التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة المسافر ـ القسم الخامس)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(25 ـ 9 ـ 2025م)
المقصد الحادي عشر
صلاة المسافر
وفيه فصول:
الفصل الأوّل
[شروط صلاة المسافر]
...
الخامس: أن لا يتخذ السفر عملاً له، كالمكاري، والملاح، والساعي، والراعي، والتاجر الذي يدور في تجارته، وغيرهم ممن عمله السفر إلى المسافة فما زاد، فإنّ هؤلاء يتمّون الصلاة في سفرهم، وإن استعملوه لأنفسهم، كحمل المكاري متاعه أو أهله من مكان إلى آخر، وكما أنّ التاجر الذي يدور في تجارته يتمّ الصلاة، كذلك العامل الذي يدور في عمله كالنجّار الذي يدور في الرساتيق لتعمير النواعير والكرود([1])، والبنّاء الذي يدور في الرساتيق لتعمير الآبار التي يستقى منها للزرع، والحداد الذي يدور في الرساتيق والمزارع لتعمير الماكينات وإصلاحها، والنقّار الذي يدور في القرى لنقر الرحى، وأمثالهم من العمال الذين يدورون في البلاد والقرى والرساتيق للاشتغال والأعمال، مع صدق الدوران في حقّهم، لكون مدّة الإقامة للعمل قليلة، ومثلهم الحطّاب والجلاب الذي يجلب الخضر والفواكه والحبوب ونحوها إلى البلد، فإنّهم يتمّون الصلاة. ويلحق بمن عمله السفر أو يدور في عمله من كان عمله في مكان معيّن يسافر إليه في أكثر أيّامه، كمن كانت إقامته في مكان وتجارته أو طبابته أو تدريسه أو دراسته في مكانٍ آخر. والحاصل أنّ العبرة في لزوم التمام بكون السفر بنفسه عملاً أو كون عمله في السفر، وكان السفر مقدّمةً له([2]).
مسألة 910: إذا اختصّ عمله بالسفر إلى ما دون المسافة قصّر إن اتفق له السفر إلى المسافة، نعم إذا كان عمله السفر إلى مسافة معيّنة كالمكاري من النجف إلى كربلاء، فاتفق له كري دوابه إلى غيرها، فإنّه يتمّ حينئذٍ([3]).
مسألة 911: لا يعتبر في وجوب التمام تكرّر السفر ثلاث مرات، بل يكفي كون السفر عملاً له ولو في المرّة الأولى([4]).
مسألة 912: إذا سافر من عملُه السفر سفراً ليس من عمله، كما إذا سافر المكاري للزيارة أو الحجّ، وجب عليه القصر، ومثله ما إذا انكسرت سيارته أو سفينته فتركها عند من يصلحها ورجع إلى أهله فإنّه يقصّر في سفر الرجوع، وكذا لو غصبت دوابه أو مرضت فتركها ورجع إلى أهله، نعم إذا لم يتهيّأ له المكاراة في رجوعه، فرجع إلى أهله بدوابه أو بسيّارته أو بسفينته خاليةً من دون مكاراة، فإنّه يتمّ في رجوعه، فالتمام يختصّ بالسفر الذي هو عمله، أو متعلّقٌ بعمله([5]).
مسألة 913: إذا اتخذ السفر عملاً له في شهور معيّنة من السنة أو فصلٍ معيّن منها، كالذي يكري دوابه بين مكّة وجدّة في شهور الحج، أو يجلب الخضر في فصل الصيف، جرى عليه الحكم، وأتمّ الصلاة في سفره في المدّة المذكورة، أمّا في غيرها من الشهور فيقصّر في سفره إذا اتفق له السفر([6]).
مسألة 914: الحملداريّة الذين يسافرون إلى مكّة في أيام الحج في كلّ سنة، ويقيمون في بلادهم بقيّة أيّام السنة، يشكل جريان حكم من عمله السفر عليهم، فالأحوط لزوماً لهم الجمع بين القصر والتمام، بل لا يبعد وجوب القصر عليهم، فيما إذا كان زمان سفرهم قليلاً، كما هو الغالب في من يسافر جوّاً في عصرنا الحاضر([7]).
