التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة المسافر ـ القسم الثالث)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(11 ـ 9 ـ 2025م)
المقصد الحادي عشر
صلاة المسافر
وفيه فصول:
الفصل الأوّل
[شروط صلاة المسافر]
تقصر الصلاة الرباعيّة بإسقاط الركعتين الأخيرتين منها في السفر، بشروط:
الأول: ...
مسألة 884: الفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد، وهو من المرفق إلى طرف الأصابع، فتكون المسافة أربعاً وأربعين كيلومتراً تقريباً([1]).
مسألة 885: إذا نقصت المسافة عن ذلك ولو يسيراً بقي على التمام([2])، وكذا إذا شكّ في بلوغها المقدار المذكور، أو ظنّ بذلك.
مسألة 886: تثبت المسافة بالعلم، وبالبيّنة الشرعية، ولا يبعد ثبوتها بخبر العدل الواحد، بل بإخبار مطلق الثقة([3]) وإن لم يكن عادلاً. وإذا تعارضت البيّنتان أو الخبران تساقطتا ووجب التمام، ولا يجب الاختبار إذا لزم منه الحرج، بل مطلقاً([4]). وإذا شكّ العامي في مقدار المسافة ـ شرعاً([5]) ـ وجب عليه إما الرجوع إلى المجتهد والعمل على فتواه، أو الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام، وإذا اقتصر على أحدهما وانكشف مطابقته للواقع أجزأه.
مسألة 887: إذا اعتقد كون ما قصده مسافة فقصّر، فظهر عدمه أعاد، وأما إذا اعتقد عدم كونه مسافة فأتمّ، ثم ظهر كونه مسافة، أعاد في الوقت دون خارجه([6]).
مسألة 888: إذا شكّ في كونه مسافة، أو اعتقد العدم، وظهر في أثناء السير كونه مسافة قصّر، وإن لم يكن الباقي مسافة([7]).
مسألة 889: إذا كان للبلد طريقان، والأبعد منهما مسافة دون الأقرب، فإن سلك الأبعد قصر، وإن سلك الأقرب أتم([8])، ولا فرق في ذلك بين أن يكون سفره من بلده إلى بلد آخر أو من بلد آخر إلى بلده أو غيره.
مسألة 890: إذا كان الذهاب خمسة فراسخ والإياب ثلاثة لم يقصّر، وكذا في جميع صور التلفيق، إلا إذا كان الذهاب أربعة فما زاد والإياب كذلك([9]).
مسألة 891: مبدأ حساب المسافة من سور البلد، ومنتهى البيوت فيما لا سور له([10]).
مسألة 892: لا يعتبر توالي السير على النحو المتعارف، بل يكفي قصد السفر في المسافة المذكورة ـ ولو في أيّام كثيرة ـ ما لم يخرج عن قصد السفر عرفاً([11]).
مسألة 893: يجب القصر في المسافة المستديرة، ويكون الذهاب فيها إلى منتصف الدائرة والإياب منه إلى البلد، ولا فرق بين ما إذا كانت الدائرة في أحد جوانب البلد، أو كانت مستديرة على البلد([12]).
مسألة 894: لا بدّ من تحقّق القصد إلى المسافة في أوّل السير، فإذا قصد ما دون المسافة وبعد بلوغه تجدّد قصده إلى ما دونها أيضاً، وهكذا، وجب التمام وإن قطع مسافات. نعم إذا شرع في الإياب إلى البلد وكانت المسافة ثمانية قصر، وإلا بقي على التمام، فطالب الضالّة أو الغريم أو الآبق ونحوهم يتمّون، إلا إذا حصل لهم في الأثناء قصد ثمانية فراسخ امتداديّة أو ملفّقة من أربعة ذهاباً ومن أربعة إياباً([13]).
مسألة 895: إذا خرج إلى ما دون أربعة فراسخ ينتظر رفقةً ـ إن تيسّروا سافر معهم وإلا رجع ـ أتمّ، وكذا إذا كان سفره مشروطاً بأمرٍ آخر غير معلوم الحصول([14]). نعم إذا كان مطمئناً بتيسّر الرفقة أو بحصول ذلك الأمر، قصّر.
