hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة المسافر ـ القسم الرابع)

تاريخ الاعداد: 9/23/2025 تاريخ النشر: 9/25/2025
1240
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(18 ـ 9 ـ 2025م)

 

المقصد الحادي عشر

صلاة المسافر‌

وفيه فصول‌:

 

الفصل الأوّل

[شروط صلاة المسافر]

...

الثاني: استمرار القصد، فإذا عدل ـ قبل بلوغ الأربعة ـ إلى قصد الرجوع، أو تردّد في ذلك وجب التمام، والأحوط ـ لزوماً ـ إعادة ما صلاه قصراً إذا كان العدول قبل خروج الوقت والإمساك في بقيّة النهار، وإن كان قد أفطر قبل ذلك([1])، وإذا كان العدول أو التردّد بعد بلوغ الأربعة ـ وكان عازماً على العود قبل إقامة العشرة ـ بقي على القصر واستمرّ على الإفطار.

مسألة 899: يكفي في استمرار القصد بقاء قصد نوع السفر وإن عدل عن الشخص الخاصّ، كما إذا قصد السفر إلى مكان، وفي الأثناء عدل إلى غيره، إذا كان ما مضى مع ما بقي إليه مسافة، فإنّه يقصر على الأصحّ، وكذا إذا كان من أوّل الأمر قاصداً السفر إلى أحد البلدين، من دون تعيين أحدهما، إذا كان السفر إلى كلٍّ منهما يبلغ المسافة([2]).

مسألة 900: إذا تردّد في الأثناء، ثم عاد إلى الجزم، فإن كان ما بقي مسافة ولو ملفّقة وشرع في السير قصر([3]) وإلا أتمّ صلاته، نعم إذا كان تردّده بعد بلوغ أربعة فراسخ، وكان عازماً على الرجوع قبل العشرة قصر.

الثالث: أن لا يكون ناوياً في أوّل السفر إقامة عشرة أيّام قبل بلوغ المسافة، أو يكون متردّداً في ذلك، وإلا أتمّ من أوّل السفر([4])، وكذا إذا كان ناوياً المرور بوطنه أو مقرّه أو متردّداً في ذلك، فإذا كان قاصداً السفر المستمرّ، لكن احتمل عروض ما يوجب تبدّل قصده على نحو يلزمه‌ أن ينوي الإقامة عشرة، أو المرور بالوطن، أتمّ صلاته، وإن لم يعرض ما احتمل عروضه([5]).

الرابع: أن يكون السفر مباحاً، فإذا كان حراماً لم يقصّر، سواء أ كان حراماً لنفسه، كإباق العبد، أم لغايته، كالسفر لقتل النفس المحترمة أم للسرقة أم للزنا أم لإعانة الظالم، ونحو ذلك، ويلحق به ما إذا كانت الغاية من السفر ترك واجب، كما إذا كان مديوناً وسافر مع مطالبة الدائن، وإمكان الأداء في الحضر دون السفر، فإنّه يجب فيه التمام، إن كان السفر بقصد التوصّل إلى ترك الواجب، أمّا إذا كان السفر مما يتفق وقوع الحرام أو ترك الواجب أثناءه، كالغيبة وشرب الخمر وترك الصلاة ونحو ذلك، من دون أن يكون الحرام أو ترك الواجب، غاية للسفر وجب فيه القصر([6]).

مسألة 901: إذا كان السفر مباحاً، ولكن ركب دابّةً مغصوبة أو مشى في أرض مغصوبة، ففي وجوب التمام أو القصر وجهان، أظهرهما القصر([7]). نعم إذا سافر على دابّة مغصوبة بقصد الفرار بها عن المالك أتمّ.

مسألة 902: إباحة السفر شرط في الابتداء والاستدامة، فإذا كان ابتداء سفره مباحاً ـ وفي الأثناء قصد المعصية([8]) ـ أتمّ حينئذٍ، وأمّا ما صلاه قصراً سابقاً فلا تجب إعادته إذا كان قد قطع مسافة، وإلا فالأحوط ـ وجوباً ـ الإعادة في الوقت وخارجه([9]). وإذا رجع إلى قصد الطاعة([10])، فإن كان ما بقي مسافة ـ ولو ملفّقة ـ وشرع في السير قصّر، وإلا أتمّ صلاته. نعم إذا شرع في الإياب ـ وكان مسافةً ـ قصّر.

مسألة 903: إذا كان ابتداء سفره معصية فعدل إلى المباح، فإن كان الباقي مسافة ـ ولو ملفّقة من أربعة ذهاباً وأربعة إياباً ـ قصّر([11])، وإلا أتمّ.

مسألة 904: الراجع من سفر المعصية يقصر إذا كان الرجوع مسافة، وإن لم يكن تائباً([12]).

مسألة 905: إذا سافر لغاية ملفّقة من الطاعة والمعصية أتمّ صلاته، إلا إذا كانت المعصية تابعة غير صالحة للاستقلال في تحقّق السفر، فإنّه يقصّر([13]).

مسألة 906: إذا سافر للصيد ـ لهواً ـ كما يستعمله أبناء الدنيا أتمّ الصلاة في ذهابه، وقصّر في إيابه إذا كان وحده مسافة، أمّا إذا كان الصيد لقوته وقوت عياله قصّر، وكذلك إذا كان للتجارة، على الأظهر، ولا فرق في ذلك بين صيد البرّ والبحر([14]).

مسألة 907: التابع للجائر، إذا كان مكرَهاً، أو بقصد غرضٍ صحيح، كدفع مظلمة عن نفسه أو غيره يقصّر، وإلا فإن كان على وجه يعدّ من أتباعه وأعوانه في جوره يتمّ، وإن كان سفر الجائر مباحاً، فالتابع يتمّ والمتبوع يقصّر.

مسألة 908: إذا شكّ في كون السفر معصية أو لا، مع كون الشبهة موضوعيّة، فالأصل الإباحة فيقصّر، إلا إذا كانت الحالة السابقة هي الحرمة، أو كان هناك أصل موضوعي يحرز به الحرمة، فلا يقصّر.