مسألة 915: الظاهر أنّ عمليّة السفر تتوقّف على العزم على المزاولة له مرّةً بعد أخرى، على نحو لا تكون له فترة غير معتادة لمن يتخذ ذلك السفر عملاً له، فسفر بعض كسبة النجف إلى بغداد، أو غيرها، لبيع الأجناس التجارية أو شرائها والرجوع إلى البلد ثمّ السفر ثانياً، وربما يتفق ذلك لهم في الأسبوع مرّةً أو في الشهر مرّةً، كلّ ذلك لا يوجب كون السفر عملاً لهم؛ لأنّ الفترة المذكورة غير معتادة في مثل السفر من النجف إلى كربلاء أو بغداد إذا اتخذ عملاً ومهنة، وتختلف الفترة ـ طولاً وقصراً ـ باختلاف أنحاء السفر من حيث قرب المقصد وبعده، فإنّ الفترة المعتادة في بعيد المقصد أطول منها في قريبه، فالذي يكري سيارته في كلّ شهر مرّة من النجف إلى خراسان، ربما يصدق أنّ عمله السفر، والذي يكري سيارته في كلّ ليلة جمعة من النجف إلى كربلاء، لا يصدق أنّ عمله السفر، فذلك الاختلاف ناشئ من اختلاف أنواع السفر، والمدار العزم على توالي السفر من دون فترة معتدّ بها، ويحصل ذلك فيما إذا كان عازماً على السفر في كلّ يوم والرجوع إلى أهله، أو يحضر يوماً ويسافر يوماً، أو يحضر يومين ويسافر يومين، أو يحضر ثلاثة أيام ويسافر ثلاثة أيّام سفراً واحداً، أو يحضر أربعة أيام ويسافر ثلاثة. وإذا كان يحضر خمسة ويسافر يومين كالخميس والجمعة، فالأحوط له لزوماً الجمع بين القصر والتمام([8]).
مسألة 916: إذا لم يتخذ السفر عملاً وحرفة، ولكن كان له غرض في تكرار السفر بلا فترة، مثل أن يسافر كلّ يوم من البلد للتنزّه أو لعلاج مرض، أو لزيارة إمام، أو نحو ذلك، مما لا يكون فيه السفر عملاً له، ولا مقدّمة لعمله، يجب فيه القصر([9]).
مسألة 917: إذا أقام المكاري في بلده عشرة أيّام، وجب عليه القصر في السفرة الأولى، دون الثانية، فضلاً عن الثالثة، وكذا إذا أقام في غير بلده عشرة مَنْوِيَّة، وأمّا غير المكاري ففي إلحاقه بالمكاري إشكال، وإن كان الأظهر جواز اقتصاره على التمام([10]).
___________________________
([1]) الرساتيق جمع رستاق، وهي الأماكن والقرى والأرياف الزراعية التي تكون فيها الأشجار والمزروعات ونحو ذلك، والكرود جمع كرد، وهي البكرات أو الروافع التي تستخدم لرفع الماء من الآبار أو الأنهار لسقي وريّ المزروعات، والظاهر أنّه منها أطلق على بعض المناطق في العراق اسم الكرّادة، كالكرادة في بغداد. ومثلها النواعير، وهي وسائل قديمة للري أو استخراج الماء، وقد باتت مهجورة اليوم في أكثر البلدان بعد ظهور وسائل الريّ والاستخراج الحديثة.
روايات "جدّ المسير" وتأثيرها على فهم فقه السفر عامّة وحكم من عمله السفر خاصّة
([2]) ما أفاده الماتن في محلّه، ولا نطيل، لكنّ النظر في نصوص من عمله السفر أو في السفر، والجمع بين أطراف هذه النصوص، يعطينا أنّ الملاحظ هنا هو أنّ من عمله السفر أو في السفر يكون السفر بالنسبة إليه غير مجهِد على عكس غيره، ولهذا ورد في بعض النصوص ـ ومنها الصحيح سنداً ـ وأوردها الحرّ العاملي في الباب الثالث عشر من أبواب صلاة المسافر، أنّ المكاري والجمّال إذا جدّ بهما السير فليقصّرا.
وقد أخذ بهذه النصوص وأفتى بمضمونها جماعة مثل السيد العاملي صاحب المدارك والمحدّث البحراني والشيخ حسن صاحب المعالم وغيرهم، وإن تأوّلها الكثير من الفقهاء بتأويلات بعيدة أقرّ السيد الماتن في بحوثه ببُعدها، ثم عاد الماتن ورفض هذه النصوص معلّلاً بأنّه لم يعمل بها أحدٌ من المتقدّمين، وأنّه كان يفترض أن يكون الحكم واضحاً، رغم إقراره بأنّ الروايات "كثيرة"، وأنّ بينها ثلاث روايات صحيحة السند! (المستند في شرح العروة، الموسوعة 20: 158 ـ 162).