مسألة 896: لا يعتبر في قصد السفر أن يكون مستقلاً، فإذا كان تابعاً لغيره، كالزوجة والعبد والخادم والأسير، وجب التقصير، إذا كان قاصداً تبعاً لقصد المتبوع، وإذا شكّ في قصد المتبوع بقي على التمام، والأحوط ـ استحباباً ـ الاستخبار من المتبوع، ولكن لا يجب عليه الإخبار. وإذا علم في الأثناء قصد المتبوع، فإن كان الباقي مسافة ولو ملفّقة قصّر، والا بقي على التمام([15]).
مسألة 897: إذا كان التابع عازماً على مفارقة المتبوع ـ قبل بلوغ المسافة ـ أو متردّداً في ذلك، بقي على التمام، وكذا إذا كان عازماً على المفارقة، على تقدير حصول أمرٍ محتمل الحصول ـ سواء أكان له دخل في ارتفاع المقتضي للسفر أو شرطه مثل الطلاق أو العتق، أم كان مانعاً عن السفر مع تحقّق المقتضي له وشرطه ـ فإذا قصد المسافة واحتمل احتمالاً عقلائيّاً حدوث مانع عن سفره أتمّ صلاته، وإن انكشف بعد ذلك عدم المانع([16]).
مسألة 898: الظاهر وجوب القصر في السفر غير الاختياريّ، كما إذا أُلقي في قطار أو سفينة بقصد إيصاله إلى نهاية مسافة، وهو يعلم ببلوغه المسافة([17]).
__________________________
([1]) لم يتحقّق لي وجهٌ قطعيّ في هذا، فما ذكر من الشرح تقديريٌّ تقريبي غير قاطع، فالعبرة بالصدق العرفي أو الأخذ بالقدر المتيقّن.
([2]) هذا من السيد الماتن مبنيٌّ على أنّ المعيار في مقام الثبوت تحقيقي دقّي، وليس تقريبياً ولا قائماً على المسامحة العرفيّة؛ لأنّ النصوص ذكرت المسافة المعيّنة فما نقص عنها فليس منها، ولا معنى لترتيب الآثار عليه في هذه الحال، نعم قد يكون تشخيصنا للميل والذراع والفرسخ وغير ذلك غير منضبط، كما أشار له كثيرون منهم السيد الماتن في بحوثه، فيرجع إلى معايير إثباتيّة، مثل متوسّط طول الذراع المتعارف وغير ذلك مما ذكروه.
وحيث إنّنا بنينا في أعصارنا على معياريّة الزمان المبنيّ على عنصر المشقّة، فإنّ الأساس هو اليوم المتعارف كما قلنا، فثبوتاً الأمر محدّد، لكن إثباتاً قد يقع الشكّ، فيؤخذ بالتمام حتى يتحقّق معيار القصر يقيناً أو حجّةً.
([3]) مع إفادته الوثوق.
([4]) إلا إذا عدّ عدم الاختبار بمثابة الإهمال التامّ أو عدّ الفحص كأنّه ليس شيئاً إضافيّاً يتطلّب عملاً منه، كما لو كان الموقف يتطلّب منه إلقاء نظرة سريعة على عدّاد السيّارة، ففي مثل هذه الحال الأحوط وجوباً الفحص.
([5]) أي كانت الشبهة بالنسبة إليه حكميّةً، وليست موضوعيّة. وهكذا لو كان يقلّد مرجعاً لكنّه لم يكن يعرف رأيه في المسألة، فإنّ عليه إمّا الفحص ومعرفة رأيه والعمل به أو الاحتياط.
قد تقول: إنّ الجمع بين صلاة القصر والتمام بعنوان الاحتياط ملازمٌ لنقض غرض الشارع؛ لأنّ الشارع إذا أوجب القصر فإنّما أوجبه من باب التخفيف، والجمعُ بين القصر والتمام ينافي التخفيف، بل يوجب مشقّةً زائدة علی حالة الحضر.
والجواب: إنّ هذه المسألة هنا ليست إلا تطبيقاً لكليّة ثلاثيّة الطرق، والتي هي الفقاهة (الاجتهاد) والاحتياط والتقليد، ولا مانع من بعض الموارد الاستثنائية عن ملاك التخفيف لحالةٍ ثانوية، نعم لو كان مثل هذه الموارد كثيراً بحيث انقلب التخفيف ـ نوعاً ـ إلى تكليف ومشقّة، فقد يكون الإشكال وجيهاً ويحتاج لتأمّلٍ في هذه الحال.