مسألة 909: إذا كان السفر في الابتداء معصية، فقصد الصوم، ثم عدل في الأثناء إلى الطاعة، فإن كان العدول قبل الزوال وجب الإفطار إذا كان الباقي مسافة وقد شرع فيه، ولا يفطر بمجرّد العدول من دون الشروع في قطع الباقي مما هو مسافة، وإن كان العدول بعد الزوال، وكان في شهر رمضان فالأحوط ـ وجوباً([15]) ـ أن يتمّه، ثم يقضيه، ولو انعكس الأمر بأن كان سفره طاعة في الابتداء، وعدل إلى المعصية في الأثناء وكان العدول بعد المسافة، فإن لم يأت بالمفطر وكان قبل الزوال، فالأحوط ـ وجوباً([16]) ـ أن يصوم، ثم يقضيه، وإن كان قبلها فعليه أن يتمّ صومه، وإن كان بعد الزوال ثم يقضيه على الأحوط، نعم لو كان ذلك بعد فعل المفطر وجب عليه الإتمام والقضاء.

___________________________

([1]) إعادة ما صلاه قصراً إذ عدل قبل خروج في الوقت هو الأقوى؛ بل هو على مقتضى القاعدة؛ إذ المأتي به غير مطابق للمأمور به، أمّا الإمساك على تقدير أنّه أفطر سابقاً فهو مقتضى الاحتياط الاستحبابي.

([2]) وكذا الحكم لو قصد المسافة التلفيقيّة، ثم في الأثناء عدل إلى الامتداديّة أو العكس؛ ذلك كلّه على مقتضى القاعدة والإطلاقات.

([3]) قبل بلوغ المسافة من نقطة الانطلاق الأولى، وإلا لزمه بعدها القصر أيضاً؛ لتحقّق قطع المسافة، وقد قلنا بأنّ القصد مأخوذٌ في ترتيب الآثار قبل قطع المسافة لا بعدها.

([4]) لعدم صدق قصد قطع المسافة من الأوّل. وهذا الحكم لا فرق فيه بين أن يقع منه الإقامة عشرة أيّام أو المرور بوطنه أو لا يقع؛ لأنّ المشكلة هنا ليست في واقع تحقّق قاطع السفر، بل في انعدام قصد السفر من الأوّل مع وجود نيّة تحقيق هذا القاطع في الطريق. وهذا كلّه قبل تحقّق قطع المسافة كاملةً خارجاً، وإلا فبعدها ـ مع عدم وجود القاطع عملاً ـ يقصّر، كما قلنا مراراً.

([5]) لا بدّ هنا من إضافة قيدين:

أ ـ أن يكون احتمال عروض ما يوجب تبدّل القصد احتمالاً عقلائيّاً، وليس فرضيّاً صرفاً، وإلا لم ينافِ قصد قطع المسافة.

ب ـ أن لا يقع منه قطع المسافة خارجاً، فلو انطلق من وطنه مع وجود هذا الاحتمال عقلائيّاً أتمّ في الطريق، سواء عرض المحتَمَل واقعاً أم لا، إلا إذا قطع المسافة فعليّاً بعد أن لم يعرض ذلك المحتَمَل، فإنّه يشرع بالقصر بعدها على ما ذكرناه سابقاً.

 

في اشتراط التقصير بإباحة السفر، الحدود والصور

([6]) الحكم ثابتٌ في الجملة، من خلال ضمّ مجموع نصوص الأبواب 8 ـ 9 ـ 10 من أبواب صلاة المسافر من "تفصيل وسائل الشيعة"، معزّزاً بذهاب جمهور فقهاء الإماميّة إليه، ومعهم الكثير من فقهاء الحنابلة والمالكية والشافعيّة، والنصوص عن أهل البيت لم أعثر على شيء معتدّ به مشابه لها في مصادر الحديث السنيّة، بل اعتمد فقهاء السنّة الذين قالوا بشرط إباحة السفر على وجوه واعتبارات أخرى قابلة للمناقشة وإن صلُح بعضُها للتأييد، فيما اعتمد الرافضون لهذا الشرط على الإطلاقات ونحوها.

وهذا واضح، إنّما الكلام في حدود هذا الحكم، وقد ذكر السيد الماتن أربع صور في هذه المسألة، وصورة خامسة في المسألة القادمة (رقم: 901)، والصور الأربع هنا هي:

أ ـ أن يكون السفر حراماً في نفسه، بمعنى أنّ نفس السير والحركة السفريّة حرام في حدّ ذاتهما، ومثّل له بإباق العبد.

ب ـ أن يكون السفر مباحاً في نفسه، لكنّ غايتَه محرّمة، ومثّل له بعدّة أمثلة كما لو سافر للزنا أو لقتل النفس المحترمة.

ج ـ أن يكون السفر مباحاً في نفسه، وغايتُه تركُ واجبٍ، وليس فعلَ حرام، فالعلاقة بين الغاية والحرام هي علاقة الاستلزام، وقد ألحقه السيد الماتن بالصورة الثانية في الحكم، ومثّل له بالسفر للفرار من أداء الدين.

د ـ أن يكون السفر مباحاً في نفسه وغايته ولوازمه، لكن يصاحبه وقوع بعض المحرّمات، كما لو وقعت الغيبة أو النميمة أثناء السفر.

وقد حكم السيد الماتن بالقصر في الصورة الأخيرة، والتمام في الثلاثة الأولى كلّها. وما أفاده هو الصحيح في الجملة؛ وذلك أنّ المفهوم من مجموع النصوص في الباب أنّ السفر الذي يتعنون عرفاً بأنّه سفر معصية أو سفر لمعصية أو باطل، يكون الحكم في مورده هو التمام، ومن الواضح أنّ الصورة الأولى والثانية ـ والصورة الثانية أوضح في كونها مصداقاً لنصوص الباب ـ يصدق عليهما أنّ هذا السفر هو سفر معصية أو لمعصية، بحيث يتعنون بالمعصية في نفسه أو غايته.

أمّا الصورة الثالثة، فإنّ السيد الماتن حكم فيها بأنّه لا يصدق عليه أنّه سفر معصية إلا إذا قصد من السفر الفرار من الدين وترك الواجب مع عدم إمكان أداء الواجب في السفر، وهذان القيدان اللذان وضعهما الماتن سببهما أنّه لو أمكن أداء الدين في السفر أو الحضر، كما في الحوالات البنكيّة اليوم مثلاً في غير مكان، فإنّ سفره لا يصدق عليه أنّه لترك الواجب؛ إذ ترك الواجب لا علاقة له بكونه مسافراً أو حاضراً، كما أنّه لو سافر لا بقصد ترك الواجب، فلا يكون سفره في نفسه بما هو طيٌّ للمسافة، ولا في غايته، محرّماً، كما لو سافر بقصد مساعدة ابنه في بلد آخر، دون أن يكون مقصوده ترك الواجب، فهنا وإن تحقّق ترك الواجب خارجاً، لكنّ التلازم الواقعي بين ترك الواجب والسفر لا يبرّر وصف السفر بأنّه باطل أو معصية أو حرام أو لغاية غير حقّة، بل المفروض أنّ سفره جاء لغاية حقّة، وهي مساعدة ابنه أو الذهاب للعمرة المستحبّة أو نحو ذلك.