ونقدُ الماتن في غير محلّه، فمع إقراره هذا، تكفي هذه الروايات للقول بأنّ أهل البيت بيّنوا المسألة بوضوح، وأمّا عدم عمل الفقهاء المتقدّمين بها، فربما كان لنكتةٍ اجتهاديّة منهم جعلتهم يعدلون عن القول بالتفصيل بين حالة جدّ السير وعدمه.
وعلى أيّة حال، فعندما نجمع هذه النصوص مع سائر النصوص، ثم نلاحظ أصل تصوّرنا في باب القصر والإفطار في السفر، نكتشف أنّ النكتة في الإتمام بالنسبة لهؤلاء هي عبارة عن زوال صفة المشقّة عن سفرهم؛ لأنّهم معتادون على ذلك، بخلاف غيرهم، ومعنى أن يَجِدَّ به السير، هو أن يطوي مسافات أكبر دون استراحة، مما يجعل سفره شاقّاً على غير المتعارف في أسفاره.
ومن خلال هذه القرائن المجتمعة، نكتشف أنّه لا خصوصيّة لمن عمله السفر، ولا لمن عمله في السفر، بل كلّ شخص زالت صفة المشقّة عن سفره، بحيث صار سفره وعدمه متقاربان في الجهد والمشقّة، فإنّه يسقط القصر في مورده وعليه التمام.
ومن هنا يصحّ ما ذهب إليه غير واحدٍ من الفقهاء من شمول الحكم لكثير السفر، لا من حيث عنوانيّة كثير السفر عندنا على خلافهم، بل من حيث طريقيّة هذا العنوان ـ كعنوان من عمله السفر، ومن عمله في السفر ـ لزوال المشقّة النوعية عنهم، وصيرورة حركة السفر بالنسبة إليهم سهلة يسيرة معتادة، فإنّ على هؤلاء أن يتمّوا في هذه الحال؛ لزوال النكتة الملاكيّة التي تحدّثنا عنها سابقاً.
وينتج عمّا نقول تضييقٌ وتوسعة:
أ ـ أمّا التضييق، فإنّ كثير السفر أو من عمله في السفر أو من عمله السفر، لا يجري في حقّهم حكم التمام إذا طرأ على سفرهم حالة تجعل سفرهم شاقاً نوعاً حتى بالنسبة إليهم، كمشقّة كليّ السفر بالنسبة لغيرهم، فلو اعتاد كثيرُ السفرِ على السفر بالطائرة في الدرجة الأولى، وأراد السفر ماشياً مثلاً لمرّة أو مرّتين، وهو غير معتاد على المشي، حكم بالقصر في مورده، لعود المشقّة النوعية في هذا المورد، فهذا منسجم مع نكتة روايات التقصير حيث يجدّ المسير، ومنسجم أيضاً مع الأدلّة العامّة لملاكيّة المشقّة التي تحدّثنا عنها سابقاً.
ب ـ وأمّا التوسعة، فالخروج من عنوانيّة من عمله السفر، إلى كلّ مِن: مَن عمله في السفر، ومن هو كثير السفر ولو لم يكن السفر عملاً له، إذا اشترك الثلاثة في خاصية تحوّل السفر بالنسبة إليهم إلى أمر عادي لا إضافة نوعيّة فيه على صعيد المشقّة.
وهذا التصوّر قد يقلب الكثير من الأمور في فقه السفر، ويجعل المكلّف مضطراً لوعي طبيعة سفره هذا وعياً نوعيّاً.
ولا بأس بالإشارة هنا إلى أمرٍ قد يلتبس على بعضهم، وهو أنّه لا يقتصر مفهوم العمل السفري على كون العمل مقابل مال، فقد يعمل في مؤسّسة مجاناً ويذهب كلّ يوم إلى تلك المؤسّسة التي تبعد عنه مسافة شرعيّة، فهنا يصدق أنّ عمله في السفر رغم أنّ هذا العمل ليس هو مصدر رزقه وعيشه.
مداخلات وإشكالات على ما توصّلنا إليه في حكم من عمله السفر و.. عرض وجواب
وقد يناقَش ما توصّلنا إليه، من أنّ «كلّ شخص زالت صفة المشقّة عن سفره، بحيث صار سفره وعدمه متقارِبَين في الجهد والمشقّة، فإنّه يسقط القصر في مورده، وعليه التمام»؛ وذلك أنّ المقصود بذلك هو زوال المشقّة النوعية عن هذا الشخص، وهذا قابل للنقاش؛ وذلك:
أ ـ زوال المشقّة النوعيّة عن الشخص أمرٌ متهافِت في نفسه، إذ عند القول بالمشقّة النوعيّة يكون المعيار هو نوع الأفراد لا الشخص نفسه، فلا معنى لزوال المشقّة النوعيّة عن شخصٍ بعينه، بل اللازم أن يُقال: زوال المشقّة النوعيّة يعني أنّ نوع الأفراد لا تصيبهم المشقّة. وأمّا إذا قيل: زوال المشقّة عن الشخص، فهذا جعلٌ للمشقّة الشخصيّة معياراً!