([6]) بل الأقوى الإعادة في الوقت وخارجه؛ لكون مستند الماتن في التفصيل هنا آحاديّاً، وهو رواية العيص بن القاسم. هذا لو لم يكن يبني على حجّة شرعيّة مثل خبر الثقة العدل المفيد للوثوق الموضوعي، وإلا فإنّ الحكم بالقضاء مبنيٌّ على الاحتياط الوجوبي. وإشكاليّةُ التخفيف وتناقضها مع الاحتياطات وأمثالها سبق أن علّقنا عليها آنفاً.
([7]) إذ العبرة بالواقع، بعد فرض قصده له ولو لم يعلمه بالتفصيل.
([8]) لصدق العنوان المأخوذ في النصوص في حقّه. ولا يجب عليه ـ تكليفاً ـ اختيار الأقرب حتى لا يقع في القصر، بل يمكنه اختيار أيّهما شاء.
أخذ تعرّجات الطرق بعين الاعتبار في حساب المسافة
وقد يرتبط بهذه المسألة أنّ المسافة لا تُحسب وفقاً لخطّ مستقيم بين نقطتي المبدأ والمقصد، بل يؤخذ بعين الاعتبارات التعرّجات التي تكون في الطرق، بل بعض هذه التعرّجات مما فيه نوعٌ من العود، ثم التقدّم، بما قد يفرض أن يتحرّك نحو الإمام، ثم يميل قليلاً نحو العودة، لينطلق مجدّداً نحو الإمام، كما هي الحال في الطرق الجبليّة الوعرة، فهنا تُحسب الطرق ولا يحسب الخطّ المستقيم بين نقطتي الوصول والمنطلق، وهذا واضح، وبخاصّة أنّ الأسفار اليوم وعبر التاريخ مبنيّة على هذه التعرّجات التي تفرضها التضاريس والطبيعة، مما يعني أنّ النصوص قد بُنيت على هذا الواقع. ولهذا لو كانت هناك قرية في أسفل الوادي وقرية أخرى في أعلى الجبل، وكانت المسافة المباشرة بينهما أقلّ من المسافة الشرعيّة، لكنّ الوصول من القرية الدنيا إلى القرية العليا يتطلّب خطّ سير يتجاوز المسافة الشرعيّة (أو الزمان)، فهنا يلزم القصر أيضاً، ما دام يصدق عنوان السفر عرفاً.
المراد بـ "المقصد" في باب السفر
ولا بأس أن نشير هنا أيضاً إلى أنّنا عندما نعبّر بالمقصد، فلا يعني ذلك بالضرورة أنّ المكلّف يتجه في حركته السفريّة نحو نقطة معيّنة قصدها منذ البداية ويريد الوصول إليها بعينها، بل يكفي أنّه يريد الوصول إلى نقطةٍ ما ـ ولو غير معيّنة لديه ـ يكون الوصول إليها مما يتطلّب طيّ المسافة الشرعيّة، فتارةً يقصد المكلّف أن يسافر من دمشق إلى حلب، وأخرى يقصد الخروج من مدينة عمّان ليسير بالسيارة للتسلية فقط، ولا يقصد مكاناً معيناً، لكنّه يعرف أنّه سوف يتحرّك في الطريق لمسافة شرعيّة، فهنا أيضاً يكون حاله مشمولاً لأدلة السفر، كما هو واضح.
([9]) قد تقدّم آنفاً التعليق عليه، وأنّه يكفي، مع صدق ثمانية فراسخ على المجموع، بناءً على معياريّة المسافة بعنوانها. نعم يلزم أن يشتمل "السفر الواحد" على قطع ثمانية فراسخ بمجموع الذهاب والإياب، أمّا لو خرج من البلدة لمسافة فرسخين ثم رجع، ثم خرج مثل ذلك، ثم رجع، وهكذا إلى خمس مرّات في يوم واحد مثلاً، فهو رغم أنّه سار أكثر من ثمانية فراسخ بحسب المجموع، لكنّ هذا لا يوجب القصر؛ إذ ليست العبرة بقطع هذه المسافة كيفما اتفق، بل العبرة بقطعها في سفرٍ واحد، وهذا واضح؛ إذ هذا هو المنظور للنصوص.