غير أنّه لا يبعد القول بأنّ الصورة الثالثة يُحكم فيها بالتمام، بلا حاجة للقيد الثاني الذي وضعه الماتن، إذ ليست العبرة بالقصد (قصد ترك الواجب الذي هو أداء الدين) بل العبرة بالالتفات، فلو سافر للعمرة أو الزيارة غير ملتفتٍ لكون سفره هذا يوجب عدم أدائه للواجب المترتّب عليه تجاه الدائن، فهنا لا يُعلم شمول نصوص الباب لهذه الصورة؛ لعدم وضوح كون هذا السفر مما يتعنون بعنوان سفر المعصية أو لمعصية، لكن لو كان ملتفتاً لكون سفره يوجب تركه لواجب ومع ذلك سافر لا بقصد التفلّت من أداء الواجب، بل بقصد الزيارة ومحبّة أهل البيت وشوقه للتشرّف بزيارة مراقدهم مثلاً، غايته كان في الواقع متهاوناً في أمر ذلك الواجب، لا قاصداً من وراء السفر عدم أداء الدين، فهنا لا يبعد أن يقال بأنّ هذا السفر سفرٌ ليس بحقّ، فإنّ فعليّة كون السفر سفر حقّ أو غير باطل أو معصية شأنٌ واقعي مرتبط بالعلم والالتفات، لا أنّه شأنٌ قصدي بالمعنى المشار إليه.

هذا، وأمّا الصورة الرابعة، فما ذكره الماتن فيها صحيح وواضح، فلا نطيل.

([7]) إنّما ذكر السيد الماتن هذين المثالين (الدابة المغصوبة والأرض المغصوبة)؛ لوجود من قال بالتفصيل بينهما، فأرادَ الانتصار للقول بعدم شمول أدلّة سفر المعصية لهذه الموارد كلّها، وما أفاده هو الصحيح؛ إذ لا يقال عرفاً أنّ هذا السفر ـ بما هو سفر وانتقال ـ سفرٌ باطل أو معصية، فهذا تماماً مثل السفر مع كونه طوال الطريق يشرب الخمر، فذات السفر بما هو سفر لا يتصف بالمعصية هنا عرفاً، نعم يصدق أنّه ارتكب حراماً في سفره هذا، وهو المرور بالأرض المغصوبة أو حمل شيء مغصوب معه، أو ارتداؤه لباساً مغصوباً طوال الوقت، أو لبسه الذهب والحرير طوال الوقت ـ على القول بالحرمة ـ وهكذا.

ومن الواضح أنّ الغاية هنا ليست هي الحرام، إلا في الصورة التي استثناها الماتن ذيل هذه المسألة، وهي صورة ما لو كان السفر هو وسيلة غصب هذه الدابّة، ففرّ بها عن المالك تحقيقاً للغصب نفسه وتماميته، فكان القصد من السفر إتمام عمليّة الغصب بشكل كامل.

([8]) وشرع في السير بعد هذا القصد، لا مطلقاً.

([9]) الأحوط وجوباً الإعادة في الوقت، والأحوط استحباباً القضاء خارجه.

([10]) الظاهر أنّ مراده من قصد الطاعة هو انعدام عنوان قصد المعصية.

([11]) على تقدير شروعه في السير بعد العدول، لا مطلقاً؛ لصدق أنّ هذا السفر الذي تحقّق حتى الآن هو سفر معصية وحكمه التمام، وإنّما ينقلب إلى سفر طاعة بعد تحقّق سفرٍ جديد. وعلى أيّة حال، فهذه المسألة، ليست إلا وجهاً آخر لروح (المسألة السابقة رقم: 902).

 

حكم سفر الإياب من المعصية

([12]) أمّا إذا كان رجوعه بعد التوبة، فلا إشكال في القصر، وكذا لا إشكال في التمام لو كان سفر الرجوع سفرَ معصية أخرى، أي مصداقاً جديداً مستقلاً لسفر المعصيّة، وأمّا إذا لم يكن لا هذا ولا ذاك، فإنّ مستند أمثال السيد الماتن هنا هو عدم صدق كون سفره الإيابي هو في ذاته معصية أو لغاية هي معصية، إذ المفروض أنّه راجع لوطنه، وهذه الغاية ليست معصية، لهذا ينبغي ترتيب آثار السفر القصري هنا.

لكنّ الأقرب بالنظر هو أنّ هذه الطريقة في المعالجة يظهر لي أنّها حرفيّة غير مقصديّة، فإنّ النكتة التي يفهمها العرف من الحكم بالتمام على سفر المعصية هو رفض التخفيف على العاصي وإلحاقه بالمشقّة، ولا يرى العرف فرقاً بين ذهابه وإيابه، فالإتمام غير مرتبط بالمعصية ذاتها فقط، بل مرتبط بعصيان العاصي، لهذا يفهم العرف ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ أنّ الشريعة لا تريد التخفيف عن العاصي في سفره، وفي الوقت عينه يعتبر العرف سفر الإياب تابعاً لسفر الذهاب ومن شؤونه.

نعم، لو فهمنا من نكتة الإتمام في سفر المعصية أنّ الشريعة تريد بذلك الحيلولة بين العاصي والمعصية، أمكن تصوّر التفكيك بين الذهاب والإياب، لكنّ هذا الفهم في غاية البعد، بل النكتة العقلائية هنا مرتبطة بالتضييق على العاصي في السفر الذي سافره بهدف المعصية أو عدم العطف عليه والتعامل معه بشفقة، فالأقرب الحكم بالتمام عليه ذهاباً وإياباً، وفاقاً للمنقول عن المحقّق القمي.

وهذا كلّه غير إنشاء المسافر سفرَ معصيةٍ لسفرٍ جديد مستقلّ بعد انتهائه من المعصية، ولا يكون سفره هذا إياباً لوطنه من سفر المعصية، فإنّ العرف في هذه الحال يعتبر أنّ السفر الجديد منفصلٌ عن السفر السابق ومستقلٌّ، وله حكمه، وعلى تقدير رجوعه بعد سفرين أو ثلاثة طوليّة، أوّلها سفر المعصية، فإنّه ليس واضحاً صدق عنوان تابعيّة الإياب لسفر المعصية هنا حتى نحكم بالتمام، وعليه فنرجع لمقتضى العمومات والمطلقات في الحكم بالقصر في هذه الحال. ومثله ما لو انفصل سفر الإياب عن سفر الذهاب بمدّة زمنية طويلة، بحيث لم يعد يصدق أنّه رجع من سفر المعصية، وهكذا.