ب ـ هذا الإشكال قد يكون ناشئاً من أنّ ظاهر الروايات قوّةُ الظهور في المشقّة الشخصيّة، وحملُها على المشقّة النوعيّة يحتاج إلى مؤونة زائدة، فإنّ متن الروايات مثل: «المكاري والجمال إذا جدّ عليهما السير» ظاهرٌ في المشقّة الشخصيّة، وحملُه على المشقّة النوعيّة خلافُ الظاهر.
ج ـ ما هو المراد من المشقّة النوعيّة عندكم؟ أهو نوعُ كثيري السفر، أم نوعُ عامّة الناس؟ فإنّ ظاهر كلامكم أنّ المشقّة التي تحصل لنوع الأفراد العاديّين إذا تحقّقت بالنسبة إلى المكاري أيضاً كان ذلك هو المعيار، وهذا ـ مرّة أخرى ـ ظاهرٌ في كون الملاك هو المشقّة الشخصيّة دون النوعيّة؛ لأنّكم جعلتم تحقّق المشقّة بمقياس الشخص هو الضابط.
والجواب: أوّلاً: إنّ المقصود هو كون هذا الشخص مصداقاً للمشقّة النوعيّة وجوداً أو عدماً، ولو لم تكن مشقةٌ شخصيّة عليه.
ثانياً: النصوص وردت في عناوين المكاري والجمال وغيرهم، وليس في عنوان "أنت أو "هو" أو "هذا" أو "ذاك"، وهذا ظاهر في النوع لا في الشخص، بل لو كان المراد المشقّة الشخصية لما صحّ للإمام إطلاق الحكم، بل عليه إحالة الحكم للفرد نفسه، فلعلّ شخصاً قويّ البنية حتى لو جدّ به السير لا يتعب إطلاقاً، ولا يضيف ذلك إليه شيئاً.
ثالثاً: المراد هو أنّ من جدّ به السير هل يحصل لديه ـ بوصفه نوعاً لا فرداً ـ مشقّة إضافيّة تشبه نوع المشقة التي تحصل للناس الآخرين غير المكاري وأمثاله في أسفارهم العادية أو لا؟ وهذا ليس عوداً إلى المشقّة الشخصيّة إطلاقاً، كما هو واضح.
رابعاً: قد أشرنا لروايات جدّ المسير عندما تعرّضنا لبعض الروايات التعليليّة في معيار حكم القصر في السفر، مثل صحيحة عبد الله بن سنان، لكنّنا لم نبحثها تفصيلاً هناك، اعتماداً على ذكرها هنا، فراجع.
وقد تسأل: هل زوال المشقّة النوعيّة في السفر العادي عن الشخص يجب أن يكون بسبب السفر فقط؟ بمعنى أنّه إذا زالت المشقّة النوعيّة عن الشخص لأسباب أخرى، مثل أنّه سائق سيارة داخل المدينة، فهل يندرج تحت الحكم أو لا؟
ويجاب: إنّ زوال المشقّة لكونه سائقاً داخل المدينة لا أثر له؛ لأنّ المفروض أنّ قيادته داخل المدينة لا يصدق عليها سفرٌ أصلاً.
وقد تسأل مرّةً أخرى وتعمّق الإشكالَ فتقول: إنّ المقصود أنّه قد یکون الشخصُ سائقاً داخلَ المدینة، ولکن من حیثُ إنّ عمله قائمٌ على استعمال السیارة والتردّد في الأسفار الداخلیّة، تحصل له نفسُ الملکة التي تحصل للسائق المختصّ بالسفر بين المدن، وهي الملکة الموجبة لزوال مشقّة السفر عنه، فهل العبرة بتلك الملكة التي تترتّب على مِهنَة الشخص وعمله أم ماذا؟
والجواب: إنّ ما يترجّح بالنظر هنا أنّه إذا كان الأمر نوعيّاً بحيث إنّه لم يعد السفر يحمل عنوان المشقّة نوعاً بالنسبة إلى مثله، فإنّ حكمه هو الإتمام. وليس ذلك من باب القياس، بل من باب النكتة التعليليّة التي تحدّثنا عنها سابقاً عند التعرّض لمعيار القصر والإفطار، والاحتياط حسنٌ.