([10]) المسألة هنا عرفيّةٌ بامتياز، بمعنى مراجعة العرف في صدق أنّ هذا الشخص يصدق عليه أنّه سافر أو لا، ففي القرى أو الضياع أو الأرياف أو المدن الصغيرة، يصدق عادةً أنّه سافر عند خروجه من البلد، لا عند خروجه من منزله، فلا يقال: سافر زيدٌ ما دام يتحرّك داخل القرية أو المدينة، لكن إذا خرج منها يقال: شرع في السفر.
حكم المدن الكبيرة
ومن هنا يظهر المعيار في المدن الكبيرة جدّاً التي وقع نقاش بين المتأخّرين فيها، فإنّ المسألة تتبع العرف، فلو كانت المدينة كبيرةً جداً، بحيث يكون التنقّل من طرف منها إلى طرف آخر مما يتجاوز المسافة الشرعيّة، فإنّ العرف يقول بأنّ فلاناً قد سافر بمجرّد خروجه من المحلّة التي هو فيها أو من القسم الشمالي أو الجنوبي للمدينة، وهكذا بحسب ما يراه العرف، الذي قد تختلف أحكامه بملاحظات متعدّدة. وليس هناك معيار قاطع ونهائي من نوع تقسيم المدن الكبيرة إلى المدن ذات البيوت المتصلة كلّها بعضها ببعض، فيكون طرف المدينة هو مبدأ حساب المسافة، والمدن ذات الأحياء المنفصلة عن بعضها، بما يشبه القرى المتقاربة، فيكون مبدأ المسافة هو نهاية كلّ محلّة، كما فعل بعض الفقهاء، وليس آخرهم السيد محمد سعيد الحكيم.
والكلام عينه يقال في المقصد، بمعنى أنّنا نلاحظ العرف ماذا يقول عندما يبلغ الإنسان تلك المدينة، فإن كان دخوله إليها مما يصدق عليه عرفاً أنّه قد وصل، وأنّ مجرد وصوله إلى النقطة أو المنزل الذي يريد الوصول إليه ليس جزءاً من السفر، بل هو حركة لاحقة عقب وصوله من سفره، فهنا نعتبر أنّ نهاية السفر تُحسب من أوّل البلد أو أوّل المدينة، أمّا لو كان العرف يرى أنّه يظلّ متعنوناً بعنوان الحركة السفريّة حتى بعد دخوله المدينة، نتيجة كون المدينة كبيرة جداً مثلاً بحيث ما زال يحتاج للوصول إلى النقطة التي يريد الوصول إليها داخل المدينة لأربعة أو خمسة أو ثلاثة فراسخ مثلاً أو لنصف يوم زماناً، ففي مثل هذه الحال لا يرى العرف أنّ المدينة هي مقصده، بل يرى أنّ المحلّ ـ أو ربما المنزل الذي يريد النزول فيه ـ هو المقصد، فالعبرة بصدق منطلق السفر ومنتهاه عرفاً، ومع الشكّ يتمّ استصحاب الحالة السابقة، كما هو واضح.
ومثل هذه الحال ما لو كان الشخص قاصداً الوصول إلى نقطة تقع خارج المدينة وإن كانت تابعةً لها، مثل معسكرات الجيش أو الجامعات التي تكون خارج أحياء المدن، ففي مثل هذه الحال لا يكون مقصده هذه المدينة حتى يكون الوصول إليها بمثابة الوصول إلى المقصد، بل مقصده يقع خارج المدينة، ولا يبلغه إلا بالمرور في المدينة نفسها أو بسلوك الطريق الدائري لها، فالعرف لا يرى أنّ هذا الشخص يقصد الوصول إلى هذه المدينة، بل يراه يمرّ بها ويقصد الوصول إلى شيء وراءها، وهكذا.
وبهذا كلّه يعلم أنّ العرف تختلف مواقفه في المبدأ والمقصد، فقد يرى النقطة التي يسكن فيها الإنسان هي شروع السفر كما لو كان في الصحراء، فانطلق نحو مكان آخر، فإنّ الدائرة الأقرب له تكون هي نقطة الشروع وقد تكون أوسع وهكذا.