 

اجتماع قصد المعصية والطاعة في السفر

([13]) هذا واضح على تقدير كون قصد المعصية بمثابة الفاعل المؤثر على كلّ حال، بحيث على أيّة حال هو مسافر لفعل هذه المعصية أو تلك، فيصدق عرفاً أنّ مسيره مسير باطل ومعصية، إذا العبرة بهذا الصدق لا بصدق أنّه مسير باطل بشرط لا من حيث غيره، وكذلك الأمرُ واضحٌ على تقدير كون قصد المعصية مجرّد تابع غير مستقلّ عن القصد الأساس الذي هو قصد الطاعة أو الأمر الحلال، فإنّه لا يصدق هنا على هذا السفر أنّه سفر باطل أو سفر معصية ونحو ذلك، ولا أقلّ من الشكّ في الصدق عرفاً.

إنّما الكلام فيما لو لم يكن الأمر كذلك، كما لو أنّه إذا لم يكن لديه أمرٌ آخر حلال في تلك المنطقة التي يسافر إليها فإنّه لن يذهب لتحقيق تلك المعصية، وفي الوقت عينه لم يكن ليذهب لذلك الأمر الحلال لولا أنّه يريد أيضاً تحقيق تلك المعصية، وبعبارة أخرى: أيّ من القصدين لا يصنّف تابعاً ولا مستقلاً، بل الدافع له هو اجتماعهما، ولولاه لما قصد أيّاً منهما، فهل يحكم بالتمام أو القصر هنا؟

هذا ما لا توضحه بجلاءٍ عبارة السيد الماتن؛ إذ تحتمل الاندراج تحت عنوان الغاية الملفّقة من القصر والتمام، كما تحتمل الاندراج تحت عنوان أنّ قصد المعصية تابعٌ.

قد يقال بالشكّ في اندراج هذه الصورة تحت أدلّة سفر المعصية، إذ القدر المتيقّن منها هو كون قصد المعصية منفرداً أو مستقلاً أو غالباً، أمّا في غير ذلك، فلا يُعلم صدق عنوان "المسير الباطل عليه"، خلافاً لأمثال السيد البروجردي (البدر الزاهر: 283)، فنرجع لعمومات السفر الدالّة على أنّ حكم المسافر هو القصر، وإن كان الأحوط استحباباً الجمع بين القصر والتمام في هذه الحال. لكنّ الأقرب هو صدق أنّه سفر باطل بالنظر إلى أنّ عنصر المعصية يعدّ مقوّماً لهذا السفر لا هامشيّاً، فلا يبعد أن يصنّفه الرعف سفراً بغير حقّ.

 

صيد اللهو، حكمه التكليفي وأثره الوضعي

([14]) ينقسم الصيد إلى ثلاثة أقسام:

أ ـ الصيد لقوت النفس والعيال والضيوف وأمثال ذلك، بمعنى أن يسافر حتى يأتي بسمك أو طيرٍ فيشويه أو يطبخه؛ ليأكل في يومه هذا منه مثلاً، وهكذا. وقد يكون هذا الشخص فقيراً فيصطاد لعدم توفّر آليّة أخرى لتأمين قوت نفسه وعياله، وقد لا يكون فقيراً، بل لعلّه يمكنه تأمين قوت نفسه وعياله من غير هذا الطريق، لكنّه مع ذلك يقوم بالصيد لإطعام أهله وعياله، كما لو كان يفضّل الأسماك الطازجة غير المثلّجة.

ب ـ الصيد لتحصيل النفع المالي، وهو المسمّى بصيد التجارة، بمعنى أن يصيد لكي يتاجر بهذه الحيوانات التي اصطادها فيبيعها وينتفع بثمنها، مثل مهنة صيّادي الأسماك.

ج ـ الصيد للهو أو صيد اللهو، فلا هو بالذي يصطاد لقوت عياله، ولا بالذي يصطاد للاتجار والانتفاع بالثمن ونحو ذلك، بل يصطاد لمجرّد التسلية والأنس بالصيد، كما هي العادة المتعارفة بين الملوك والأمراء وغيرهم منذ قديم الأيّام، ويستعملون له مختلف الوسائل بما فيها الاصطياد بالصقور ونحوها مما هو رائج اليوم في بعض البلدان، ويطلق عليه في بعض البلدان العربيّة اليوم (الحداق والقنص).

ولا فرق في صيد اللهو بين أن يتحقّق منه أكل هذا الحيوان المصطاد بعد ذلك أولا، أو ربما يبيعه ويحصل على ثمنه، وهذا يعني أنّ العبرة في صيد اللهو هو قصده الأساس من وراء الصيد، لا فيما يتحقّق بعد ذلك منه، فإن كان قصده أن يأكله أو يتاجر به، فهذا ليس بصيد لهو، حتى لو لم يتفق أن أكله أو تاجر به لسببٍ أو لآخر منَعَه من ذلك، وإن كان قصده اللهو والتسلية، فهذا صيد لهو، وإن تحقّق لاحقاً أنّه أكل هذا الصيد أو باعه أو تصدّق به. هذا، ويبدو من السيد علي الخامنئي أنّه يعتبر السفر الذي يتم فيه أكل ما يصطاد غيرَ لهويّ حتى لو كان للتنزّه (رسالة الصلاة والصوم: 111).

وقد يظهر من بعض الفقهاء ـ على الأقلّ ـ وأدبيّاتهم التعبيريّة هنا أنّهم لا يقصدون من الصيد اللهوي مطلق الصيد الذي لا يكون للقوت أو للتجارة، بحيث يكون التقسيم الثلاثي المشار إليه حاصراً لكلّ أنواع الصيد، بل يخصّصونه بنوعٍ من اللهو الذي يكون رائجاً بين أبناء الدنيا ـ كما هي عبارة الماتن أعلاه ـ كالملوك والأمراء والمترَفين الذي يخرجون للتسلية أو للتفاخر والبطر ونحو ذلك، وإلا فلو أنّ شخصاً خرج للصيد بهدف تمرين نفسه على إصابة الهدف مثلاً فقتل الحيوانات وكان غرضه مجرّد قتلها دون جعلها للقوت أو للتجارة، فإنّهم لا يعدّون صيده هذا لهويّاً، بل حتى لو كان غرضه التلذّذ بقتل الحيوانات فقط ولم يكن على نسق أبناء الدنيا من الملوك والأمراء والمترفين فلا يكون صيد لهوٍ أيضاً.