([3]) لكن ينبغي استثناء حالتين هنا، أشار لهما بعض الفقهاء، منهم الماتن في بحوثه الاستدلاليّة، وهما:
أ ـ أن يكون سائق التاكسي مثلاً ممن اعتاد على العمل ضمن المدينة التي يعيش فيها، بحيث لا يصدق عليه السفر العرفي ولا السفر الشرعي، فاتفق له سفر إلى خارجها نادراً، ففي مثل هذه الحال يلزمه التقصير؛ لأنّه لا يصدق عليه أيّ من العناوين التي توجب الإتمام، لا تلك التي ذكروها، ولا المعيار الذي ذكرناه.
ب ـ أن يكون سائق التاكسي مثلاً ممن عمله يصدق عليه السفر العرفي دون السفر الشرعي، فيعمل خارج المدينة التي يعيش فيها، لكنّه لا يصدق عليه السفر الشرعي وإن صدق السفر العرفي، وهنا مال بعض الفقهاء ـ كصاحب العروة ـ إلى الحكم بالتمام في حقّه؛ والأقرب ما أفاده الماتن في بحوثه، من أنّ حكمه القصر؛ لأنّ نظر النصوص جميعها إلى السفر الشرعي الذي تدور الأحكام مداره، ومع عدم صدقه فلا يكون هذا ممن عمله السفر ونحو ذلك. وعلى الأقلّ لا يحرز نظرها لمطلق السفر العرفي حتى نقول بأنّ عنوان من عمله السفر يشمل من عمله السفر العرفي أو الشرعي أو كليهما معاً.
في معيار لحظة بداية ترتب حكم الإتمام على من عمله السفر ونحوه (المرّة الأولى أو الثالثة أو غيرهما)
([4]) بمعنى أن يصدق عرفاً عليه أنّ عمله السفر، كما ذكره العديد من المتأخّرين، خلافاً لما احتمله الشهيد الثاني من لزوم التكرار ثلاث مرات.
وهذا على مباني الفقهاء قد يكون في محلّه من أنّ الصدق العرفي هو المدار، كما هي الحال في غير هذا المورد، إلا أنّ الكلام في المدار على وفق ما توصّلنا نحن إليه، فإنّ المرّة الأولى تكون كغيرها من الأسفار في صدق عنوانيّة المشقّة النوعيّة، فإذا أخذنا كلية المشقّة النوعية التي بنينا عليها بالقرائن والأدلّة السابقة، وأضفنا خصوصيّة جدّ المسير والتفصيل الذي بيّنته الروايات فيمن جدّ به السير، أمكننا التشكيك ـ على وفق القاعدة ـ في كفاية المرّة الواحدة ولو صدق عليه عرفاً عنوان المكاري؛ لأنّ العبرة ليست بعنوان المكاري وأمثاله، بل بعنوان كثرة السفر الموجبة لانقلاب حاله من المشقّة إلى الاعتياد، بل يلزم أن يتكرّر منه السفر حتى يصدق أنّه لم يعد السفر شاقّاً بالنسبة إليه، بل ربما يناقش بأنّ عنوان المكاري والجمّال وغيرهم، لا يعلم صدقه على من بدأ هذا العمل لأوّل مرّة، فإنّه يقال بدأ بعمل المكاراة، لكنّه قد لا يصدق عليه عنوان المكاري؛ إذ هذه العناوين تعتبر في الدلالة اللغويّة العرفية عناوين مِهَن أو حِرَف أو صنائع، كالنجّار والحدّاد والبنّاء، لا تطلق على من عمل في البناء مرّةً واحدة إلا بنحو الإطلاق الحرفي أو التدقيق الفلسفي، لهذا فلا يبعد عدم ثبوت الإتمام في مورد من عمله السفر وأمثاله حتى صدق عنوان المهنة عليه عرفاً (على مباني القوم)، أو صدق أنّ السفر بالنسبة إليه صار كغيره (على مبانينا).
سفر من عمله السفر سفراً خارجاً عن عمله
([5]) والمستند في ذلك أنّ الظاهر من النصوص أنّها عندما تعبّر بأنّ المكاري يتمّ في سفره، فليس قصدها أنّ المكاري جميع أسفاره يتمّ فيها، بل المقصود أنّ المكاري في عمله هذا لا يتمّ.