ولا تؤخذ الأحكام التطبيقيّة هذه من الفقهاء، بل من العرف، فقد يشخّص الفقيه أنّ نقطة الشروع عرفاً هي بداية البلد، لكنّ المكلف يرى أنّ العرف يشخّصها على أنها من نهاية الحيّ الذي يسكن فيه، فيتّبع العرفَ ولا يتبع نظرَ الفقيه في ذلك.
السفر بين الحركة الأفقيّة والحركة العامودية
كما أنّ السفر وإن كان يقتصر سابقاً على الحركة الأفقيّة، كما هي الحال مع السيارات والقطارات والجمال وغيرها، لكنّه يشمل أيضاً ـ بحسب روحه ـ الحركة العاموديّة، كما في مثل الصعود نحو الأعلى بشكل عامودي خالص، فإنّ هذا الصعود مصداق جديد للسفر يتبعه حكمه، والنكتة الملاكية موجودة فيه أيضاً. نعم في بعض الأحيان قد يكون التحرّك العامودي مما لا يوجب صدق عنوان المسافر، كما فيما لو فرضنا ناطحات سحاب قد لا يصدق على الصعود إلى أعلاها بالمصاعد الكهربائيّة أنّه سفر، بل يظلّ يصدق عليه أنّه يسكن في هذه المدينة، والمسألة ـ مرةً أخرى ـ عرفيّة تماماً.
شرط توالي السفر بين معياريّة المكان ومعياريّة الزمان
([11]) هذا على معياريّة المسافة بعنوانها، أمّا على معياريّة الزمان المبنيّ على المشقّة في مثل عصرنا، فإنّ مثل هذا السفر إذا لم يصدق عليه نوعاً أنّه يشتمل على مشقّة نوعيّة، فلا يشمله الحكم بالتقصير أيضاً.
عدم شمول حساب المسافة للتنقّل خارج سياق السفر نحو المقصد
ولا بأس بالإشارة لأمرٍ هنا وهو أنّ المقصود بالمسافة وحسابها هو ما يكون في طريق الوصول من المبدأ إلى المقصد، ومعنى ذلك أنّه لو تحرّك فيما بينهما بحركة لا ترتبط بالسفر إلى المقصد نفسه، فإنّ هذا لا يُحسب جزءاً من المسافة، وفقاً لمعيار المسافة المعيّنة، فلو مرّ في طريقه من طهران إلى إصفهان بمدينة قم ـ وفرضنا أنّ بين طهران وإصفهان لا توجد مسافة شرعيّة ـ وكانت لديه بعض الأعمال التي يريد أن يقوم بها داخل مدينة قم قبل أن يواصل سفره، بحيث تحرّك داخل المدينة من نقطة إلى أخرى أكثر من مرّة، ففي مثل هذه الحال لا تحسب تحرّكاته داخل مدينة قم جزءاً من المسافة، بل هي خارجة عنها؛ لأنّ المفروض أنّ العرف لا يرى أنّ هذه الحركة جزءٌ من سفره من طهران إلى إصفهان حتى تنبني الحسابات عليها.
حكم القصر في المسافات المستديرة
([12]) هذا كلّه مع صدق عنوان السفر عرفاً ـ فضلاً عن كون الدائرة مما يلزم أن تكون خارج نطاق حدّ الترخّص نفسه ـ ويلزم تحقّق المعيار الزماني المتضمّن للتعنون بعنوان المشقّة النوعيّة، وفقاً لما اخترناه.
وبناءً عليه، فإذا سار شخص على الطريق الدائري المحيط بالمدينة، وكان الطريق داخل حدّ الترخّص أو كان بعد حدّ الترخص لكن قريباً جداً من المدينة، فإنّه كثيراً ما لا يصدق عليه أنّه مسافر لمجرّد دورانه حول المدينة، والمسألة عرفيّة. وعلى أيّة حال، فصدق عنوان المسافر عرفاً مأخوذ في جميع أحكام السفر، كما قلنا مراراً.