وصيد اللهو عنوانٌ مستقل في الفقه الإسلامي يختلف عن عنوان مطلق اللهو، فقد يكون اللهو حلالاً وصيد اللهو حراماً، كما لو خرج اثنان معاً أحدهما لصيد اللهو والثاني لمجرّد النزهة بلا صيد، فقد يقال بحرمة فعل الأوّل وحليّة الثاني فلا ترابط بينهما دائماً في الأحكام.

والبحث في موضوع صيد اللهو وأخويه يقع في مقامين: الحكم التكليفي والحكم الوضعي، والفرق بينهما هنا أنّ الحكم التكليفي غير متوقّف على عنوان السفر، بمعنى أنّه إذا قلنا بحرمة صيد اللهو أو كراهته وحليّة غيره، فإنّ الحرمة لا ترتهن للسفر اللهوي، بل حتى لو اصطاد لهواً دون أن يتحقّق منه السفر يكون قد فعل حراماً أو مكروهاً، وهذا بخلاف البحث في الحكم الوضعي، والذي يتكلّم عن حكم الإتمام والإفطار والقصر في سفر الصيد، فانتبه. نعم ذهب السيد محمّد سعيد الحكيم إلى اختصاص الحرمة التكليفيّة للصيد اللهوي بالسفر لأجل هذا الصيد، لا مطلقاً وفي نفسه.

 

1 ـ في الحكم التكليفي لصيد اللهو

اتفق فقهاء الإسلام على أنّ الصيد لقوت النفس والعيال وأمثالهم لا إشكال في حليّته، وتركّز خلافهم حول حليّة صيد اللهو وسفره:

فقال فريق ـ منهم السيد علي السيستاني والسيد محمّد حسين فضل الله ـ بعدم حرمة سفر الصيد اللهوي ولا نفس الصيد، فضلاً عن صيد التجارة.

وقال فريق ـ ومنهم السيد الماتن في بحوثه الاستدلاليّة وبعض استفتاءاته ـ: إنّ صيد اللهو حرام في نفسه، وأنّ هذا هو مبرّر إتمام الصلاة في مورده، فيكون سفره من مصاديق سفر المعصية، فلا يكون فيه قصر.

وقد استدلّ الفريق الثاني على ذلك بأدلّةٍ، من أبرزها هذان الخبران:

الخبر الأوّل: رواية ابن بكير، قال: سألت أبا عبد الله× عن الرجل يتصيّد اليوم واليومين والثلاثة أيقصر الصلاة؟ قال: «لا، إلا أن يشيّع الرجل أخاه في الدين، فإنّ التصيّد (الصيد) مسيرٌ باطل لا تقصر الصلاة فيه..».

وعلّق السيد الخوئي على هذه الرواية بالقول: «دلّت على أنّ عدم قصر الصلاة ليس حكماً تعبديّاً، بل من أجل أنّه باطل، وظاهر البطلان الحرمة، وإلا فالبطلان في الفعل الخارجي لا معنى له، بعد وضوح عدم إرادة البطلان في باب العقود والإيقاعات، فالمسير الباطل، أي ليس بحقّ، المساوق لقولنا: ليس بجائز، وهو معنى الحرمة، فهي من حيث الدلالة تامّة، لكنّ السند سقيم بسهل بن زياد فلا تصلح للاستناد» (مستند العروة، كتاب الصلاة 8: 116).

الخبر الثاني: رواية عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله× عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصر أو يتمّ؟ قال: «يتمّ؛ لأنّه ليس بمسير حقّ».

وعلّق الخوئي قائلاً: «ولا نقاش في سندها، كما لا ينبغي التأمّل في دلالتها، حيث دلّت على أنّ الإتمام ليس لعنوان الصيد، بل من أجل أنّه ليس بحقّ، المساوق لكونه معصية. ولا أدري كيف عبّر المحقّق الهمداني عن مفادها بالإشعار بعد وضوح دلالتها بصراحة التعليل ـ كما عرفت ـ في أنّ عدم التقصير ليس لموضوعيّة للصيد، بل من أجل عدم كونه مسير الحقّ، أي ليس بسايغ مرخّص فيه فيكون حراماً بطبيعة الحال. ولا بُعد في الالتزام بذلك، كما أشار إليه في الجواهر حيث قال: إنّ البغدادي استبعد ما لا بُعد فيه؛ إذ أيّ مانع من الالتزام بالتفكيك بين الصيد وغيره من ساير أقسام اللهو مما قام الإجماع والسيرة بل الضرورة على جوازه، بعد مساعدة النصّ، فيبني على استثناء هذا الفرد من ساير أقسامه. ولا يبعد أن يكون السبب أنّ قتل الحيوان غير المؤذي جزافاً وبلا سبب سدٌّ لباب الانتفاع به للآخرين في مجال القوت أو الاتجار، ففيه نوعٌ من التبذير والتضييع، فلا يقاس بساير أنواع اللهو. وكيفما كان فما ذكره المشهور من حرمة صيد اللهو ودخوله في سفر المعصية هو الصحيح» (المستند، كتاب الصلاة 8: 116 ـ 117).

لكنّ السيد البروجردي علّق على هذا النمط من الروايات بالقول: «وأمّا التعبيرات الواردة في غير رواية حماد، من قوله×: «إنّما خرج في لهو»، وقوله: «لأنّه ليس بمسير حقّ»، وقوله: «فإنّ التصيّد مسير باطل»، فلا يستفاد منها الحرمة الشرعيّة، لكونها أعمّ من الحرمة» (البدر الزاهر: 297).