وهذا على مباني القوم ـ من عنوانية الوظيفة والحرفة ـ صحيح، أمّا على ما فهمناه فإنّ سفر المكاري لغير عمله لا فرق بينه وبين سفره لعمله، من حيث عنوانية زوال المشقّة النوعيّة، فينبغي الحكم بالتمام مطلقاً، بل حتى بالنسبة إلى الفقهاء الذي أدخلوا عنوان كثير السفر هنا، يلزمهم القول بالتمام في سفره هذا؛ إذ لم يعد لسفر العمل موضوعيّة لديهم، كما هو الصحيح.
حكم اتخاذ السفر في فصول معيّنة خاصّة من السنة
([6]) هنا نتائج مختلفة المباني؛ وذلك:
أ ـ أمّا على معياريّة من عمله السفر أو في السفر أو سفره للعمل، فما ذهب إليه الماتن هو الصحيح، إلا إذا كان هذا السفر خارج فصل الصيف مثلاً هو سفر عمل أيضاً، فينبغي للماتن على قواعده أن يفتي بأنّ النصوص تشمله، فعليه الإتمام، إذ يصدق عليه عنوان المكاري وأنّ عمله في السفر، والنصوص مطلقة، والسفر هو لعمله.
ب ـ وأمّا على مبنى كثير السفر، بوصفه العنوان الأوسع، فالصحيح هو أنّه يلزمه القصر؛ لأنّ سفره خارج موسم العمل، لا يصدق عليه فيه أنّه كثير السفر، بل يقال هو كثير السفر في الصيف، قليل السفر في الشتاء، أو يلزم حساب مجموع السفر في السنة وما يقول العرف في حقّه عموماً.
ج ـ وأمّا على ما بنينا عليه من أخذ معيارية المشقّة نكتةً ملاكية ذات دور، فإنّه ينظر في أنّ سفره خارج موسم عمله إذا لم يكن أيّ فرق بينه وبين سفره في موسم عمله من حيث المشقّة نوعاً على مثله، لزمه الإتمام، وإلا فيُفترض ـ نظريّاً ـ أن يقصّر، وإن كنتُ أتوقّف في ذلك، فالأحوط وجوباً هو الجمع بين التقصير والإتمام بالنسبة إليه.
مدّة السفر بين الطول والقصر سنويّاً (حملات الحجّ والزيارة مثالاً)
([7]) فصّل السيد الماتن في الحملداريّة ـ وهم الذين يخرجون مع حملات الحجّ لمساعدة الناس في أعمالهم وتوجيههم (المعرّفون والمرشدون) ـ بين مدّة السفر، فإذا كانت مدّة السفر في السنة طويلةً، كما هي الحال في الأزمنة السابقة، حيث يأتون من أقاصي البلدان، وقد تمتدّ مدّة السفر ذهاباً وإياباً إلى أشهر عدّة، فهنا احتاطا لزوماً بالجمع بين القصر والتمام، أمّا في مدّة السفر القصيرة مثل عصرنا الحاضر للمسافرين بالطائرة ـ أو حتى بالباصات والقطارات من مثل مناطق الشرق الأوسط ـ فقد حكم بالقصر عليهم.
والسبب في ذلك هو الصدق العرفي لعنوان "عمله السفر"، ففي المدّة القصيرة بحيث يكون سفره كلّه لا يتجاوز في السنة العشرة أيّام أو العشرين يوماً، لا يصدق عليه أنّ السفر هو عمل له، أمّا المدّة الطويلة فقد يصدق، ومع الشكّ بنحو الشبهة الحكميّة فالأقرب التمام، لكنّه احتاط في بحوثه الاستدلاليّة.
والموقف في هذه المسألة ليس سوى مصداق من مصاديق الموقف في (المسألة رقم: 915)، مما سيأتي الحديث عنه، فلا نكرّر.
تحليل مفهوم "من عمله السفر.." ومعايير تحقّقه
([8]) البحث في هذه المسألة يقع وفقاً للمباني الثلاثة هنا:
1 ـ أمّا المبنى الأوّل، وهو عنوانيّة وموضوعيّة من عمله السفر أو من عمله في السفر أو سفره للعمل، كما اختاره الماتن، فيمكن القول بأنّ السيد الماتن عمد هنا إلى توضيح مفهوم "عمله السفر"، وأنّه يلزمه المزاولة على هذا العمل، بل هو يشير للعزم على المزاولة، ولعلّ الأفضل أن يترك ذلك إلى العرف في التشخيص المصداقي، والمهم هنا هو تحديد مسألة ضروريّة، وهي هل المطلوب في "من عمله السفر" هو الصدق المطلق أو الصدق النسبي أو مطلق الصدق؟
أ ـ فإذا قصد الصدق المطلق، فهذا معناه أنّه يلزم أن يصدق عليه في كلّ يوم من أيّام السنة أنّ عمله السفر، فلو سافر مرّة في الأسبوع، فهذا لا يصدق عليه أنّ عمله السفر في بقية الأيّام، بخلاف ما لو سافر ستة أيام فإنّ العرف يرى أنّ عمله السفر مطلقاً، ولو بالنظرة التسامحيّة العرفيّة دون الدقيّة.