قد تقول: إنّكم فهمتم من الكتاب والسنّة أن المشقة النوعية هي معيار الحكم هنا، فكيف تعتبرون السفر حیثیّةً تقييديّة مع أنّ مناسبات الحكم والموضوع تستلزم أن يكون السفر حیثیّةً تعليليّة؟! فهل ذلك لتجنّب التلازم الفاسد الذي أشرتم إليه، وهو أنّه إذا كان السفر مجرّد صفة تعليلية، فلازمه الحکم بقصر الصلاة لمن يعاني من مشقّة نوعیة في منزله؟
والجواب: السفر ليس حيثيّة تعليليّة، بل تقييديّة في الشرع، فالموضوع هو السفر الشاقّ، وإلا لزم القصر في كلّ حالة يكون فيها مشقّة كالمرض، وهذا ما لا عين ولا أثر له في النصوص، بل لو كان لبان.
دور قصد المسافة في الحكم بالقصر (بين تحقّق قطع المسافة خارجاً وعدمه)
([13]) لا يبعد أنّه إذا صدق عليهم عنوان المسافر وتمّ قطع المسافة الشرعيّة بهذه الطريقة، وتحقّقت سائر الشروط.. لا يبعد الحكم بالقصر في حقّهم؛ إذ القصد مأخوذٌ بملاحظة ما قبل قطع المسافة، بمعنى أنّه بالقصد يمكن ترتيب آثار السفر الشرعي ـ مثل القصر ونحوه ـ قبل تحقّق قطع ثمانية أو أربعة فراسخ، أو قبل تحقّق مسير يوم، أمّا لو تحقّق منه مسير يومٍ أو تحقّق منه قطع ثمانية فراسخ، فإنّه يكون مصداقاً لعنوان المسافر الذي قطع المسافة الشرعيّة، فتشمله النصوص، فالأقرب الحكم بترتيب الآثار عليه. نعم فيما يتعلّق بتبييت النيّة مما هو مرتبط بالصوم قد يكون له حكم آخر من تلك الجهة، وسيأتي بحثه في فقه الصوم إن شاء الله.
وبهذا يُعلم أنّ عنوان "قصد قطع المسافة أو القطع المقصود للمسافة" بوصفه الشرط الأوّل من شروط ترتيب الآثار الشرعية هنا، إنّما يؤخذ بملاحظة ما قبل واقع قطع المسافة، بحيث يتمّ ترتيب الآثار بعد حدّ الترخّص وقبل قطع المسافة، أمّا بعد ذلك فالقصد لا عبرة به، بصرف النظر عن كون الشرط الحقيقي هو القصد أو الإحراز والعلم، كما تقدّم وسيأتي، كما وبصرف النظر عن كون الشرط هنا واحداً (قصد قطع المسافة)، كما فعل السيد الماتن وآخرون، أو شرطين: قطع المسافة، وقصد القطع، كما فعل بعض الفقهاء.
لكنّ هذه النتيجة التي توصّلنا إليها يعارضها خبران، يشيران إلى عدم ترتيب الآثار حتى مع قطع المسافة، وهما:
أ ـ خبر عمّار الساباطي، عن أبي عبد الله×، أنّه قال: سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستة فراسخ، فيأتي قرية، فينزل فيها، ثم يخرج منها، فيسير خمسة فراسخ أخرى وستّة، لا يجوز ذلك، ثم ينزل في ذلك الموضع، قال: «لا يكون مسافراً حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ، فليتمّ الصلاة» (تهذيب الأحكام 4: 225).
ب ـ خبر صفوان ـ وهو مرسل من إبراهيم بن هاشم إلى صفوان ـ فقد جاء فيه: قال: سألت الرضا×، عن رجلٍ خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلاً على رأس ميل، فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان، وهي أربعة فراسخ من بغداد، أيفطر إذا أراد الرجوع ويقصّر؟ فقال: «لا يقصّر ولا يفطر؛ لأنّه خرج من منزله وليس يريد السفر ثمانية فراسخ، وإنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق، فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه، ولو أنّه خرج من منزله يريد النهروان ذاهباً وجائياً، لكان عليه أن ينوي من الليل سفراً والإفطار، فإن هو أصبح ولم ينوِ السفر، فبدا له من بعد أن أصبح في السفر قصّر، ولم يفطر يومه ذلك» (تهذيب الأحكام 4: 225 ـ 226).