وذكر البروجردي تأييداً خارجيّاً لنفي الحرمة قال فيه: «ويمكن تأييده في ذلك بأنّ التصيد للّهو والبطر كان أمراً معروفاً بين المترفين متداولاً بين المتنعّمين من أبناء الدنيا حتى في أعصار الأئمة ـ عليهم السلام ـ وما قبلها، فلو كان أمراً محرّماً لكان على الأئمّة ـ عليهم السلام ـ إنكاره بأشدّ الإنكار، وبيان حرمته لأصحابهم، ولو بيّنوها لوصل إلينا وصارت حرمته من الضروريات عند الشيعة والمتديّنين، نظير حرمة الخمر والزنا ونحوهما من المحرّمات، فإنّ الأمور المبتلى بها المتداولة بين الناس لو كانت محرّمة لما خفيت حرمتها على المتديّنين وكان أمرها واضحاً بينهم، مع أنّ التصيّد اللهوي ليس بهذه المثابة وإلاّ لم يخف حرمته ولم يقع فيها خلاف، والقدماء قبل المحقّق والعلامة أيضاً لا يستفاد من عباراتهم حرمته، بل يستفاد عدمها؛ فإنّ الشيخ مثلاً ذكر في نهايته سفر الصيد في قبال سفر المعصية ولم يجعله من أفراده. وفي الخلاف أيضاً عقد لهما مسألتين ذكر في إحداهما سفر المعصية وقال ما حاصله: أنّه لا يوجب القصر، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق. وقال قوم: سفر المعصية كسفر الطاعة في جواز التقصير، ذهب إليه الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وذكر في المسألة الأخرى سفر الصيد وقال: إذا سافر للصيد بطراً أو لهواً لا يجوز له التقصير، وخالف جميع الفقهاء في ذلك. وكيف كان فلا يستفاد من عبائر القدماء أيضاً حرمة الصيد اللهوي. نعم ، الفاضل الكامل عبد العزيز بن البراج قسم في مهذّبه السفر إلى أربعة أقسام: واجب ومندوب ومباح وقبيح، ومثَّل للقبيح بسفر المعصية وسفر الصيد. هذا، ولكنّ القبح أيضاً أعمّ من الحرمة الشرعيّة. وبالجملة ليس لنا دليل متقن يستفاد منه حرمة التنزّه بالصيد، ولو كان محرّماً لصار حرمته من الضروريات كنظائره من المحرّمات المتداولة بين الناس» (البدر الزاهر: 295 ـ 296).

ويمكن التعليق على كلامهما:

أوّلاً: إنّ ما أفاده البروجردي في محلّه، فإنّ تعبير "المسير الباطل" و "ليس بمسير حقّ"، وإن كان يحتمل الحرمة، لكنّه ليس ظاهراً فيها؛ لأنّ مفهوم الباطل أو مفهوم نفي مسير الحقّ عن سفر الصيد، يمكن أن يكون بمعنى الكراهة الشديدة، أو المرجوحيّة الشديدة التي يتنزّه عنها المؤمن، أو قد يكون بمعنى لغويّة الغرض الموجود في صيد اللهو، فإنّ مثل هذه المفاهيم ليس بعيداً التعبير عنها بالباطل وعدم الحقّ، فالمراد من الباطل وعدم الحقّ هو نفي السمة الإيجابيّة في هذا السفر أو في هذا الصيد، لا إثبات الصفة السلبيّة أو الحرمة، ولا أقلّ من التردّد.

ثانياً: إنّ ما أفاده الخوئي من أنّ التحريم لم يكن لعنوانيّة صيد اللهو هو الآخر دقيقٌ؛ لأنّ طبيعة التعليلات تفيد ذلك؛ فإذا بنينا على هذا، وفي الوقت عينه بنينا على عدم دلالة كلمتَي:الباطل ونفي مسير الحقّ، على الحرمة، فما هو العنوان الذي يقف خلف الصيد يكون هو في الحقيقة موضوعاً للحكم بالإتمام أو الكراهة الشديدة؟ هذا ما لم يبحثه البروجردي! بمعنى أنّ نفي الدلالة على الحرمة لا ينافي نفي عنوانيّة الصيد، ومن ثم يظلّ القائل بجواز صيد اللهو ملزَماً بتبيين الموضوع الحقيقي الذي تدور الأحكام عليه، فهل كلّ ما ليس بحقّ ولو لم يكن حراماً يكون موضوعاً للكراهة الشديدة أو للإتمام عملاً بعموميّة التعليل أو لا؟

ثالثاً: إنّ ما نفهمه من ضمّ الروايات إلى بعضها هنا هو أنّ ملاك القصر مرتبط بالتخفيف على العبد ورفع المشقّة عنه، لكنّ الشريعة لا تخفّف فيما لو كان السفر ناشئاً من غرضٍ عبثي أو مرجوح، فليس هناك خصوصيّة للصيد، بل إنّما ذكر الصيد هنا منضماً إلى سائر المحرّمات التي لا يسقط معها الإتمام، لجامع فقدان المورد للمبرّر الذي وضعته الشريعة للتخفيف، وهذا يعني أنّ الأسفار اللهويّة غير الصيديّة مشمولة لهذا الحكم إذا صنّفت على أنّها فاقدة للغرض العقلائي السليم، وإنّما هي لمجرّد اللعب واللهو المرجوحَين. وعندما نلاحظ الأيام السابقة فإنّ الأسفار اللهويّة إنّما هي في العادة مثل صيد اللهو، وإلا فلم يكونوا ليعرفوا كثرة الأسفار بهدف الترويح عن النفس كما شاع في العصر الحديث، بل يسافرون للتجارة أو طلب القوت أو للهجرة أو لطلب العلم أو لحجّ أو عمرة أو زيارة أو لزيارة أقارب لهم أو نحو ذلك، لهذا عدّ السفر الذي يكون مرفّهاً يقصد منه مجرّد التسلية أمراً بطريّاً وعبثيّاً، وكأنّ الشريعة تشبه حال شخص قال بأنّني أساعد كلّ من يريد السفر، فيقدّم المالَ للمسافرين القاصدين طلب العلم أو التجارة أو نحو ذلك، ثمّ أتاه شخصٌ يقول له بأنّني أريد أن أسافر للعب واللهو والبطر والبذخ والتسلية بلا مبرر عقلائي أو شرعي ممدوح، ففي مثل هذه الحال يقول له المتبرّع: إنّني وضعت هذا الدعم المالي لكي أخفّف عن الناس، وإعطائي المال لك ليس تخفيفاً بل هو تشجيع على العبثية ونحوها.

ونستنتج من ذلك أنّ صيد اللهو وسفره تعبيرٌ آخر عن مطلق الأعمال اللهويّة غير العقلائيّة، أي تلك التي لا تشتمل على غرض صحيح معقول، بل لتضييع الوقت وممارسة البذخ والرخاء بلا حاجةٍ ولا ضرورة، بل لعلّ هذا هو معنى اللهو في اللغة، فيكون المورد مصداقيّاً، وليس المراد من اللهو مطلق التسلية واللعب بمفهومنا اليوم؛ فإنّ مفهومنا اليوم ـ وبسبب طبيعة الحياة ـ أصبح ذا غرض عقلائي في الكثير من مصاديقه، لا في جميعها.