ب ـ وأمّا إذا قصد الصدق النسبي، فهذا يصدق عليه أنّ عمله السفر يوم الجمعة، ولا يصدق عليه أنّ عمله السفر يوم الأحد.
ج ـ وإن قصد مطلق الصدق، فهذا يصدق عليه أنّ عمله السفر في الجملة وهو كافٍ.
وعليه، فما هو الشيء الملاحَظ في النصوص هنا حتى يتمّ اتّباعه؟
الظاهر من النصوص إطلاق عناوين الجمّال والمكاري والاشتقان وغيرهم، فنوكل الأمر للعرف، فإذا كان الجمال يسافر مرّةً في الشهر لمدّة ثلاثة أيام وكان هذا هو عمله، أو أحد أعماله ـ كما في العصر الحاضر حيث أصبح للإنسان أكثر من عمل ووظيفة معاً في بعض الحالات وفاءً للضغوطات الاقتصاديّة والإكراهات المعيشيّة ـ فلماذا لا يصدق عليه أنّه جمّال، تماماً كمن يعمل في وظيفته صباحاً، ولكنّه في بعض أيام الأسبوع يعمل بعد الظهر سائقاً (أوبر)، فهذا يصدق أنّه عملٌ له، ولو كان في أوقات محدودة ويقال بأنّ له عملين، والسؤال: كيف يفهم العرف هذه القضيّة؟ وما هي المعايير التي يضعها في تطبيق العناوين؟
الذي يبدو أنّ العرف قد تتغيّر نظرته تبعاً للمتغيّرات الاقتصاديّة وغيرها أيضاً، ففي الزمن القديم ربما لم يكن متعارفاً أن يكون لدى الإنسان أكثر من عمل وشغل ووظيفة، لهذا فإنّ الإنسان لديه عمل، وإذا عمل شيئاً آخر في بعض فترات السنة، فلا يُطلق عليه أنّ هذا العمل هو عملٌ له، بل سينسبونه للعمل الأصلي، لكن الوضع اختلف اليوم، فكثير من الناس يعملون في أكثر من وظيفة، فيصدق عليهم أنّ له عملين، وقد يعمل في وظيفة ليومين في الأسبوع، وفي الوظيفة الثانية لخمسة أو أربعة أيام، ويرتاح يوماً، فيصدق أنّه يسافر في اليومين لعمله، ومن ثم فما أفاده الماتن هنا تشخيصٌ مصداقي، والمهم في الصدق العرفي أن يطلق على هذا الشخص عنوان سائق تاكسي مثلاً أو ناقل بضائع، ومن الواضح أنّ هذه الصفة لا تلحقه لو كان يقوم بذلك أيّاماً قليلة جداً في السنة مثلاً، لكنّها تلحقه لو كانت وظيفته مرةً في الأسبوع متكرّرة كلّ أسبوع، وربما لديه وظيفة أخرى في سائر أيام الأسبوع، فلماذا لا يصدق عليه عرفاً أنّ عمله في السفر ما دام هذا العمل هو الذي يسدّ به عيشه مثلاً، وإذا سئل: «ماذا تعمل؟» فإنّه يقول بأنّني أعمل موظفاً في البنك الفلاني، وناقلاً للبضائع في الشركة الفلانية، غايته أنّ الشركة التي يعمل فيها تقوم بتوزيع أيام النقل على العاملين عندها، ربما لأسباب أمنيّة أو لضمان سلامة النقل مثلاً، وهكذا.
والنتيجة: إنّ الأصح في التعامل مع هذا الموضوع هو إحالة التشخيص للصدق العرفي الذي قد يتغيّر بفعل بعض العوامل الطارئة، كتعدّد الأعمال والمهن للشخص الواحد، فما أفاده في المتن ليس مرجعاً حصريّاً لفهم العرف، بل يختلف الأمر ويتخلّف. واللافت أنّ بعض الفقهاء ـ كالسيد السيستاني ـ فصّل هنا بين الثلاثة أشهر للحملداريّة والأقلّ من ذلك، مع أنّه لا عين ولا أثر لذلك في النصوص، وإنّما هو تشخيص موضوع ينبغي تركه للعرف. وقد بالغ بعض الفقهاء في التدخّل في تشخيص العرف هنا، فصاغوا الكثير من الفتاوى في مسألة الوطن، ومكان الإقامة والاستقرار للدرس والعمل، وكذلك كثير السفر أو من شغله السفر، بطريقة تدخلوا فيها في التحديد المصداقي، وكان ينبغي إحالة الأمر إلى المكلّفين أنفسهم ليراجعوا العرف.