فإن حصل وثوق بهما صدوراً ودلالةً أمكن رفع اليد عمّا تقدّم، وإلا فالأقرب ما قلناه، ويعزّز رأيَنا هنا ـ ويُضعف الوثوقَ بصدور أو بالمراد الجدّي في الخبرين المتقدّمين ـ خبرُ عمار الساباطي الآخر، قال: سألت أبا عبد الله× عن الرجل يخرج في حاجة له، وهو لا يريد السفر، فيمضي في ذلك ويتمادى به المضيّ، حتى يمضي به ثمانية فراسخ، كيف يصنع في صلاته؟ قال: «يقصّر ولا يتمّ الصلاة حتى يرجع إلى منزله» (تهذيب الأحكام 4: 226).
([14]) وهذا تعبيرٌ آخر عن شرط التنجّز في قصد قطع المسافة.
([15]) المسألة واضحة، لكنّ ذيلها ينبغي تعديله، بما قلناه في التعليق على (المسألة رقم: 894)، فراجع.
([16]) هذا كلّه قبل تحقّق قطع المسافة خارجاً، وإلا جرى عليه ما قلناه في التعليق على (المسألة رقم: 894).
قطع المسافة بين شرط القصد وشرط العلم أو الإحراز
([17]) ما أفاده في المتن صحيح؛ وبه يُعلم أنّ العبرة في الشرط الأوّل هنا ـ كما ألمحنا مطلع الحديث عن هذا الشرط ـ بالعلم العادي بقطع المسافة، سواء صاحَبَهُ قصد مستقلّ أو غير مستقلّ، أو لم يكن معه قصد أصلاً كما لو كان غير مختار، فدعوى شرطيّة القصد بعنوانه، ثم بعد ذلك تبنّي ما جاء في هذه المسألة أعلاه وأمثالها ثمّة تهافت بينهما من الناحية الفنيّة والصناعيّة.
وحاصل الفكرة في هذا الشرط: أنّ المطلوب ـ لتحقيق آثار السفر الشرعي ـ هو أن يعلم المكلّف علماً عادياً بأنّه سوف يقطع هذه المسافة، فأيّ شيء ينافي هذا العلم يوجب سقوط الأحكام الخاصّة بالسفر، وذلك مثل:
أ ـ أن يعلم بأنّه لن يقطع المسافة، رغم أنّه يريد ذلك؛ لعلمه بأنّ مانعاً سيكون أمامه على الطريق، كالموانع الطبيعيّة أو البشريّة.
ب ـ أن يحتمل احتمالاً عقلائيّاً ينافي "العلم العادي" أنّه لن يتمكّن أو لن يواصل سيره، كما لو احتمل احتمالاً معتدّاً به أنّ هناك مانع، أو احتمل أنّه سيقطع سفره وسيرجع، لاحتمال زوال داعي السفر أو لاحتمال عروض مانع، حيث إنّه في حال تردّد حقيقي، فهنا أيضاً لا تترتب أحكام السفر الشرعيّة.
ج ـ أن يعلم أو يحتمل أنّه سيتحقّق منه أحد قواطع السفر ـ مثل نيّة إقامة عشرة أيّام ـ قبل بلوغ المسافة، فإنّ هذا العلم أو الاحتمال المعتدّ به ينافي إحراز قطع المسافة، وكذا ينافي حصول القصد الحقيقي لقطعها، نعم لو استأنف سفراً جديداً من ذلك المكان، فهذا أمرٌ آخر.
استفهام حول معقوليّة "القصد غير الاختياري"
بل قد يقال: إنّ فكرة القصد غير الاختياري تعاني من مشاكل، منها: إنّه على فرض وجود شيء يُدعى بالقصد غير الاختياري، فالسؤال يبقى مطروحاً: قد لا تتحقّق هذه النيّة غير الاختيارية من بعض الأشخاص، فكيف نُصدر حكماً عامّاً؟! فلازم هذا الاستدلال بعينه هو التفصيل لا الحكم المطلق. ومنها: إنّ القصد غير الاختياري مفهوم فيه منافرة، نعم، يمكن تصوّر قصد شأني، أي إكراه خارجي (في مقابل الاضطرار الداخلي) بالنسبة إلى فعلٍ كان الشخص سيقصده حتى من دون ذلك الإكراه، ولكن تحقّق القصد فعلاً موقوف على استناد الفعل إلى نفس الشخص، أمّا القصد في مورد شخصٍ تُقيَّد يداه ورجلاه ويُؤخَذ إلى السفر قسراً، فهو فاقدٌ للمعنى.