وبهذا نخلص إلى أنّ اللهو اعتبر باطلاً بهذا الملاك، ونفي عنه وصف الحقّ لهذه النكتة، لا لعنوان الحرمة، كما نخلص ـ في الوقت عينه ـ إلى أنّه لم يكن الصيد بعنوانه متعلقاً للحكم هنا بالحرمة أو بالكراهة، ولا موضوعاً للحكم بالإتمام، بل المتعلّق والموضوع هو عنوان اللهو بالتفسير الذي قلناه له، ولهذا كان اللهو مفهوماً سلبيّاً في اللغة العربية والدينية، وليس مفهوماً إيجابياً ما لم يستتبعه غرض عقلائي فيصبح ممدوحاً وإيجابياً.

رابعاً: إنّ ما ذكره السيد الخوئي في آخر كلامه من خصوصيّة صيد اللهو في أن يكون محرّماً دون مطلق اللهو، على أساس أنّ قتل الحيوان بلا غرض سدّ لباب الانتفاع به من قبل الآخرين، وتبذير وإسراف، قابلٌ للمناقشة أو التعليق من جهات أهمّها:

أ ـ إنّ ذهنية الخوئي بنيت على مركزيّة الإنسان، فلاحَظَ تأثيرات الصيد اللهوي على انتفاع سائر أبناء البشر بهذه الحيوانات، ولم يلاحظ قتل الحيوانات نفسها جزافاً بوصفها كائنات حيّة يجري العدوان عليها بلا غرضٍ صحيح، وهو ما يؤكّد أنّ الذهن الفقهائي لا يبني في العادة على وجود "حقّ الحيوان في الحياة"، وإن كان فيه "حرمة تعذيب الحيوان"، وفرقٌ كبير بينهما. وما أقوله هنا هو توصيفٌ، ولا أقصد حالياً منه النقد.

ب ـ إنّ الصيد اللهوي لا يوجب سدّ باب انتفاع سائر البشر بهذه الحيوانات، وذلك لسببين:

السبب الأوّل: إنّ نسبة المصطادين لهواً في تلك العصور قليلة جداً، وتأثيرها على حيوانات الطبيعة محدود للغاية، فلو كان هذا هو المعيار والملاك ـ و"السبب" كما عبّر الخوئي ـ لما كان مجال لتطبيق العنوان على المورد هنا في تلك العصور، مع أنّ المفروض أنّه جرى التطبيق فعليّاً.

السبب الثاني: إنّ المعروف أنّ الأغلبيّة الساحقة من المصطادين للهو، لا يتركون الحيوانات التي يصطادونها، بل يأكلونها هم أو عيالهم أو خَدَمهم أو غير ذلك، أو على الأقلّ يجعلون بعضها طعاماً لحيواناتهم، فليس هنا تبذيرٌ أو تضييع، كما عبّر الخوئي.

خامساً: إنّ المؤيّد الخارجي الذي ذكره البروجردي غير واضح؛ وذلك أنّ ظاهرة الصيد اللهوي لا يُعرف حجمها بالدقّة في تلك العصور حتى تكون مورد ابتلاء عامّ بحيث لا بدّ من وضوح أمرها للجميع، بل لدينا الكثير من الموارد المشابهة التي لا وضوح فيها، ومع ذلك قالوا بالحرمة فيها مع قلّة الأسئلة والأجوبة حولها، على أنّه يمكن أن يكون الأئمّة قد ربّوا أتباعهم على ترك اللهو عموماً، فصار ابتلاؤهم بمثل الصيد اللهوي أقلّ أيضاً، فدرجة التأييد في هذا المؤيّد ليست قويّة.

والمتحصّل أنّه لم يقم دليل على حرمة الصيد اللهوي بعنوانه، كل ما يستفاد من النصوص هو مرجوحيّته الشديدة وعبثيّته. أمّا هل يجوز قتل الحيوان لغرض التسلية على تقدير عدم أكله أو الانتفاع به؟ فهذا بحثٌ آخر، نتعرّض له في فقه الصيد والذباحة إن شاء الله تعالى، فإنّ قيل بالحرمة اندرج هذا السفر في سفر المعصية وترتّبت عليه أحكامه، وإلا فلا.

وقد تقول: هنا أمور ثلاثة:

1 ـ الروايات المعتبرة في هذه المسألة، الواردة في كتاب الوسائل، لا تتجاوز أربع روايات تقريباً، فهل هذا المقدار يورث الوثوق بالصدور؟

2 ـ هذا القيد يُعَدّ تعديلًا آخر في مسألة قصر الصلاة، ويبدو أنّه يشمل السفر بداعي الفرار من الحكم الشرعي أيضاً. وبما أنّ رأيكم النهائي كان أنّ كلّ سفر لهويّ وخالٍ من الغرض العقلائي مستثنى من تخفيف الشارع، فإنّ السفر بداعي الفرار من الحكم الشرعي يُعَدّ عرفاً من الأسفار بداعي الباطل؛ أي إذا كان غرض الشخص من السفر هو مجرّد الفرار من الصلاة والصوم، فهذا ليس غرضاً عقلائيّاً.

3 ـ إنّ مفهوم الحاجة، وفي مقابلِه الباطل والعبث، مفهومٌ انتزاعي. فمثلًا ـ كما أشرتم ـ أصبحت الأسفار الترفيهيّة في زماننا شائعةً جدّاً، ووسائل الإعلام وأنماط الحياة غيّرت ـ ولو في بعض البلدان ـ ذهنيّات الناس، وأصبح يُطرح السفر كحاجة روحيّة. وأنتم أشرتم فقط إلى تغيّر العرف، لكن يبقى محلّ بحث: ما هو المعيار اليوم الذي يمكن بواسطته التمييز بين السفر اللهوي والعبثي وغيره؟

والجواب: أولاً: إنّ الروايات أكثر من أربعة حتى شيعيّاً، يضاف إليها نصوص أهل السنّة، وبخاصّة أنّها لا يوجد لها معارض لا في الكتاب ولا في السنّة، بل بعضها له أكثر من طريق إلى الراوي الأصلي.

ثانياً: اذا صدق على السفر بداعي الفرار من تطبيق الشرع أنّه سفر غير عقلائي فنحن نوافق على النتيجة هنا حتى لو لم يكن محرّماً، وهذه نكتة تطبيقية ظريفة؛ لأنّ النتيجة التي توصّلنا إليها يمكن أن تشمل مساحة من مصاديق موضوع الفرار من الصوم مثلاً، لكن من الصعب الجزم بعدم عقلائية مطلق الفرار من الصوم أو الصلاة التامّة، حيث في العديد من الموارد يكون السفر عقلائيّاً للاحتياط، كما في يوم الشك أنّه عيد أو لا، وكما فيما لو كان الصوم المتواصل يُتعبه ولو لم يكن حرجياً أو ضرريّاً، وغير ذلك من الموارد العديدة. وعدمُ العقلائية لا يعني عدم الرجحان أو مطلق المرجوحيّة.