تحليلٌ إضافي نقدي لشرط "العزم على مزاولة العمل"
هذا كلّه، مضافاً إلى أنّ شرط العزم على المزاولة يحتمل معنيين:
المعنى الأوّل: إنّه يلزم قصد المزاولة دائماً ومطلقاً، وهذا ما لا نفهمه، فلو كان متردّداً في مواصلة العمل بهذه الوظيفة، التي يصدق مع العزم أنّها عمله وأنّ عمله في السفر، لكنّه حتى الآن لم يقرّر التخلّي عنها، واستمرّ على هذا الوضع لأشهر أو لسنوات، فلماذا لا يصدق عليه أنّ عمله السفر؟!
المعنى الثاني: أن يُقصد من شرط العزم على المزاولة ذاك العزم الذي يكون في البداية ـ أي بداية الشروع في العمل وتحقيق السفر الأوّل ـ وهذا لا بأس به؛ لقوّة احتمال عدم صدق العنوان من دونه.
2 ـ وأمّا المبنى الثاني، وهو عنوانيّة وموضوعيّة "كثير السفر"، لا من عمله السفر ولا من عمله في السفر، فهنا يختلف الأمر، ويلزم رصد عدد الأسفار التي يقضيها بحيث يرجع للعرف في صدق كونه كثير السفر أو لا، سواء صدق عليه عنوان المكاري أو لا؛ لأنّ العبرة ليست بصدق هذا العنوان، بل بصدق عنوان كثير السفر، والمسألة هنا أيضاً عرفيّة، ولا ترجع لتشخيص الفقيه كما صار واضحاً.
3 ـ وأمّا على المبنى الثالث، وهو ما اخترناه من عنوانيّة وموضوعية "السفر المتعدّد الموجب لانقلاب حاله من المشقة السفريّة إلى الاعتياد"، فهنا أيضاً يُرجع للعرف في تحديد الصدق الخارجي، وقد تختلف النتائج عن المبنيين الأوّلين، ومع الشكّ يبقى على حكم القصر ومطلقاته، حتى يتمّ إحراز أنّ سفره من اليوم أصبح سفراً كثيراً تنقلب الحال فيه ـ نوعاً ـ من المشقّة إلى الاعتياد.
([9]) قد أصبح واضحاً ممّا تقدّم أنّ كثير السفر حكمه حكم من عمله السفر، وفقاً للبيان الذي قلناه، وعلى طبق الشروط والمحدِّدات التي ذكرناها آنفاً، وعليه فلا نوافق الماتن فيما ذهب إليه هنا.
حكم إقامة من عمله السفر.. عشرة أيّام
([10]) المستند في قاطعيّة حكم من عمله السفر بالإقامة عشرة أيام في بلده أو في بلدٍ آخر، هو ثلاث روايات يحتمل كونها رواية واحدة لعبد الله بن سنان، وهذه الأسانيد الثلاثة ضعيفة من غير وجهٍ، باستثناء ما نقله الصدوق بطريقه الصحيح في المشيخة إلى عبد الله بن سنان، ولكنّ الصيغة التي نقلها عنه فيها نحو اضطراب، مضافاً إلى تعارض الصيغ الثلاث مع بعضها، والخبر ـ بعد ذلك ـ آحاديّ، لهذا لا نميل لهذا التفصيل، بل نبقى على مقتضى القاعدة العرفيّة العامّة.
وأمّا تفصيل السيد الماتن بين المكاري وغيره هنا؛ فلكون رواية ابن سنان واردة في المكاري، فاعتبرها خاصّة به تعبّداً، والتعدية تحتاج إلى دليل (المستند، الموسوعة 20: 177 ـ 179).
إلا أنّ الأقرب بالنظر ـ لو وافقنا على الأخذ بخبر عبد الله بن سنان ـ أنّه لا خصوصيّة للمكاري هنا، والعرف لا يفهم خصوصيّات من هذا النوع بعد نظره في النصوص برمّتها، وبخاصّة أنّ إحدى صيغ هذه الرواية اشتمل على أنّ الحديث عن المكاري إنّما جاء في سياق سؤال السائل، لا في استئناف الإمام حكماً خاصّاً في المكاري، فالصحيح ـ وفاقاً للمشهور ـ هو التعميم.