقطة الثانية: استثناءٌ عن مقتضى قاعدة صحّة الصلاة
ذكروا أنّه يستثنى من الحكم بعدم بطلان الصلاة وانقلابها فرادى، ما إذا ركع المأموم قبل الإمام عمداً في حالة قراءته، كما لو فرض أنّ الإمام في وسط الحمد أو وسط السورة وركع المأموم عمداً، فإنّ صلاته هنا تبطل؛ وذلك أنّ القراءة واجبة ولا يجوز تركها عمداً، والمأموم إذا ركع عمداً أثناء قراءة الإمام، فلا تكون القراءة متحقّقة منه لا بنفس ولا بوكيله. نعم، إذا فرض أنّ المأموم كان قد قرأ لنفسه ـ كما في الجهرية لو لم يسمع همهمة الإمام ـ فلا موجب للبطلان آنذاك، غايته تبطل الجماعة.
هذا، وإذا ركع المأموم عمداً بعد إكمال الإمام قراءته، وقبل أن يركع، فقد احتاط الماتن ببطلان الصلاة بالرغم من كونه بعد إكمال الإمام قراءته، ولم يتبيّن لي وجهه سوى أن يقال بأنّ أدلّة إجزاء قراءة الإمام عن المأموم مختصّة بحال ما إذا بقي المأموم متابعاً في الركوع، ولا تشمل مثل الحالة المذكورة؛ باعتبار أنّه لا إطلاق فيها، وعليه يكون الحكم هو البطلان؛ حيث ترك القراءة عمداً بلا بدل.
ويناقش بأنّ مقتضاه اعتبار بقاء المتابعة إلى آخر الصلاة؛ لاحتمال أنّ بدليّة الإمام في القراءة مشروطة ببقاء المتابعة إلى آخر الصلاة! وستأتي مناقشة أمثال هذا الرأي.
فالصحيح أنّه لا داعي لهذا الاحتياط، وبخاصّة أنّ جملة من نصوص صلاة الجماعة يفهم منها نوعٌ من التسامح.
([4]) ما ذهب إليه السيد الماتن هنا هو الصحيح في الصورة الأولى العمدية، أمّا في صورة السهو، فقد ذكر أنّه إذا ركع أو سجد المأموم قبل الإمام سهواً لا عمداً، عاد وتابع الإمام مرّة ثانية.
وهذا الحكم على خلاف القاعدة، والمستند الرئيس فيه رواية آحادية هي مكاتبة ابن فضال للإمام الرضا: قال كتبت إلى أبي الحسن الرضا في الرجل كان خلف إمام يأتمّ به فيركع قبل أن يركع الإمام، وهو يظنّ أنّ الإمام قد ركع، فلما رآه لم يركع رفع رأسه، ثم أعاد الركوع مع الإمام، أيفسد ذلك عليه صلاته أم تجوز تلك الركعة؟ فكتب×: «تتمّ صلاته ولا تفسد صلاته بما صنع».
فإنّ هذه المكاتبة وإن كانت واردة في الظنّ دون السهو إلا أنّهم قالوا بالتعدّي إلى حال السهو، إما من باب عدم الفرق بين الحالتين وأنّ المقصود من ذكر الظنّ هنا هو التمثيل للعذر، أو من باب الأولوية؛ حيث إنّ حالة الظن تشتمل على نحوٍ من التعمّد والتسامح والتساهل والاتكال على الظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، بخلاف حالة السهو فإنّها فاقدة للعمد والقصد. والمكاتبة وإن وردت في الركوع إلا أنّه لا خصوصيّة له، فتشمل السجود.
وعليه فحيث المستند آحادي مخالف للقاعدة، وهي البطلان بزيادة الركن عمداً، لهذا لا نأخذ به، ونرى أنّه في حال السهو يلزمه انتظار الإمام حتى يلحق به إذا لم يلزم محذور، وإلا انفرد.