ثالثاً: إنّ تطبيق المفاهيم هذه يختلف باختلاف الأعراف والظروف والمناسبات والأحوال، فقد تكون أسفار الترفيه اليوم حاجةً للإنسان بسبب نمط الحياة، وتكون ترفاً وبطراً في الماضي للسبب نفسه، ولا مانع من التغيّر، فالعبرة بتشخيص العرف العقلائي في ظرفه وملابساته مأخوذاً بعين الاعتبار معايير الشريعة أيضاً.

 

2 ـ في الحكم الوضعي في باب القصر

لا شكّ أنّ سفر الصيد اللهوي ـ بالمعنى الذي قلناه للسفر اللهوي ـ موجب للإتمام دون القصر، فكلّ سفر لا يكون له غرض شرعي أو عقلائي، بل يندرج ضمن العبث واللهو موجب للتمام.

وقد لاحظتُ بعد كتابتي هذه التعليقة أنّ السيد السيستاني يحتاط وجوباً بالجمع بين التمام والقصر في مورد السفر الباطل عقلائيّاً ولو لم يكن للصيد، ثم رأيتُ بعد ذلك فتوى السيد محمّد حسين فضل الله الصريحة، والتي قال فيها: «الظاهر عدم كون صيد اللّهو محرّماً، ولكنَّه ملحق بسفر المعصية في الحكم بوجوب الإتمام فيه. هذا، ولا يبعد لحوق الحكم بوجوب الإتمام لكلّ سفر باطل خارج عن المقاصد العقلائية، بحيث يراه العقلاء لهواً باطلاً. وعليه فإنَّ الصيد لقوتِ النفس والعيال أو للتجارة لا يدخل في باب اللّهو، ولا يكون السفر إليه معصية، ويقصر المسافر لأجله في الصلاة ويفطر في الصوم، ويدخل في باب اللّهو إن خلا من الغرض العقلائي ويلحقه حكم سفر المعصية من الإتمام والصيام رغم أنه ليس محرّماً في نفسه» (فقه الشريعة 1: 380).

كما أنّ سفر الصيد اللهوي ـ بتعريف المشهور له ـ موجب للإتمام دون القصر، وهذا واضح من الفتاوى، كما أنّ سفر الصيد للقوت موجب للقصر، ولا نقاش بينهم في ذلك، إنّما وقع الكلام في الصيد التجاري، فهل سفره يوجب الإتمام والصوم أو القصر والإفطار؟

الظاهر أنّه لم يقل أحد بالإتمام والصوم هنا فتوائيّاً ـ وإن احتاط مثل السيد موسى الزنجاني بالجمع بين القصر والتمام ـ وبهذا انحصر النقاش بينهم في قولين نسبا للعديد من الفقهاء:

القول الأوّل: التقصير والإفطار، وهو ما عليه جمهور المتأخّرين، وبهذا يكون سفر الصيد التجاري مندرجاً ضمن أحكام السفر العامّة، حيث لا يندرج ضمن عنوان سفر باطل أو مسير غير حقّ ونحو ذلك، ما لم يصبح ضمن عنوان: "من عمله السفر أو في السفر".

القول الثاني: الإتمام في الصلاة والإفطار في الصوم، وهذا ما ذهب إليه العديد من المتقدّمين، حتى نسب إلى ابن إدريس الحلّي أنّه قال بأنّه روى أصحابنا بأجمعهم أنّه يتمّ الصلاة ويفطر.

المفارقة هنا أنّه لم يتمّ العثور على أيّ رواية تفيد هذا التفصيل بين الصوم والصلاة، وبعض ما حاولوا فهمه من بعض الروايات تمّت مناقشته، ومن هنا قال البروجردي بأنّ هذا دليلٌ على أنّه وصل للمتقدّمين شيء بالتأكيد، إذ هذا التفصيل بين الصلاة والصوم مما لا منشأ عقليّاً له أو نحو ذلك، ولا تفيده قاعدة، ومن هنا قوّى البروجردي القول بهذا التفصيل (البدر الزاهر: 291 ـ 294)، فيما رفض ذلك السيد الماتن في بحوثه (الموسوعة، ج 2، المستند، كتاب الصلاة، ص114 ـ 119)، وقال بأنّه لا دليل عليه، وأنّه لو كان لبان، فبالتأكيد فهموا هذا التفصيل من النصوص المتوفّرة بين أيدينا اليوم، ولمّا لم نفهمه نحن، فلا حجيّة لقولهم علينا.

والحقّ ما ذهب إليه السيد الماتن في بحوثه، بناءً على وحدة الحكم في باب الصلاة والصوم مما سيأتي الحديث عنه في فقه الصوم إن شاء الله، فالصحيح هو أنّ سفر التجارة لما كان خارجاً عن حكم الإتمام اللاحق لسفر الصيد اللهوي، يحكم بالقصر فيه والإفطار كغيره من الأسفار.

بقي هنا مسألتان تعرّض لهما الماتن أعلاه:

المسألة الأولى: إنّ سفر الصيد اللهوي موجبٌ للتمام أو لعدم ثبوت القصر، لكن في طريق العودة يحكم بالقصر لو كان الإياب مسافة.

وقد علّقنا على هذا عند الحديث عن (المسألة رقم: 904)، وقلنا بأنّه لا يبعد تبعيّة الإياب للذهاب عرفاً ولو في بعض الموارد، فراجع.

المسألة الثانية: عدم التفريق في مسألة الصيد اللهوي بين صيد البرّ ـ والذي يشمل عندهم هنا صيد الجوّ كالطيور ـ والبحر.

وهذا هو الصحيح؛ لوحدة النكتة والملاك، وقد تساعده بعض الإطلاقات، رغم أنّ الغالب خارجاً هو صيد البرّ اللهويّ كصيد الطيور والغزلان وغيرها.

([15]) بل الأقوى الإتمام وعدم وجوب القضاء، بصرف النظر عن أصل التفصيل في هذه المسائل، مما سيأتي الحديث عنه في كتاب الصوم إن شاء الله، عند التعليق على (المسائل رقم: 1038 ـ 1039).

([16]) بل الأقوى الصوم، ولا يجب القضاء.